قرارات مصيرية تُدار من خلف الشاشات والأطفال هم الضحايا إفشاء أسرار البيوت.. طريق مُمهد نحو انهيار العلاقة «نية الزوج».. الفيصل الشرعى فى الطلاق الإلكترونى فى زمن أصبحت فيه الرسائل أسرع من الكلمات، والإشعارات تحل محل الحوار المباشر، ظهر نوع جديد من الانفصال يهز استقرار الأسرة المصرية وهو «الطلاق الإلكتروني».. لم يعد الطلاق دائمًا مواجهة صعبة، بل أصبح أحيانًا رسالة عابرة على واتس آب أو حتى تسجيل صوتى يُنهى سنوات من الزواج خلال ثوانٍ. هذا التحول المقلق لا يعكس فقط تغير وسائل التواصل، بل يكشف عن أزمة أعمق فى طرق إدارة الخلافات، وتراجع الحوار بين الأزواج، وغياب الوعى بخطورة قرار قد يُتخذ فى لحظة غضب عبر هاتف محمول، ومع اتساع دائرة الجدل حول الطلاق الإليكترونى وتداعياته على الأسرة والمجتمع، تظل الحاجة لفهم أسبابه وآثاره أكثر إلحاحًا من أى وقت مضى. وفى هذا التحقيق، تناقش «الأخبار» الظاهرة من خلال آراء الخبراء والمختصين حول مستقبل العلاقات فى العصر الإليكترونى. تقول د. إيمان عبد الرحيم، مدرس واستشارى الطب النفسى بكلية طب جامعة القاهرة: إن «الطلاق الإليكتروني» أو ما يمكن تسميته ب «الإعلان الرقمى للطلاق» لم يعد مجرد حالة فردية عابرة، بل تحول إلى ظاهرة لافتة تستحق دراسة مُعمقة من منظور نفسى واجتماعي، مشيرة إلى أن قدسية العلاقات تبدو وكأنها تتآكل أمام إيقاع العالم الرقمي، حيث يتحول قرار مصيرى مثل الانفصال إلى مادة للعرض العلنى أو وسيلة للهروب من المواجهة، وهنا يصبح السؤال ملحاً: هل فقد الأزواج القدرة على إدارة حياتهم خارج شاشات الهواتف؟ الدوافع متعددة وتوضح د. إيمان أن دوافع اللجوء للإعلان الرقمى عن الطلاق متعددة ومُعقدة، فالبعض يستخدم الفضاء الرقمى كوسيلة للهرب من مواجهة الحقيقة أو الدخول فى نقاشات مؤلمة مع الطرف الآخر، وقد يجد أحد الزوجين فى «الاستورى أو المنشور» مساحة للهروب من عبء المواجهة المباشرة، خاصة إذا كان يشعر بالخوف من رد الفعل أو لا يستطيع تحمل الشعور بالذنب. وفى أحيان أخرى، يتحول الإعلان إلى وسيلة للحصول على دعم خارجى سريع، إذ يسعى البعض لاكتساب تعاطف الغير وتقديم نفسه فى صورة الضحية، مما يمنحه شرعية شعورية ومساندة اجتماعية فورية، ولا يمكن إغفال أن الإحساس بالسيطرة يلعب دوراً كبيراً أيضاً، فالنشر الرقمى يمنح صاحبه القدرة الكاملة على صياغة الرواية بالطريقة التى يريدها دون تدخل من الشريك، وهو ما يعطى شعوراً بالقوة فى لحظة فقد السيطرة على العلاقة، ويضاف إلى ذلك أن الثقافة الرقمية الحالية جعلت كل تفاصيل الحياة قابلة للنشر، حتى اللحظات الأكثر خصوصية، وهو ما يدفع البعض للتعامل مع الطلاق كخبر عادى يجب مشاركته. الوسيط رقمى وترى استشارى الطب النفسى أن اختيار إنهاء العلاقة عبر وسيط رقمى هو مؤشر واضح على هشاشة التواصل فى الحياة الزوجية، فعندما يقرر أحد الطرفين إعلان الطلاق دون حوار مُسبق، فهذا يعكس انهياراً تاماً فى البنية العاطفية للعلاقة، وغياباً للأمان النفسى الذى يُفترض أن يحكم الزواج، مشيرة إلى أن هذه العلاقة كانت غالباً تعيش بالفعل فى مسارين منفصلين منذ فترة، حيث توقفت القنوات الطبيعية للحوار وحل الخلافات، وأصبحت القرارات المصيرية تُدار من خلف الشاشات