أزمة الدولار وسعر الصرف التي قادتنا إلي تعويم الجنيه مؤخرا كشفت عن خلاف حاد لا يحظي بأي قدر من الاهتمام الإعلامي أو السياسي بين أغنياء مصر.. فمنذ أن ظهرت هذه الأزمة وعادت السوق السوداء للعملات الأجنبية للعمل بعد غياب واختفاء دام لسنوات ظهرت بوادر هذا الخلاف.. ومع تصاعد أزمة الدولار وسعر الصرف وتزايد الضغوط الداخلية والخارجية لتعويم الجنيه وتوحيد سعر الصرف، تزايد بدوره الخلاف بين أغنيائنا من رجال الاعمال، حتي وصل هذا الخلاف إلي ذروته، بما لا يمل رئيس شعبة المستوردين باتحاد الغرف التجارية أحمد شيحا عن تكرار قوله حول أن أزمة الدولار وسعر الصرف مفتعلة، وأن مصر لا تعاني شحا في الدولار والعملات الأجنبية وأن لدينا نحو عشر عائلات تمتلك نحو 200 مليار دولار تزيد علي عشرة أمثال ما لدينا من احتياطيات نقد أجنبي في حوزة البنك المركزي. وبغض النظر عن صحة ما يقول به أحمد شيحا، أو دقته في ظل أن ما تملكه هذه العائلات العشرة الشهيرة في البيزنس ليست كلها أموالا سائلة، فإن هذا الكلام يشير بوضوح إلي أن رجال الاعمال وصل الخلاف بينهم إلي مدي بعيد مؤخرا.. وهو خلاف علي كعكة الاقتصاد المصري.. ويتركز هذ الخلاف تحديدا الآن بين المستوردين وبين غيرهم من رجال الاعمال.. وقد بدأ ينشب هذا الخلاف حينما حدث تضارب في المصالح بينهم.. فإن المستوردين الذين استفادوا كثيرا خلال السنوات الخمس الأخيرة حينما اتجهنا للتوسع في الاستيراد من الخارج، حتي تجاوز حجم استيرادنا 70 مليار دولار في السنة بخلاف التهريب، بدأوا يخشون علي مصالحهم وأرباحهم الضخمة التي يجنونها من هذا الاستيراد الضخم، في البداية بعد أن زادت أسعار الدولار في ظل شح النقد الأجنبي بالبنوك، ثم بعد أن قررت الحكومة توحيد سعر الصرف من خلال تعويم الجنيه، والذي سوف يقترن بالضرورة بتخفيض حجم الاستيراد من الخارج لانخفاض الطلب علي بعض السلع المستوردة من الخارج لارتفاع أسعارها. فإن المستوردين يدافعون الآن عن مصالحهم، أو بالأصح يدافعون عن الأرباح التي يحققونها والتي كانت في تزايد مستمر خلال السنوات الخمس الماضية .. ونظراً لأن الهجوم هو خير وسيلة للدفاع فإنهم علي لسان رئيس شعبة المستوردين انطلقوا يهاجمون بقية رجال الأعمال، متهمين اياهم بأنهم هم وليس المستوردين الذين خلقوا أزمة الدولار والاضطراب في سعر الصرف وسوف يخلقون بتوحيد سعر الصرف وتعويم الجنيه ازمة أخري اشد قسوة علي الاقتصاد المصري والمواطنين البسطاء. وفي المقابل فإن بقية رجال البيزنس من غير المستوردين الذين يقدم بعضهم أنفسهم بوضعهم منتجين يدافعون هم أيضا عن أنفسهم ومصالحهم التي يرون انها تضررت بسبب أزمة النقد الأجنبي واضطراب سعر الصرف والأهم بسبب زيادة الاستيراد من الخارج علي حساب انشطتهم ومشروعاتهم واستثماراتهم داخل البلاد، والتي تعتمد في أغلبها علي مستلزمات انتاج غير مصرية ومستوردة عن الخارج.. وهذا هو سر ترحيبهم بقرار تعويم الجنيه الذي ألحوا عليه كثيرا ولاموا البنك المركزي علي التأخر في اصداره وإعلانه والعمل به، فهم سوف يستفيدون بذلك لزيادة تنافسية أعمالهم وأنشطتهم هو ما سوف يترجم بزيادة ارباحهم. وفي هذا الخلاف الدائر الآن بين اغنياء مصر ورجال البيزنس فيها الذي انفجر مؤخرا وتحول إلي صدام معلن، يستخدم المشاركون فيه المواطن البسيط سلاحا للنيل من الطرف الآخر.. المستوردون يبكون علي مصلحة هذا المواطن البسيط بعد توحيد سعر الصرف وتعويم الجنيه لانه سوف يقترن به موجة تضخمية جديدة وارتفاع كبير في الاسعار سوف يرفع كما يقولون الاسعار بنسبة 50٪ علي الأقل.. وغير المستوردين يقولون ان تعويم الجنيه هو بمثابة الدواء المر لكي يشفي الاقتصاد المصري من امراضه وسيكون في صالح المواطن البسيط في نهاية المطاف، لذلك عليه أن يتحمل مرارة هذا الدواء وآلامه المتمثلة في ارتفاع الاسعار. وهكذا.. الصراع علي المكاسب والارباح أو علي كعكة الاقتصاد المصري، ولكنه صراع يتم تحت رايات مصلحة المواطن البسيط.. المتصارعون يقولون إنهم يدافعون عن مصلحة هذا المواطن البسيط سواء كان فقيرا أو محدود الدخل أو متوسط الدخل، بينما هم في حقيقة الأمر يدافعون عن مصالحهم وعن مكاسبهم وارباحهم وحصة كل فئة منهم من ثروة مصر. ولذلك.. لابد أن تقوم الحكومة بدورها الذي لامفر منه من أجل توفير حماية حقيقية لهذا المواطن البسيط الذي كل ما يريده هو توفير الحد المناسب من احتياجاته الاساسية »غذاء وكساء ومسكن وخدمات كهرباء ومياه ومجاري ونقل وتعليم وصحة»، سواء صار الدولار ثمنة سبعة جنيهات، كما يبشرنا رئيس شعبة المستوردين، أو عشرين جنيها كما يحذرنا أيضا بعد تعويم الجنيه. ولن تستطيع الحكومة أن تساند هذا المواطن البسيط وتوفر حماية حقيقية له الا اذا واجهت بقوة الاحتكارات التي تسيطر علي اسواقنا »انتاجا واستيرادا وتجارة»، وتعالي في تقدير التكاليف حتي تفرض هوامش ربح لا يوجد لها مثيل في العالم كله حيث تصل إلي أكثر من 150٪ بينما لا تتجاوز هوامش الربح خارج مصر 25٪ في الدول التي تعتمد نظام اقتصاد السوق. واذا كان هناك عشر عائلات من غير المستوردين تمتلك نحو 200 مليار دولار، فإن هناك أيضا عائلات من المستوردين تحوز ثروات ليست بالقليلة واكموها عندما انطلقنا نستورد بلا ضوابط.. وجميع الاغنياء في بلادنا يجب ان يدفعوا نصيبهم العادل والذي يتناسب مع قدراتهم وثرواتهم في اعباء حل الأزمة الاقتصادية، واعادة بناء اقتصادنا ولن يتم ذلك بدعوتهم للتبرع وانما بالزامهم بدفع الضرائب وبهوامش ربح مناسبة والتصدي لاحتكاراتهم.