بدا الأمر كأحد تلك الاجتماعات الغامضة التي تتقنها واشنطن؛ جلسة مغلقة في البيت الأبيض، وُصفت رسميًا بأنها «اجتماع سياسى» حول غزة، من دون حضور للصحافة، بينما لم تتسرب قائمة المدعوين إلا على نحو متقطع. كان الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» على رأس الطاولة متصدرًا دوره ك«صانع للسلام»، وإلى جانبه جلس صهره «جاريد كوشنر»، الذى لم يعد مسئولًا رسميًا فى الحكومة، لكنه ظل فاعلًا رئيسيًا فى الاستثمارات الإقليمية، وذراعه الطويلة فى ملف الشرق الأوسط، وكان هناك أيضًا «تونى بلير»، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، الذي تحول منذ سنوات إلى شخصية تجوب العالم لتقديم الحلول فى الملفات المعقدة، لا سيما قضايا «اليوم التالى» بعد النزاعات. مزيج غير معتاد من الشخصيات اجتمع فى لحظة فارقة؛ مجاعة تخيِّم على غزة، وضغوط دولية لصياغة خارطة طريق، ورئيس وعد بأن يحسم الملف بوتيرة أسرع مما يتصوره خصومه. ■ المساعدات الغذائية إلى غزة ◄ انتقادات دولية لخطط التهجير تحت غطاء الاستثمار ◄ «جارديان»: الفلسطينيون مستبعدون من تقرير مصيرهم التقارير الإعلامية توافقت على الخطوط العريضة. وكالة «رويترز» ذكرت أن الاجتماع تناول أزمة المعتقلين، وزيادة المساعدات الغذائية إلى غزة، ومستقبل الحوكمة بعد الحرب. بينما أكدت «الجارديان» حضور بلير، وأشارت إلى وجود كوشنر. وقدم موقع «أكسيوس» القصة بوصفها «سبقًا صحفيًا»، مضيفًا تفصيلًا لافتًا هو مشاركة «رون ديرمر»، الوزير الإسرائيلي المقرّب من رئيس الوزراء «بنيامين نتنياهو». وهذا التفصيل يوضح أن الأمر لم يكن نقاشًا نظريًا، بل ساحة تفاوضية مباشرة جرى فيها إدخال الصوت الإسرائيلى إلى قلب المشهد مع الرئيس الأمريكي. ◄ لماذا بلير؟ لكن لماذا بلير؟ بلير لم يهبط فجأة على المشهد. فمنذ مغادرته منصب الموفد الدولى للجنة الرباعية، ظل حاضرًا من خلف الستار؛ يزور العواصم، يقدم المشورة، ويبنى شبكة من العلاقات مع رجال المال وصناع القرار من خلال معهد «تونى بلير للتغيير العالمى». إرثه فى فلسطين مثير للجدل؛ البعض يراه إصلاحيًا ساهم فى مشاريع اقتصادية محدودة، والبعض الآخر يعتبره واجهة دولية غسلت وجه الجمود السياسى وأبقت الفلسطينيين رهائن «إدارة الأزمة» بدلًا من حلها. غير أن هذه الازدواجية هى ما يجعل وجوده مطلوبًا الآن فى غرفة القرار. هناك سبب آخر لوجود بلير. فخلال العام الماضى شارك فريق معهده فى مكالمات ومجموعات رسائل حول مشروع «Great Trust» الذى اقترح إنشاء «ريفييرا ترامب» و»منطقة تصنيع ذكية». هذه الفكرة طُرحت بالتعاون مع رجال أعمال إسرائيليين وشركة مجموعة بوسطن الاستشارية (BCG)، لكنها لم تكن من إعداد المعهد نفسه، وفقًا ل«الجارديان».. الخطة تضمنت عرضًا مشكوكًا فيه بدفع تعويضات لنحو نصف مليون فلسطينى لمغادرة غزة، وهو ما لاقى انتقادات واسعة بوصفه «طردًا قسريًا» أو إبادة عرقية. كما عمل معهد بلير على مشاريع تتعلق بالممر الاقتصادى الجديد (India-Middle East-Europe Corridor – IMEC) الذى طُرح فى قمة العشرين فى سبتمبر 2023 كبديل استراتيجى لطريق الحرير الصينى، ما يجعل غزة ورقة جغرافية - اقتصادية لا يمكن إغفالها. مؤسسة بلير أقرت باتصالات مع الفريق الذى يطرح هذه الرؤى، رغم نفيها تأييد أى مخططات تهجير. وهكذا دخل بلير الاجتماع حاملًا أوراقًا وأفكارًا مثيرة للجدل، ومحاطًا فى الوقت ذاته بانتقادات واسعة. أبرزت الصحافة البريطانية التهم الموجهة إلى بلير ومعهده، والرسالة العامة بأن خططه