وليس داخل البيت. وتحذر من أن الأثر النفسى على الطرف المتلقى لإعلان الطلاق الرقمى يكون غالباً مُضاعفاً ومُحملاً بالكثير من الوجع، فالصدمة العاطفية تأتى مقرونة بإحساس عميق بالإذلال، وهذا النوع من الانفصال يهز صورة الذات لدى الطرف الآخر، الذى يجد نفسه فجأة أمام واقع جديد لم يُستشر فيه ولم يُمهد له نفسياً، ويولد ذلك موجة من الغضب والقلق والخوف من المستقبل، وقد يصل الأمر إلى أعراض اكتئابية تتطلب دعماً متخصصاً، خصوصاً إذا كان الإعلان فاجعاً ومفاجئاً. دائرة نزاع مفتوح أما بالنسبة للأطفال، فتعتبرهم د. إيمان أكثر الأطراف تضرراً، رغم أنهم لا يشاركون فى المشهد العلني، فإعلان الطلاق على الملأ يضاعف من حدة الصراع بين الوالدين، ويضع الطفل فى دائرة نزاع مفتوح، قد يشعر خلالها بأنه مضطر لاختيار طرف على حساب الآخر، كما أن وجود تفاصيل الانفصال على منصات التواصل قد يعرض الطفل للتنمر أو الأسئلة المحرجة، مما يولد لديه شعوراً بالعار أو الخجل، والأخطر من ذلك أن هذا السلوك يشوه النموذج الذى يتعلم منه الطفل مفهوم العلاقات السليمة، إذ يرى أن نهاية الزواج يمكن أن تحدث بطريقة غير مسئولة وبأسلوب قائم على الاستعراض. وتعتبر أن الطلاق الرقمى انعكاس مباشر لسطحية العلاقات المعاصرة، حيث يصبح الشريك مجرد «بروفايل» يمكن حذفه بضغطة زر، ويعزز هذا النمط فكرة الاستبدال السريع، فى ظل ثقافة تروج للتخلى عن العلاقات بمجرد ظهور صعوبة أو ملل، دون تحمل مسئولية إنهاء العلاقة باحترام، وتبدو الأولوية فى هذه العلاقات للصورة الجميلة المنشورة وليس للجوهر الحقيقى الذى يربط بين الزوجين. ضرورة الوعى والمشورة وتشير إلى ضرورة رفع الوعى بخطورة هذا السلوك، من خلال التأكيد على أن الطلاق - عند استحالة الاستمرار - يظل قراراً مصيرياً يتطلب قدراً كبيراً من الإنسانية والاحترام، مشددة على أهمية أن يتعلم الأزواج «لغة الانفصال المسئول»، التى تعتمد على المواجهة الهادئة وتنحية اللوم جانباً، وتخصيص لحظة محترمة لإعلان القرار، حفاظاً على كرامة الطرف الآخر واستقرار الأطفال، كما تنصح باللجوء إلى المشورة الأسرية قبل اتخاذ القرار لتقليل الأضرار المُحتملة، وتجنب تحويل الألم الحقيقى إلى «محتوى» يمر على الشاشات ثم يُنسى. رأى الشرع وفى هذا السياق، يرى، أستاذ مساعد الشريعة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، أن الطلاق الصادر عبر الرسائل الإليكترونية يمكن أن يُعتد به شرعًا إذا ثبت يقينًا أن الزوج هو بالفعل من أرسل رسالة الطلاق، فالأصل فى الطلاق أنه مرتبط بلفظ يصدر من الزوج مباشرة، سواء مشافهة أو كتابة، لكن الكتابة الحديثة عبر الهاتف أو التطبيقات تحمل نفس الحكم إذا تحقق شرط التأكد من هوية المرسل، ويشدد على ضرورة التواصل مع الزوج والاستماع إليه، لأن مجرد ظهور رسالة على هاتف الزوجة لا يكفى لإثبات وقوع الطلاق ما لم يُقِر الزوج بذلك، أما إذا أنكر الإرسال أو أثبت عدم صلته بما ورد فى الرسالة، فلا يقع الطلاق شرعًا لغياب اليقين. ويضيف الجعفري: أن مسألة الغضب من أهم الجوانب التى يجب مراعاتها، فالكثير من حالات «الطلاق الإليكتروني» تحدث فى لحظات انفعال شديد، مما يجعل الزوج يكتب كلمات الطلاق أو ينطق بها فى رسالة صوتية دون