لم تعد مواقع التواصل الاجتماعي، مجرد منصات للتعبير أو التواصل، بل تحولت بحسب وصف جامعة أكسفورد في تقريرها لعام 2024 إلى «آلة لتآكل الدماغ»، في إشارة إلى حالة الانهيار الفكري والسطحية العقلية، التي أصابت المجتمعات المعاصرة بفعل الإفراط في التفاعل عبر هذه المنصات. التقارير الحديثة تشير إلى أن استخدام السوشيال ميديا، لا يقتصر على التأثير في العمليات المعرفية المرتبطة بالإدراك والتذكر والانتباه، بل امتد إلى القرارات والسلوكيات والانفعالات، مسببًا اضطرابًا في العلاقات الإنسانية، وخللاً في الصحة النفسية العامة. ◄| وليد هندي: مسرح مكشوف للعورات النفسية في هذا السياق، قال الدكتور وليد هندي، استشاري الصحة النفسية، إن ما نعيشه اليوم لا يمكن وصفه فقط ب«تآكل الدماغ»، بل تجاوز ذلك إلى ما يسميه «التآكل العاطفي» أو «الخَدر العاطفي» تلك الحالة التي يفقد فيها الإنسان قدرته على الإحساس بمشاعر الآخرين أو إدراك وقع تصرفاته عليهم. «أصبحنا اليوم أمام جيل تجمدت مشاعره، وتراجعت إنسانيته في زمن «لايك» و«بلوك» هذا ما أشار له هندي، موضحًا أن العلاقات العاطفية اليوم باتت تُختصر في رسالة أو «إيموجي»، وأن الغضب، أو الوجع يمكن أن يُعبَّر عنه ببوست أو«ستوري»، بينما تُقطع العلاقات الإنسانية بلمسة و«بلوك» على الشاشة. هذا الانفصال العاطفي انعكس مؤخرًا في سلوكيات صادمة، مثل إعلان أحد الفنانين انفصاله عن زوجته عبر منشور على «السوشيال ميديا»، لتكتشف زوجته الخبر مصادفة، هذه الحوادث كما وصفها هندي، تكشف عن حالة قسوة وجمود في المشاعر، وعن مجتمعات فقدت حسّها الإنساني. ويرى استشاري الصحة النفسية أن السوشيال ميديا تحولت إلى مسرح مكشوف للعورات النفسية، وأصبحت بيئة خصبة لظهور أنماط شخصية غير سوية تطل علينا من خلف الشاشات. ف «الشخصية النرجسية» كما يوضح، تجد في هذه المنصات بيئة مثالية للتمجيد الذاتي واستغلال الآخرين نفسيًا وعاطفيًا، دون اعتبار لمشاعرهم أو كرامتهم. أما «الشخصية السادية»، فتستمتع بإيلام الآخرين عاطفيًا، وتجد متعة في إذلالهم على الملأ، بينما «الشخص المستهتر» الذي نشأ مدللًا بلا حدود، يتعامل باستخفاف مع القيم والمشاعر والروابط الإنسانية. ويضيف هندي أن من بين هذه النماذج أيضًا «الشخص السايكوباتي»، الذي يلهث وراء رغباته الشخصية دون اكتراث بآلام الآخرين، واصفا إياه بأنه مجرم اجتماعي يعيش لملء ذاته فقط، حتى لو كان الثمن تدمير من حوله. اقرأ أيضا| نسب الطلاق زادت ليه؟.. الرئيس السيسي يوجه انتقادًا للدراما الحل الحقيقي كما يراه هندي يبدأ من البيت والتربية، مؤكدًا أن على الأهل أن يعيدوا بناء منظومة القيم والاحترام داخل الأسرة، وأن يعلّموا أبناءهم احترام مشاعر الآخرين من أبسط المواقف اليومية. أن نعود إلى الحكاية، والقصص التي كانت تحكيها الأم لأطفالها بصوتها ودفء مشاعرها، أصبحت حاجات ضرورية لابد لنا من استعادتها كما أشار، قائلا «هذه التفاصيل الصغيرة كانت تزرع فينا