لا تشمل تمثيلًا فعليًا للفلسطينيين، ما يشير إلى تهميشهم فى تحديد مستقبلهم. أما صحيفة «الإندبندنت»، فترى فى بلير مترجمًا يستطيع أن يحول الخطاب الإسرائيلى إلى صيغة يمكن للآخرين قبولها وتمويلها، والعكس صحيح. وبصفته مشرّعًا، يمنح الخطة غطاءً من الخبرة والتجربة، وهى صياغة وفرت غطاءً سياسيًا لإشراك شخصية مثيرة للجدل فى رسم مصير قطاع محاصر. ■ ترامب وكوشنر وبلير ◄ نقاش عملي ومن ناحية أخرى، فإن وجود ديرمر وكوشنر فى الاجتماع كشف أن النقاش لم يكن أكاديميًا، بل عمليًا للغاية؛ كيف يمكن دمج الخطوط الحمراء الإسرائيلية والجداول الزمنية الأمريكية فى صيغة واحدة. حضور كوشنر كان بمثابة المفتاح بين ترامب والقيادات الإسرائيلية. وقد وصفت صحيفة «ديلى بيست» عودته إلى الملف بأنها مفاجأة، لكنها كشفت أن سياسة غزة فى البيت الأبيض تُصاغ عبر شبكات شخصية أكثر من المؤسسات الرسمية. لكن لهذه الخطوة مخاطر كبيرة. فقد لفتت «الجارديان» إلى جوهر الأزمة وهو أن الفلسطينيين مستبعدون من النقاشات حول مستقبلهم. وهذا الاستبعاد لا يقتصر على الرمزية، بل يهدد أى خطة بالانهيار لاحقًا بسبب غياب الشرعية. كما أن سجل بلير السابق، الذى يثير الثقة لدى بعض النخب التقنية والشك لدى الكثيرين، قد يتحول إلى عبء إذا أصبح وجهًا لأى خطة. المشهد فى واشنطن بدا معقدًا. فوزارة الخارجية بقيادة «ماركو روبيو» تتحرك فى مسار موازٍ، بلقاءات مباشرة مع الإسرائيليين، بالإضافة إلى قرار رفض وإلغاء تأشيرات لأعضاء فى السلطة الفلسطينية قبل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر الجارى، حيث تعتزم فرنسا الاعتراف بدولة فلسطين. وقالت الخارجية الأمريكية فى بيان إن واشنطن لن تمنح تأشيرات لمسئولين فلسطينيين لحضور مؤتمر أممى بشأن حل الدولتين. ■ جيش الاحتلال يواصل جرائمه في القطاع ◄ الأبواب مفتوحة من جانبه، يتعمد البيت الأبيض وصف الاجتماع بأنه «مجرد جلسة سياسية»، فى محاولة لترك الأبواب مفتوحة أمام خيارات متعددة، بينما يختبر المزاج الداخلى الأمريكى تجاه أى مبادرة فى غزة تُسوّق على أنها إنسانية وسريعة وقائمة على الاستثمارات. الرؤية الاقتصادية طويلة الأمد – «الريفييرا» – أُعيد تقديمها بلغة أكثر هدوءًا، كإطار لإقناع من أجل إيجاد التمويل، ولعرض إنجاز ملموس أمام الداخل الأمريكى. وأكدت صحيفة «واشنطن بوست» أن خطة لما بعد الحرب فى غزة يجرى تداولها داخل إدارة ترامب، وتتضمن وضع القطاع تحت الوصاية الأمريكية لمدة لا تقل عن عشر سنوات، وتحويله إلى منتجع سياحى ومركز للتكنولوجيا والتصنيع، وفقًا لمسودة الخطة المكونة من 38 صفحة، والمستوحاة من تعهد ترامب بالاستيلاء على القطاع. ◄ تاريخ بلير لا يزال بلير مكروهًا بسبب كذبه الفاضح حول أسلحة الدمار الشامل لتبرير غزو العراق عام 2003. وها هو يعود إلى الشرق الأوسط بوعود كاذبة عن «سلام مزدهر» بعد الحرب، توازى أكاذيب الأمس عن «عراق مزدهر بعد الغزو». ظهور بلير فى قلب البيت الأبيض يشير إلى اتجاه واضح: سياسة غزة فى عهد ترامب تسير نحو صياغة «اليوم التالى» عبر دائرة ضيقة من الوسطاء ذوى العلاقات الشخصية والمصالح الاقتصادية، أكثر من المؤسسات الرسمية أو التمثيل الفلسطيني. قد تنتج هذه المقاربة خطوات سريعة، مثل زيادة المساعدات أو إنشاء ممر تجاري تجريبي. لكن مصيرها على المدى البعيد سيتوقف على سؤال واحد: هل سيكون للفلسطينيين مقعد حقيقى حول الطاولة، يتيح لهم قول «لا» وإعادة تشكيل الخطة؟ أم ستظل خطط غزة تُرسم في الغرف المغلقة، بلا أصحاب الأرض؟!