وعى كامل بالنتيجة، وكأنها على حد وصفه «رصاص خرج دون تفكير». وفى مثل هذه الحالات، يستدل الجعفرى بقول النبى صلى الله عليه وسلم: «لا طلاق فى إغلاق»، أى عندما يُغلق على الإنسان عقله بسبب الغضب فينطق بما لا يقصد، وهنا يصبح الطلاق أقرب إلى الخطأ غير المُتعمد، وهو ما يستدعى التثبت من نية الزوج وقت كتابة الرسالة، وليس الاكتفاء بوجود اللفظ وحده. ويحذر الدكتور الجعفرى من خطورة انتشار الطلاق الإليكترونى كوسيلة سهلة لإنهاء الحياة الزوجية، مشيرًا إلى أن إفشاء أسرار البيت عبر الرسائل أو تداول الخلافات على تطبيقات التواصل يفتح بابًا للمشاحنات قد يتطور تدريجيًا إلى الطلاق الحقيقي، ويرى أن التوسع فى استخدام الهواتف فى إدارة الخلافات الزوجية يعمق الفجوة بين الزوجين ويُفقد الحوار قيمته، وهو ما يستدعى وعيًا دينيًا وأسريًا أكبر للحفاظ على استقرار البيوت ومنع انفراطها بضغطة زر. المعيار القانونى ومن جانبها، تؤكد دعاء عباس، المحامية ورئيس الجمعية القانونية لحقوق الطفل والأسرة، أن مسألة الاعتداد بالطلاق الإليكترونى قانوناً لا يمكن فصلها عن الشريعة الإسلامية، لأن المادة الثانية من الدستور المصرى تنص صراحة على أن مبادئ الشريعة هى المصدر الرئيسى للتشريع. ولذلك، فإن تقييم الطلاق عبر الرسائل الإلكترونية يبدأ أولاً من المعيار الشرعى قبل القانوني. فإذا قال الزوج لزوجته - على سبيل المثال - «أنتِ طالق» عبر رسالة واتساب، فإن الأمر يتوقف على نيته؛ فإذا كان يقصد بالفعل إيقاع الطلاق، فإن الطلاق يقع شرعاً. وتضيف: أن دور الزوجة فى هذه الحالة هو اللجوء إلى المحكمة لإثبات وقوع الطلاق، حيث تنظر المحكمة فى الدلائل والقرائن التى تكشف نية الزوج، مثل: محتوى الرسائل، سياق الحديث، وطريقة تفاعل الزوج بعد إرسال الرسالة. وإذا اقتنعت المحكمة بأن الزوج كان جاداً فى إيقاع الطلاق، فإنها تحكم بوقوعه، وتشير إلى أن الجرائم الإليكترونية أصبحت تُثبت اليوم عن طريق رسائل واتساب ومحادثات مواقع التواصل، وهو ما يجعل المواطن مطالباً بقدر أكبر من الحرص فى استخدام هذه الوسائل، لأن القانون أصبح يتعامل معها كأدلة كاملة وصحيحة. وترى عباس أنه لا يوجد فرق جوهرى بين الطلاق التقليدى والطلاق الرقمي، فالأصل فى كليهما هو نية الزوج، بينما يظل دور الزوجة - فى حالة الطلاق الإليكترونى - هو إثبات أن ما ورد فى الرسالة كان طلاقاً حقيقياً وليس مجرد غضب عابر أو تهديد، وتشدد على أن التحدى الأكبر فى هذا النوع من الطلاق هو إثبات النية، فكيف يمكن للزوجة أن تقدم للمحكمة دليلاً قاطعاً على أن الزوج قصد الطلاق فعلاً؟ وهنا تستند إلى حديث النبى صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النكاحُ، والطلاقُ، والرَّجعةُ»، مؤكدة أن الجد والهزل فيه سواء، وأن سياق الحديث يكشف فى كثير من الأحيان نية الزوج وإرادته. وتشدد أيضا على ضرورة أن تتطور القوانين لتواكب التغير الهائل فى طرق التواصل بين الأزواج، لأن العلاقات الأسرية لم تعد تُدار بالصورة التقليدية فقط. وتدعو المشرع إلى وضع عقوبات مشددة تمنع التلاعب بالطلاق أو استخدام الوسائل الرقمية للضغط والتهديد أو العبث بما شرعه الله، مؤكدة أن تحديث قانون الأحوال الشخصية أصبح أمراً ضرورياً وملحاً.