الإحساس، وتعلّمنا كيف نحب ونحسّ بالآخر». وأضاف أن العودة للموسيقى والفنون والقصص الإنسانية يمكن أن تساهم في ترقيق المشاعر وإحياء الحس الإنساني المفقود، لأن من يفقد قدرته على الإحساس بالآخرين يفقد هويته الإنسانية. واختتم الدكتور هندي حديثه قائلاً «الاستخفاف بالمشاعر يميت القلب، والجمود الإنساني يفرغ الإنسان من محتواه، فيتحول إلى مجرد كائن موجود شكلاً، لكنه بلا قلب.. وبلا هوية». ◄| جمال فرويز: تعكس حالة من التأثر الجماعي غير الواعي وسائل التواصل الاجتماعي كما يراها الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، باتت تؤثر بعمق في طريقة اتخاذنا للقرارات اليومية، إذ تدفع المستخدمين إلى قرارات اندفاعية وانفعالية ولحظية لا تمر بعملية تفكير ناضجة، مشيرا إلى أن الإنسان على هذه المنصات يميل بشكل لا إرادي إلى تبنّي الاتجاهات السائدة، في إطار ما يُعرف ب «ظاهرة القطيع». ويشرح «فرويز» قائلاً إن الفرد عندما يدخل إلى منصات التواصل ويجد، موضوعًا يتداوله الآخرون من زاوية معينة، فإنه غالبًا ما ينساق وراء هذا الاتجاه دون وعي، «نشتم ما يشتمه الناس، ونمدح ما يمدحونه، ونتفاعل بالطريقة نفسها مع كل ما يثير الجدل»، على حد قوله، معتبرًا أن هذا السلوك أصبح متكررًا بشكل لافت. ولإثبات هذا التأثير، يشير «فرويز» إلى تجربة عملية أُجريت على مجموعتين من الأفراد، ففي البداية، تم وضع المشاركين داخل غرفة مغلقة وطلب منهم الإجابة عن مجموعة من الأسئلة باستخدام الورقة والقلم، ثم عُرضت عليهم الأسئلة نفسها عبر منصة «فيسبوك»، وكانت النتيجة — بحسب فرويز — تغيّر قرارات المشاركين بنسبة وصلت إلى 40% عند الإجابة على السوشيال ميديا. وأرجع فرويز هذا التغيّر إلى إن وجود الفرد وسط تيار من الآراء والتعليقات يدفعه تلقائيًا إلى تعديل قراراته بما يتماشى مع ما يراه من توجهات عامة، بينما عندما يكون منفصلًا عن هذا التأثير ويقرر وحده، فإنه يفكر بعمق أكبر ويصل إلى قرار مستقل. ويخلص فرويز إلى أن أنماط السلوك على السوشيال ميديا لم تعد تعكس قناعات حقيقية بقدر ما تشير إلى حالة من التأثر الجماعي غير الواعي، وهو ما يستدعي وعيًا أكبر عند التعامل مع القضايا التي تتحول إلى «تريند». ◄| سامية صابر: السوشيال ميديا تؤثر في صنع القرارات الشخصية والعائلية في إطار لحظي الدكتورة سامية الصابر، أستاذ علم الاجتماع بجامعة الأزهر، تربط ما يحدث على السوشيال ميديا، بمفهوم العقل الجمعي الذي صاغه إميل دوركايم في القرن التاسع عشر، المفهوم الذي يعتبر المجتمع بنية من الأفكار والمعتقدات المشتركة، وليس مجرد أفراد متفرقين، هو نفسه الذي يظهر بوضوح في طريقة تشكل الاتجاهات على منصات التواصل. بالنسبة لها، ما يجري على هذه المنصات يشبه حركة موجة واحدة ضخمة، تتحرك بسرعة أكبرما كان يتخيله دوركايم نفسه، حين يتكرر رأي واحد في المنشورات والتعليقات والترندات، يصبح الفرد جزءًا من هذا التيار حتى من دون أن ينتبه، كل ما حوله يعمل