قبل أن تشرق الشمس على قرية كفر السنابسة، التابعة لمركز منوف، بمحافظة المنوفية، يكون المئات من شبابها قد غادروها بحثًا عن لقمة العيش الحلال، ففى السادسة صباحًا يخرج نحو 2000 عامل، معظمهم من الفتيات والغلمان، ليستقلوا ميكروباصات تقودهم إلى الجبل، حيث مزارع العنب ومحطات التعبئة فى مركز بدر تنتظر سواعدهم التى لا تعرف الترف، بل تلين بعزمها قسوةً دفعهم إليها واقع لا يرحم. يقول عبدالعزيز علام، أحد أبناء القرية، إن الظروف الاقتصادية السيئة هى ما يخرج هؤلاء الشباب الصغار يوميًا من بيوتهم إلى مشقة لا ترحم: «الناس هنا بتشتغل عشان تعيش، مفيش بديل، لا بنات ولا صبيان بيفكروا قبل ما يطلعوا، الغلب بيطردهم». تبدو كفر السنابسة قرية مصرية نموذجية من حيث المظهر، لكنها تفتقر إلى مقومات الحد الأدنى من الحياة الكريمة، الفلاحة هى النشاط الرئيسى لسكانها، تليها تجارة محدودة يديرها سكان القرية من غرف صغيرة اقتطعوها من منازلهم، يبيعون فيها كل ما يمكن أن يُدر جنيهًا، من مواد غذائية إلى قطع غيار الموتوسيكلات والهواتف. وفى خلفية المشهد، تنتشر ورش النجارة فى أرجاء القرية، حيث رصدت «المصرى اليوم» خمس ورش لصناعة الأثاث الخشبى خلال جولتها، تُشكّل مع بقية الأنشطة مورد الرزق الوحيد بعد الزراعة، ولكنها لا تكفى لتوفير الحد الأدنى من احتياجات العائلات، ما يفسر سعى الجميع، بلا استثناء، إلى أى فرصة عمل خارج أسوار البلدة. تقول الشهادات المحلية إن الفتيات يعملن لتجهيز أنفسهن للزواج أو لتوفير ما يعين عائلاتهن على متطلبات المعيشة، أو حتى من أجل شراء «كماليات» لم تعد كذلك، مثل الهواتف المحمولة، ويعلق علام بحسرة: «الأب مش بيمنع بنته تسافر كل يوم عشرات الكيلو مترات، بالعكس بيشجعها، لإن ال130 جنيهًا اللى بتجيبهم فى اليوم ممكن يساعدوا فى شراء لبس أو يغطوا مصاريف التعليم». تحوّلت إحدى هذه الرحلات اليومية، صباح الجمعة الماضى، إلى مأساة لن تنساها كفر السنابسة، ذلك الحادث على الطريق الإقليمى، الذى أنهى حياة 18 فتاة فى لحظة واحدة، من بينهن آيات، طالبة فى كلية التربية، والتى لم تكن وحدها من أسرتها على متن السيارة المنكوبة، بل كانت برفقتها ابنة عمها التى ارتقت روحها معها وابنة خالتها التى ترقد الآن فى جناح المخ والأعصاب التابع لمستشفى الحميات بقرية ميت خلف فى مركز شبين الكوم. زغلول مصطفى، والد آيات، متحدثًا بصوت مبحوح يغلب عليه الذهول أكثر من الحزن: «إحنا بلد أرياف، حوالينا زرع من كل ناحية، ومفيش شغل غير اللى يطلع برا البلد، لأن اللى عنده أرض بيشغل أولاده، واللى ماعندوش بيشوف رزقه فى الجبل». المنزل الذى ودّع منه زغلول ابنته، هو ذاته الذى غاب عنه ثلاث بنات دفعة واحدة، لم يعد فيه سوى البكاء والصمت، وربما قليل من الإيمان بأن الموت كان أهون من حياة يشغلها التفكير فى كيفية تدبير النفقات اليومية، وفى اليوم التالى للحادث، قدمت فرق الهلال الأحمر إلى القرية لتقديم الدعم النفسى والطبى للأهالى والمعزين، وقال الحاج سعيد، أحد كبار السن من أهالى كفر السنابسة، ل«المصرى اليوم»: «البنات بيشتغلوا عشان يقدروا يكملوا تعليمهم، زغلول مثلًا مرتبه 3000 جنيه، آيات كانت بتطلع الصبح ترجع بالليل عشان تجيب 130 جنيهًا فى اليوم.. كل ده راح فى لحظة». وفيما يخص البنية التحتية للقرية، لا يوجد غاز طبيعى، فقط أنبوبة البوتاجاز التى تجاوز ثمنها 250 جنيهًا، ولا صرف صحى، بل تعتمد الأسر على جرارات «كسح الطرنشات»، كما أن الطرقات الضيقة غير الممهدة تزيد من مشقة الحياة، ومع ذلك، لا ينتظر الناس العدالة، لأنهم يعرفون أن سائق التريلا، المُدان بتسببه فى الحادث، سيقضى عدة أعوام أو ربما أشهرًا فى السجن، ثم يعود مجددًا ليتعاطى المخدرات كأن شيئًا لم يكن، على حد وصف الأهالى. «لو الناس خافت تشتغل بعد اللى حصل، هيموتوا من الجوع فى البيوت»، يقول أحد سكان القرية من عزاء أحد الضحايا مختصرًا فلسفة العيش فى هذه القرية، حيث الفقر لا يترك خيارًا، والموت ليس أغرب ما قد يحدث فى طريق البحث عن مقومات الحياة.