هناك أبعاد متنوعة تتصل بكل مقاربة لعلاقة القصة العربية والقصة الغربية، من حيث تقاطعهما أو استقلال كل منهما عن الأخرى، تلاقيهما أو تباعدهما، التفاعل والتمثل القائمين، أو الممكنين المحتملين، بينهما.. أو التمايز على مستوى الجماليات التى نهلت منها، ثم الجماليات بلورتها، كل منهما.. فى فترات عدة من تاريخ حديث مشترك جمعهما، وتاريخ آخر قديم غير مشترك، لم يجمعهما. من هذه الأبعاد التى يستدعيها هذا الحديث، ما يرتبط أولا بالسياق المبكر الذى تم فيه "التوطين" الأول فى الأدب العربى الحديث لفن القصة القصيرة، الذى هو فن غربى خالص، مهما كانت له جذور قديمة فى التراث العربى القديم، بل فى التراث القصصى لدى أغلب الأمم التى عرفت الأساطير والملاحم والحكايات الشعبية والأخبار وغيرها من فنون الحكى. (ومن المفارقات الكبرى أن الأدب العربي قد عرف، خلال قرون طويلة، أعمالا سردية عظيمة القيمة، على رأسها "ألف ليلة وليلة"، ولكنه لم يعرف فن القصة القصيرة ولا فن الرواية، بالمعنى المعروف لهما، إلا بعد الاحتكاك بالغرب في العصر الحديث). ومن هذه الأبعاد، التى تتصل بهذا الحديث، ما يتعلق ثانيا ب"النموذج" القصصى الذى تصور بعض نقاد القصة القصيرة، وبعض المنظّرين لها (في الغرب، ومن تابعهم من بعض النقاد والأكاديميين العرب) فى فترة ما، أنه نموذج قادر على أن يبلور أهم سمات هذا الفن المراوغ، ومدى التزام كتاب القصة فى الأدب الغربي وفى الأدب العربى، معا هذا النموذج أو مدى تمردهم عليه. ومن هذه الأبعاد، التى يستوجبها هذا الحديث ثالثا ما يتصل بالتجارب التى صاغت أهم ملامح "الهوية" القصصية العربية، لدى من حلموا بهذه الهوية وسعوا إلى الاستمساك بها وتجسيدها على المستوى الفنى، فى قطاع من التجارب القصصية العربية، وكيف كانت هذه الملامح معلما على كتابة متصلة بموروثها المحلى، من جهة، وغير منقطعة الوشائج بمنابع الفن الإنسانى، تزاوج بين اعتماد "تقنيات" القصة القصيرة واستلهام "جماليات" الحكاية الشعبية، من جهة أخرى. وقد شكلت هذه التجارب مسيرة مميزة، ممتدة، في تاريخ القصة العربية، منذ كتابات محمود طاهر لاشين خلال عشرينيات القرن الماضي، وأسهمت فيها كتابات مهمة تالية لعدد من الكتاب، من بينهم يحيى حقي، ويوسف إدريس، ويحيى الطاهر عبدالله، وزكريا تامر، ومحمد خضير، وخيري شلبي، وأحمد بوزفور، ويوسف أبو رية، وجار النبي الحلو، وغيرهم.. ومن هذه الأبعاد، الموصولة بهذا الحديث، ما يمكن ملاحظته رابعا من حضور بعض معالم التماسّ بين القصة القصيرة العربية، والسرد القصصى الغربى، خلال "مغامرات التجديد" التى تلاحقت فى أعقاب بدايات النصف الثانى من القرن العشرين بوجه خاص، حيث تصاعدت موجات جمالية سردية تمّ "تبنيها" عند بعض الكتاب، بدرجات متفاوتة فى أوقات شبه متزامنة فى آداب إنسانية عدة، وبدت وكأنها "شارة عالمية" على "سرد جديد"، معمم القسمات، مشبع بقيم فنية بعينها تستجيب لما رآه البعض "نزوعا تقنيا عالميا"، وصعودا نحو ثقافة بصرية فى مقابل الثقافة السمعية المتوارثة، وفى هذا السرد سعت الكتابة إلى أن تكون موازيا لعالم يتغير بوتيرة متسارعة، ويلوح فى حركته كأنه يحمل توجهات مشتركة، أو يتم فيه تسييد توجهات مشتركة، وينفتح على مشهد واحد معقد كبير. ومن هذه الأبعاد، التى يستثيرها هذا الحديث، كذلك، ما يرتبط خامسا ببعض المغامرات الفنية الراهنة، فى القصتين العالمية والعربية، وهى مغامرات تنهض، فى جانب كبير منها، على ما يشبه ال"اختبارات" لحدود النوع القصصى، تتساءل حول تخومه وتستكشف آفاقا أرحب لهذه التخوم، فتطرح فيما تطرح أشكالا فنية تراوح بين القصة القصيرة، بمعناها الشائع، وفنون أخرى قريبة منها، كالشعر (فيما يسمى "القصة القصيدة")، أو ك"الأمثولة"، و"الخاطرة" و"اللوحة القصصية" (فيما بات يعرف ب"القصة القصيرة جدا" أو "القصة المفاجئة" أو "القصة الومضة" Flash Fiction..إلخ). وأخيرا، من هذه الأبعاد المرتبطة بهذا الحديث، ما يتعلق بالمجالات التى يتم فيها تلقى النوع القصصى، فى الثقافتين الغربية والعربية، وكيف تعكس هذه المجالات، والاهتمام بها على مستوى النشر والنقد، مدى حضور الفن القصصى ومدى تأثيره، وأيضا مدى قدرته على التقاط التجارب الإنسانية الحقيقية، وعلى الاهتمام بقضايا واقع لاهث فى حركته، متجدد فى تياراته، متغير فى معالمه، متباين فى استجاباته للأنواع الأدبية والإبداعية بوجه عام.