ككتلة واحدة تصنع رأيًا عامًا جاهزًا، يتشكل بفعل تداخل المحتوى وانتشاره. وفي تفاصيل الحياة اليومية، يتضح المشهد أكثر كما لفتت دكتورة سامية، وعلى سبيل المثال لحظة تصفح عابرة أثناء وجود الشخص في المواصلات تكفي لخلق انطباع إيجابي أو سلبي تجاه قضية معينة، لأن كل ما يراه يتحرك في الاتجاه نفسه، التأثير لا يرتبط بضعف الشخصية أو غياب الرؤية الذاتية، بل بآلية عمل العقل الجمعي الذي يفرض حضوره على الجميع. ومن هذا الباب أوضحت أنه تتولد قرارات كثيرة شخصية وعائلية ودراسية ومهنية داخل بيئة تصنعها السوشيال ميديا لحظيًا، وتعيد تشكيلها من جديد كل ساعة، وهكذا يصبح الاتجاه العام هو القوة التي تتحكم في مزاج المجتمع، بينما يظن الأفراد أنهم يتخذون قراراتهم باستقلال تام. ◄| هند فؤاد: المقارنات غير المنطقية تولّد مشاعر الإحباط وتُضعف الرضا الزوجي تدريجيًا «في عصرٍ رقميٍّ سريع الإيقاع ومليء بتدفق المعلومات، تمتد وسائل التواصل الاجتماعي إلى عمق الحياة الأسرية بشكل لم يعد يمكن تجاهله» هذا ما أكدته دكتورة هند فؤاد السيد أستاذ علم الاجتماع المساعد بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية فقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية للإنسان، ولم تعد مجرد وسيلةٍ للتسلية أو التواصل، بل تحولت إلى قوةٍ خفيةٍ وفاعلةٍ تُوجِّه الأفكار، وتُشكِّل المواقف، وتُحدِّد القرارات، حتى تلك المصيرية منها، وخاصة بين الزوجين كما أوضحت استاذ علم الاجتماع. وبات التأثير العاطفي والنفسي الهائل الذي تمارسه هذه المنصات مثل مثل «فيسبوك» و«انستجرام» و«تيك توك» و«واتساب» يتغلغل ببطءٍ وعمقٍ داخل البنية الدقيقة للعلاقات الزوجية، ما ينعكس بشكلٍ مباشرٍ على استقرار الأسرة وتماسك المجتمع. وفيما يتعلق بتأثيرات السوشيال ميديا، على العلاقة الزوجية، حددتها دكتورة هند فيما يلي: أولا: المقارنة المفرطة والخيال الزائف، حبث تُغذي وسائل التواصل الاجتماعي فكرة «الحياة المثالية» التي تُعرض عبر الصور والمقاطع المبهرة، ما يدفع بعض الأزواج إلى مقارنة حياتهم الواقعية بتلك الصور اللامعة، هذه المقارنات غير المنطقية تولّد مشاعر الإحباط، وتُضعف الرضا الزوجي تدريجيًا، وتجعل القرارات المتعلقة بالاستمرار أو الانفصال تتأثر بتصوراتٍ سطحيةٍ وغير واقعية. ثانيا: الغيرة وانعدام الثقة، مع تزايد التواصل الافتراضي، تنشأ علاقات رقمية بريئة أحيانًا ومريبة أحيانًا أخرى، هذا التفاعل المبالغ فيه قد يُثير الغيرة ويُحدث فجوةً نفسيةً بين الزوجين، فتتحول مراقبة الحسابات والمنشورات إلى مصدر توترٍ دائمٍ يقود إلى قراراتٍ متسرعةٍ تتعلق بالطلاق أو الانفصال أو حتى العزلة العاطفية. ثالثا: التأثير غير المباشر للأصدقاء الافتراضيين، خاصة وأن كثير من القرارات الزوجية المصيرية، مثل الإنجاب أو العمل أو الهجرة، باتت تُتخذ بناءً على آراء «الأصدقاء الإلكترونيين»، هذا الاعتماد المفرط على آراء غير المختصين أو غير المعنيين