مرت الحضارة المصرية القديمة بمحطات حاسمة، غير أن عصر الدولة الحديثة كان بلا شك ذروة قوتها وتألقها، ففى الفترة الممتدة من 1550 إلى 1069 قبل الميلاد بلغت مصر أوج سلطانها السياسى والعسكرى، واتسعت حدودها من الجندل الرابع فى النوبة جنوبًا حتى بلاد الشام شمالًا، لتصبح إمبراطورية مترامية الأطراف فى قلب الشرق الأدنى القديم. وفى ظل هذه النهضة الكبرى، برزت أسماء خالدة فى ذاكرة التاريخ: حتشبسوت، الملكة التى حكمت بثقةٍ وجمالٍ وبصيرة، وتحتمس الثالث، القائد الذى شيّد أركان الإمبراطورية، وتوت عنخ آمون، الفرعون الشاب الذى استعاد عبادة آمون، وغيرهم من الملوك الذين رسموا ملامح أعظم فصول مصر القديمة. بدأت الأسرة الثامنة عشرة مع صعود الملك أحمس الأول، الذى وضع نصب عينيه هدفًا واحدًا: طرد الهكسوس واستعادة مجد مصر المفقود، وبعد حصار طويل لعاصمتهم «أواريس»، نجح فى دحرهم حتى شاروهين قرب غزة، وتابعهم إلى كنعان وبلاد الشام، وبانتصاره ذاك وضع الأساس لعصرٍ جديد من الوحدة والقوة. كما شهد عهده نهضة فنية ومعمارية غير مسبوقة، فكان بحق مؤسس الدولة الحديثة وممهّد طريق الإمبراطورية التى سار على نهجها خلفاؤه. وجاء تحتمس الأول ليواصل المسيرة، فكان ثالث فراعنة الأسرة الثامنة عشرة، ووريثًا شرعيًا لأمنحتب الأول الذى لم يُرزق بوريث. اعتلى العرش فى منتصف عمره، وجعل من القوة العسكرية ركيزة حكمه، وقاد حملات إلى النوبة لتوسيع الحدود الجنوبية، وأسس نظامًا إداريًا جديدًا هناك، كما وجّه أنظاره نحو آسيا، ليقضى على بقايا نفوذ الهكسوس ويعلن ولاء الممالك المحيطة لمصر. وفى الوقت ذاته، كان بانيًا مبدعًا؛ فهو أول من عمل فى معبد الكرنك، وأول من دُفن فى وادى الملوك، حيث أسس مجتمع الحرفيين الشهير فى دير المدينة لبناء مقابر الملوك. وتُعد حتشبسوت من أعظم النساء فى التاريخ، لا لكونها حكمت مصر فحسب، بل لأنها فعلت ذلك بذكاء وحنكة نادرتين، وهى ابنة تحتمس الأول وزوجة تحتمس الثانى، تولت الوصاية على العرش بعد وفاة زوجها عام 1479 ق.م، ثم أعلنت نفسها فرعونًا كامل السلطة. صاغت صورتها كملكٍ ذُكر فى النقوش، مرتدية التاج واللحية الفرعونية، لتكسب شرعية الحكم، وشهد عهدها ازدهارًا فنيًا وتجاريًا هائلًا، فشيّدت معبدها المهيب فى الدير البحرى، وأقامت المسلات الأربع الشهيرة فى الكرنك، كما أعادت فتح طرق التجارة نحو بلاد بونت، فكان عهدها عهد سلام وازدهار ثقافى نادر. بعد وفاة حتشبسوت، تولى تحتمس الثالث الحكم منفردًا فى نحو ال22 من عمره، ليبدأ مرحلة التوسع العسكرى الأعظم فى تاريخ مصر القديمة، إذ قاد أكثر من 16 حملة عسكرية ناجحة، أبرزها معركة «مجدو» ضد مملكة «قادش»، التى خلدها التاريخ كنموذج عبقرى فى التخطيط الحربى، وامتد نفوذ مصر فى عهده إلى كركميش وحلب وبلاد ميتانى، فغدت مصر القوة العظمى الأولى فى الشرق القديم. كما كان بانيًا لا يقل شأنًا عن قادته؛ فشيّد أكثر من 50 معبدًا، وأضاف البوابات السادسة والسابعة والثامنة إلى معبد الكرنك، لتبقى شاهدًا على عصر القوة والعظمة. بعد نحو نصف قرن من حكم تحتمس الثالث، اعتلى العرش الملك أمنحتب الرابع، الذى غيّر اسمه لاحقًا إلى «أخناتون»، ليبدأ واحدة من أكثر مراحل التاريخ المصرى إثارة للجدل، ففى السنة الخامسة من حكمه دعا إلى عبادة إله واحد هو «آتون»، وألغى عبادة «آمون»، الإله الراعى لطيبة، ثم نقل عاصمته إلى مدينة جديدة أسماها أخيتاتون (تل العمارنة حاليًا)، وتميّز عصره بنمط فنى جديد أكثر واقعية، ومنه التمثال الشهير لزوجته نفرتيتى، كما اكتُشفت فى عاصمته رسائل تل العمارنة، وهى 382 لوحًا طينيًا تسجّل مراسلاته مع ممالك الشرق القديم، وتشهد على دبلوماسية مصر الرفيعة. وتولى الملك توت عنخ آمون العرش فى التاسعة من عمره، بعد اضطرابات دينية وسياسية كبيرة، وكان ابن «أخناتون»، وسرعان ما بدأ فى إعادة عبادة «آمون» وإحياء الطقوس التقليدية، مغيرًا اسمه من «توت عنخ آتون» إلى «توت عنخ آمون»، كما أعاد المركز الإدارى إلى ممفيس، ورمم المعابد، واستأنف العلاقات الخارجية. وعلى الرغم من وفاته المبكرة، فإن مقبرته التى اكتُشفت عام 1922 مليئة بالكنوز المذهلة التى خلدت اسمه، فيما ظل سبب موته لغزًا تتنازعه نظريات الطب والخيال. ويعد حورمحب آخر فراعنة الأسرة الثامنة عشرة، تولى الحكم بعد وفاة الوزير آى، مستغلًا خلفيته العسكرية لترميم ما خلّفته فوضى عهد إخناتون، وبدأ بإصلاحات سياسية وإدارية صارمة، مكافحًا الفساد فى جهاز الدولة، وأعاد تنظيم الإدارة والكهنوت، فوحّد السلطة من جديد، واستخدم مواد معابد إخناتون لبناء صروحه فى الكرنك، وأقام البوابات الثانية والتاسعة والعاشرة، كما شيّد معابد فى النوبة، منها معبد مكرّس للإله «ست». وفى نهاية حكمه الذى دام 14 عامًا، استعاد لمصر قوتها وهيبتها، واختار الوزير بارامسيس خلفًا له، الذى صار لاحقًا رمسيس الأول، مؤسس الأسرة التاسعة عشرة، وبداية عهد جديد من المجد تقوده أسماء خالدة مثل «رمسيس الثانى العظيم».