قد يُخطئ السياسي في التقدير، وقد يُسيء قراءة لحظة تاريخية، لكن ما ارتكبه توني بلير يتجاوز حدود "الخطأ السياسي" إلى جريمة كبرى في حق القانون الدولي والضمير الإنساني ليس فقط لأنه قاد بلاده إلى غزو العراق عام 2003 استنادًا إلى معلومات استخباراتية ثبت لاحقًا أنها مضلِّلة أو مفبركة، بل لأنه استمر في الدفاع عن القرار حتى بعد أن انهارت كل الذرائع، ثم عاد ليطلّ على الشرق الأوسط في ثوب "المبعوث الدولي للسلام" محاولًا أن يُعيد تسويق نفسه وكأن التاريخ لم يُسجّل جريمته الأصلية واليوم، مع محاولات بلير أن يتدخّل في الملف الفلسطيني–الغزّاوي بخطابات استشارية أو أدوار "تقييمية"، فإن السؤال يفرض نفسه: أي شرعية بقيت لرجلٍ لا تزال دماء العراق عالقة بقراراته؟ العراق: البداية التي لا تُمحى في مارس 2003، قدّم بلير نفسه كالحليف الأقرب لجورج بوش الابن في قرار غزو العراق الذريعة كانت أسلحة الدمار الشامل، والنتيجة تدمير دولة، وانفجار الفوضى الطائفية، ومقتل مئات الآلاف من المدنيين تقرير تشيلكوت عام 2016 لم يترك مجالًا للالتباس: الاستخبارات كانت معيبة، الحرب لم تكن "الخيار الأخير"، والتخطيط لمرحلة ما بعد الغزو كان كارثيًا يومها، قال بلير: "أعتذر عن الأخطاء في المعلومات والتخطيط" لكنه أصرّ أن قرار الغزو "كان صائبًا في جوهره" هكذا تحوّل الاعتذار من موقف أخلاقي إلى مناورة لفظية: يعترف بالهامش ويُبرّئ الجوهر. الأخطر أن بلير استخدم أدوات الدولة لتزييف المشهد: "ملف سبتمبر" الذي ادّعى أن العراق قادر على استخدام أسلحة خلال 45 دقيقة؛ "الملف المزوّر" الذي استُنسخ من أطروحات أكاديمية مع تغيير اللغة لتبدو أكثر تهديدًا؛ والتلاعب الذي أدى إلى انتحار الخبير ديفيد كيلي بعدما اتُّهمت حكومته بتلميع الاستخبارات هذه لم تكن زلّات عرضية، بل منظومة تضليل متكاملة لإقناع الداخل البريطاني والعالم بأن الحرب لا مفر منها. من بغداد إلى غزة: استنساخ المنطق نفسه بعد خروجه من رئاسة الوزراء، ارتدى بلير ثوب "المبعوث الرباعي للشرق الأوسط" بين 2007 و2015 لكن دوره في عملية السلام لم يُنتج اختراقًا يُذكر المشاريع الاقتصادية التي روّج لها لم تُغيّر الواقع، وفشله في الضغط على إسرائيل كشف محدودية قدرته أو عدم جديته بالنسبة للفلسطينيين، بدا بلير أقرب إلى ممثل للمصالح الغربية والإسرائيلية منه إلى وسيط محايد. واليوم، مع اندلاع الحرب على غزة، يطلّ بلير مجددًا ليطرح "رؤى" و"نصائح" حول تسويات محتملة، في لحظة يُحاول فيها بعض الغربيين إعادة إنتاج سيناريوهات قديمة: تهجير، إعادة هندسة القطاع، أو فرض إدارة دولية بديلة وهنا تتجلى خطورة بلير: الرجل الذي دافع عن غزو العراق بذريعة كاذبة، هو نفسه الذي يحاول أن يضع قدميه في ملف غزة بذريعة "إعادة الإعمار" أو "التسوية"، بينما الجوهر هو حماية إسرائيل ومنحها غطاءً دوليًا جديدًا. الجريمة الكبرى: نمط لا يتغير إذا جمعنا خيوط مسيرة بلير، نجد خيطًا أحمر متصلًا: استخدام القانون الدولي كأداة تجميلية لتغطية سياسات القوة، لا كمرجعية ملزمة، في العراق استند إلى أكاذيب الاستخبارات ليُبرّر حربًا لم تُفوَّض من الأممالمتحدة في ليبيا، كشفت الوثائق عن تورّط أجهزة بريطانية في عمليات تسليم قسرية لمعارضين (قضية عبد الحكيم بلحاج) وهو ما اعترفت به الحكومة لاحقًا وفي الداخل البريطاني، اهتزت صورته بفضائح "أموال مقابل ألقاب" التي حاصرته في سنواته الأخيرة بالسلطة. كل ذلك يجعل من بلير نموذجًا لسياسي يرى في الأخطاء "مجرّد سوء تقدير" بينما حقيقتها جرائم تورّطت فيها دولة بأكملها اعتذاراته الجزئية لا تُغيّر جوهر القضية: أنه كان شريكًا رئيسيًا في قرار دمّر العراق، فتح أبواب الإرهاب، وأفقد بريطانيا ثقة شعوب المنطقة. مصر والقضية الفلسطينية: التناقض الفاضح المفارقة أن القاهرة — الدولة التي ترفض بشكل قاطع أي محاولات لتصفية القضية الفلسطينية عبر التهجير أو الحلول الجزئية — تجد نفسها اليوم في مواجهة مع خطاب بلير الجديد مصر تُدير الملف الفلسطيني بمنطق القانون الدولي، الشرعية الأممية، والدعم الإنساني؛ بينما بلير يعيد إنتاج منطق 2003: تسويات فوقية، وإعادة هندسة جيوسياسية لا مكان فيها لحقوق الشعوب. ولهذا، فإن استدعاء اسم بلير في أي مبادرة متعلقة بغزة لا يحمل سوى معنى واحد: إعادة تلميع رجلٍ لم يتعلّم من خطيئته الكبرى وإذا كان العالم قد عانى من كلفة أكاذيبه في العراق، فإن تكرار السيناريو نفسه في غزة سيكون جريمة مضاعفة. توني بلير يحاول أن يكتب لنفسه سيرة جديدة عبر معاهد ومؤسسات استشارية، لكنه يظل أسير صفحة لم تُطوَ: العراق 2003 التاريخ لا يرحم، والذاكرة الشعبية لا تُسامح بسهولة كلما تحدث عن "السلام" أو "الإصلاح"، تذكّر العالم صور بغداد المحترقة وملفات الاستخبارات المزوّرة. لا نأسف على الإزعاج... لكن الحقيقة البسيطة أن الرجل الذي شارك في أكبر جريمة سياسية في مطلع القرن لا يملك شرعية ليُعيد هندسة مستقبل غزة أو فلسطين وإذا كان قد فشل في تسويق وهم "أسلحة صدام"، فإن وهمه الجديد لن يجد في المنطقة إلا رفضًا عميقًا، لأن الشعوب تعلّمت أن الأكاذيب مهما طال عمرها لا تبني سلامًا، بل تفتح أبواب كوارث جديدة.