يضعف الحوار الداخلي بين الزوجين ويُفقد العلاقة خصوصيتها واستقلالها العاطفي. رابعا: الإدمان الرقمي وضعف التواصل الواقعي، حين يقضي أحد الزوجين ساعاتٍ طويلة في تصفح السوشيال ميديا، يُصاب الطرف الآخر بإحساسٍ مريرٍ بالإهمال، فيتآكل التواصل العاطفي شيئًا فشيئًا، ومع تكرار ذلك، تصبح القرارات المصيرية مثل الاستمرار في العلاقة أو إنهائها متأثرة بشدة بحالة نفسية مشوشة مصدرها العالم الافتراضي. ◄ نتائج نفسية واجتماعية تفقد الخصوصية قيمتها عندما تتحول تفاصيل الحياة الزوجية إلى مادة منشورة، فيجد الزوجان نفسيهما تحت ضغط التعليق والحكم المستمر من الآخرين. وفي بيئات الاستخدام المفرط، ترتفع مستويات التوتر والبعد العاطفي، وقد تتجه العلاقة نحو الطلاق أو الانفصال النفسي حتى إن استمرت شكليًا. اقرأ أيضا| هل يجوز للزوج الحلف بالطلاق على أي سبب؟.. أمين الفتوى يجيب كما تعيد هذه المنصات تشكيل منظومة القيم لدى بعض الأزواج، فتبرز نزعة فردية تُضعف مفهوم الالتزام والمسؤولية المشتركة داخل الأسرة. أما الأبناء، فيتأثرون مباشرة ببيئة مشحونة بالتوتر الرقمي، فتظهر عليهم اضطرابات سلوكية وشعور أقل بالأمان. ومع انتشار هذه الأنماط على نطاق واسع، تتراجع قوة الروابط الاجتماعية وتزداد مشكلات التفكك الأسري. ◄ سُبل المواجهة ولمواجهة جميع هذا والتقليل من تاثيراته السلبية أوضحت أستاذ علم الاجتماع أن ذلك يكون من خلال عدة إجراءات: - تعزيز ثقافة الوعي الرقمي - إعادة بناء الثقة والتواصل المباشر - الاستعانة بالإرشاد الأسري المتخصص - إنتاج محتوى توعوي واقعي يُبرز أهمية التوازن بين الحياة الرقمية والحياة الواقعية وفي ختام حديثها، أكدت أستاذ علم الاجتماع، أن وسائل التواصل الاجتماعي، رغم ما تمنحه من فرصٍ مذهلةٍ للتقارب والمعرفة، إلا أنها قد تُصبح سلاحًا ذا حدين إذا غابت عنها الحكمة، فالقرارات المصيرية بين الزوجين، كالبقاء أو الانفصال، يجب أن تُبنى على أسسٍ من الحوار الصادق، لا على إشاراتٍ عابرةٍ أو انفعالاتٍ مستعارةٍ من عالمٍ افتراضي زائف، مشددة «حماية الأسرة من التأثيرات السلبية للسوشيال ميديا هي مسؤولية جماعية تتطلب وعيًا، وتربية رقمية رشيدة، وتعاونًا مستمرًا بين الأفراد والمؤسسات». ◄ حوادث تعكس الواقع وعلى جانب آخر أشارت دكتورة أماني عبد الرحمن أستاذ علم الاجتماع بكلية الدراسات الإسلامية أن ما حدث من أيام وأثار جدلا واسعا من خبر معرفة زوجة فنان معروف بخبر طلاقها من خلال ستوري على انستجرام ليس بالحدث الجديد ولا الواقعة الأولى من نوعها خاصة في هذا الوسط، موضحة أنه سبق وأن علمت الفنانة لبني عبد العزيز بخبر طلاقها من خلال حوار صحفي لزوجها في إحدى المجلات وكان تربطهما قصة حب كبيرة. والسوشيال ميديا كما تراها عبد الرحمن قد أثرت تأثيرات سلبية بالغة على المجتمع ككل، وعلى الأطفال وعلى العلاقات الزوجية، واصبحنا نرى الأمور بأعين غيرنا، وهذا ما أخرج لنا الكثير من الحوادث الغريبة على هذا المجتمع.