لو أن المقاومة الفلسطينية عثرت على كل جثث الأسرى الإسرائيليين المتبقين وسلمتها كلها مع تسليم الأسرى الأحياء، لما وجد نتنياهو أى عناء فى اختراع أسباب أخرى لاختلاق أزمة مفتعلة كما فعل فى كل اتفاق سابق. نتنياهو يعرف جيدا أن كل الأطراف قد توافقت خلال التفاوض على أن العثور على جثث الأسرى «أو الرهائن» سوف يستغرق وقتا، وهو نفسه وضع توقيعه على الاتفاق الذى ينص على الاستعانة بجهود الأطراف الخارجية «وفى مقدمتها دول الوساطة» من أجل العثور على هذه الجثث بين أنقاض المبانى التى أمر نتنياهو بتدميرها أو فى المناطق التى مازال جيش الاحتلال يسيطر عليها. كان يعرف كل ذلك، لكنه كان يعرف أيضا أن الانتقال للمرحلة الثانية والتفاوض حول تفاصيلها قد يسقط حكومته، وأن حلفاءه الذين وعدهم بالعودة للحرب بعد تسلم الرهائن سوف ينقلبون عليه، وأن السؤال الذى سيطارده هو: لماذا لم توقف حرب الإبادة قبل أكثر من عام وقد كان الأمر متاحا؟ ولماذا تريد العودة للحرب التى فشلت معها فى تحرير الرهائن بل تسببت فى قتل بعضهم؟! الأزمة مفتعلة لهذه الأسباب، ولسبب أهم هو أن مجرم الحرب نتنياهو يريد الاستمرار فى حجب المساعدات وفى إبقاء معبر رفح مغلقا من الجانب الفلسطينى الذى مازال تحت الاحتلال الإسرائيلى فى انتهاك صارخ لكل الاتفاقيات. ستفشل مناورة نتنياهو هذه المرة بالتأكيد، لكنه يريد أن يتهرب من استحقاقات لا بد أن يدفعها، ويريد أن يساوم على المرحلة التالية أو يعطلها أو يضيف ما يستطيع من ألغام فى طريقها. الرد الأمريكى لم يقتصر فقط على الإقرار بأن العثور على جثث الرهائن يواجه صعوبات منطقية وسوف يستغرق وقتا، لكنه أضاف هما جديدا لنتنياهو حين أقر الرئيس الأمريكى بأن هناك تفاهما على أن تقوم «المقاومة» بالحفاظ على الأمن الداخلى فى هذه المرحلة المؤقتة، والتعامل مع عصابات إجرامية! وهو تفاهم يزعج نتنياهو بالتأكيد، خاصة إذا كانت هذه العصابات تعمل تحت رعايته، وإذا كان ذلك يعنى أن المقاومة حاضرة بينما الاحتلال مطالب بالانسحاب ولو على مراحل. ستفشل مناورة نتنياهو لأن قراره أصبح مرتبطا بقاعدة يرسيها ترامب حين يقول: بكلمة واحدة منى يمكن لنتنياهو أن يستأنف الحرب. هذا يعنى أن القرار أمريكى والمسئولية أمريكية بعد عامين من الفشل الإسرائيلى رغم كل الدعم الذى قدمته واشنطن، والضغوط التى مارستها لحماية إسرائيل من عقوبات دولية تفرض على أى دولة مارقة تماس الإبادة الجماعية. ستفشل محاولة نتنياهو هذه المرة، لكنها تؤكد مرة أخرى أن الطريق إلى سلام حقيقى مليء بالألغام، وأن ما هو مطروح حتى الآن يستوجب أن تحشد كل القوى العربية والدولية لفرض السلام الحقيقى الذى ننشده، وأن الحفاظ على التضامن العربى والدولى مع فلسطين هو مهمة أساسية، وأن أى خطة للسلام لابد أن تنطلق من حقائق لم يعد ممكنا تجاوزها: أن تكون دولة فلسطين المستقلة هى عنوانها، وأن تكون وحدة الأرض الفلسطينية أساسها، وأن يكون إنهاء الاحتلال الإسرائيلى بدايتها وليس نهايتها، وأن يكون إعمار غزة جزءا من بناء فلسطين المستقلة وليس طريقا لصفقات مشبوهة ومرفوضة. ويبقى الأهم والعاجل لسد الطريق أمام المخاطر الجديدة: أن نترجم الإرادة الدولية إلى قرارات ملزمة من مجلس الأمن تتبنى خطط السلام، وتوفر الشرعية الدولية لإنهاء الاحتلال والإقرار بحق الشعب الفلسطينى فى أرضه وحريته ودولته المستقلة والموحدة وعاصمتها القدس العربية.. علينا أن نبنى على ما تحقق، ولنترك نتنياهو يقاوم سقوطا محتوما وعدالة لن تتوقف عن مطاردته حتى يتم الحساب.