آلان جريش، صحفي فرنسي ومفكر كبير. كان رئيس تحرير لوموند ديبلوماتيك، والآن تقلد منصباً إدارياً في الصحيفة التي تعد إحدي أكبر الصحف العالمية التي تهتم بالسياسات الدولية. مرتبط بشدة بالمشهد المصري، فهو وإن كان ولد من أب وأم فرنسيين، إلا أن مصرياً هو من تبناه في صغره وعاش معه في القاهرة أيام طفولته ولمدة 14 عاماً استطاع من خلالها الاقتراب من الشعب المصري. لذلك كانت ندوته التي أقامها المركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة تحمل رؤي غربية بنكهة مصرية للأحداث التي شهدتها مصر في الفترة الأخيرة. لا شك أن الربيع العربي حظي باهتمام غربي واسع، لكن هذا الإعلام تغيرت نبرته بتغير الأحداث حيث تحول التوصيف في بعض وسائل الإعلام من ربيع عربي إلي شتاء إسلامي، بعد تصاعد نفوذ قوي الإسلام السياسي في المنطقة. واعتبر جريش أن الأمر الأكثر إثارة للاهتمام في الربيع العربي هو أنه حقق الوحدة العربية بشكل عملي رغم أن هذا الاتحاد بين الدول الناطقة بلغة واحدة غير موجود بأي شكل من الأشكال علي المستوي السياسي، لكن الشعوب حققته عمليا. ولا يمكن القول أن هناك دولة عربية لم تتأثر بموجة الربيع العربي، مع اختلاف قوة هذه الموجة في كل دولة، ومستوي نجاح النظم في التعامل معها أو التصدي لها. حتي دول الخليج تأثرت، والنظام السعودي نفسه، قام بعد سقوط نظامي بن علي ومبارك بصرف 10 مليارات دولار في صورة إصلاحات اجتماعية وزيادات في المرتبات، في استجابة استباقية لأي احتجاجات قد تحدث في المملكة. من الممكن القول أن بوعزيزي ذلك الشاب المتعلم الذي كان يعمل كبائع جائل وتعرض لمضايقات من الشرطة يمثل نموذجا مثاليا للثورات العربية، ففي كل الدول نجد هذه المشكلة في ارتفاع نسب البطالة مع تنامي بطش السلطات الأمنية. وكما قلنا الموجات الثورية اختلفت من دولة لأخري، في مصر وتونس والبحرين واليمن كانت الحركة الثورية حركة سلمية، وفي مصر وتونس تم التخلص من الحكام الطغاة في وقت قصير للغاية، في حين أنه في ليبيا تطلب الأمر تدخلا عسكريا دوليا. هذا التدخل أدي الغرض، لكنه تسبب في مشكلات أخري. في الماضي كانت الثورات أو الانقلابات أو التحولات السياسية تتزامن مع أفكار وبرامج سياسية. في عهد عبدالناصر ارتبطت حركة الجيش في 1952 بالحركة القومية العربية، أما الآن فلا يوجد فكر سياسي موحد. ويقول جريش "أذهلني للغاية عدم تقديم أي حزب أو حركة سياسية أي أفكار للمستقبل أو أي طرح للعبور من الأزمات والمشكلات التي تعيشها المجتمعات العربية. كلها شعارات جوفاء ليس لها مكان علي الأرض. وهذا الأمر تتساوي فيه مصر وتونس لذلك لم يكن هناك أي فرصة سوي لأحزاب التيار الديني. والآن في مصر، حتي القوي الموجودة وهي الجيش لا تقدم أي برنامج، البرنامج الوحيد الذي يصل للناس هو خطاب الحرب علي الإرهاب وهو ليس كافياً. الإسلاميون أيضاً لم يقدموا برنامجا في مصر، قدموا شعار "الإسلام هو الحل" وهو خطأ كبير، لذلك خسروا شعبيتهم، وهو ما أدي لوقوع ما حدث في 30 يونيو. ومع ذلك يري ألان جريش أنه رغم فشل الإخوان إلا أنه كان من الممكن إيجاد حل آخر بعيدا عن الإضرار بالمسار الديمقراطي، خصوصاً أن الفرصة كانت موجودة، فالإخوان دخلوا في عداء مع كل الناس، مع الجيش والإعلام والقضاء والشرطة والثوار.. وبالتالي لم يكن بمقدورهم فعل أي شيء، وكان من الممكن الضغط لعمل انتخابات مبكرة، أو إيجاد حل آخر بعيداً عن عزل مرسي الذي كان من الممكن أن يرحل بانتخابات أخري. ما حدث في تونس يشبه ما حدث في مصر لكن هناك فروقا أساسية بين البلدين، أولها الاختلاف بين حزب النهضة والإخوان في مصر. الإخوان تعودت علي الانغلاق والعمل السري، وكانت ترفض الدخول في تحالفات واندماجات مع قوي أخري. في حين أن النهضة في تونس تكونت في الأصل في أوروبا ولها نقاط تواصل مع القوي السياسية الأوروبية، والنظم الديمقراطية. في تونس، لم يرد حزب النهضة الدخول في صدام مع القوي الأخري. فقرر الدخول في تحالفات واتفاقيات. البعض يقول إن النهضة استفاد من التجربة المصرية وأراد أن يتفاداها. لكن جريش أكد أنه التقي الرئيس التونسي الغنوشي وقال له "نحن لم نستفد من التجربة المصرية ولكننا قرأنا التجربة الجزائرية. فهمنا جيداً أننا حتي لو حصلنا علي السلطة بأغلبية ساحقة وواجهنا وحدنا الجيش والقضاء والإعلام، فالنتيجة الطبيعية كارثية. لذلك قررنا أن نتراجع خطوة حتي لو خسرنا. لكننا موجودون في إطار المسار الديمقراطي الذي يعطي الفرصة للجميع" أما عن القوي المضادة للثورة. فسوريا دولة انحرفت تماماً عن المسار المأمول، وصارت ملتقي لصراعات إقليمية، وتحولت إلي حرب بين السنة والشيعة. ويري ألان جريش أن نظام الأسد كان الأكثر حظاً، فالثوار وقعوا في فخ التسليح وتحولت إلي حرب أهلية ساهم في تأجيجها قوي خارجية. والمشكلة أن بعض القوي كتركياوقطر دعمت القوي المتطرفة، في حين كانت تري السعودية مثلاً ضرورة دعم الجيش الحر. ربما رأت تركياوقطر أنه من الضروري التخلص من نظام الأسد في أسرع وقت، لكن الحسابات كانت خاطئة. وتحدث ألان جريش عن تركياوقطر تحديداً، وقال إن قطر أرادت أن تستغل قناة الجزيرة باعتبارها صاحبة التجربة الأولي في فتح الباب لكل القوي السياسية للحديث سواء من اليسار أو اليمين أو القوي الإسلامية. لكن الآن الجزيرة فقدت هذا الدور وأصبحت المتحدث الرسمي للإخوان المسلمين، وبالتالي لم يعد لقطر دور حقيقي، وحتي في سوريا تراجعت قطر تماماً. أما تركيا فلأنها كانت نموذجا لتعايش الإسلام السياسي مع الديمقراطية الغربية فكان لها تأثير وكانت القوي الإسلامية ترغب في التقرب منها، لكن أيضاً هذا الدور تراجع، وهذا النموذج اهتز مع الظروف الإقليمية والحرب الأهلية السورية.