على عكس ما يدور فى ساحات الكلام الدبلوماسى عن حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية، يطبق الاحتلال الإسرائيلى سياسة ممنهجة تهدف لابتلاع الضفة الغربية عبر الاستيلاء على الأراضى والممتلكات الفلسطينية والتوسع فى إقامة المستوطنات الصهيونية بديلًا عن المدن والأحياء العربية، تمهيدًا لضم الضفة ودق المسمار الأخير فى نعش فكرة حل الدولتين والإطاحة بها وإنهاء الهوية السياسية للشعب الفلسطيني. على مدى السنوات اتخذت حركة الاستعمار الصهيونى سبلًا متنوعة منها تنظيم موجات الهجرة اليهودية من أنحاء العالم إلى فلسطين، محو قرى عربية بالكامل أو استبدال الأسماء العربية بأسماء عبرية، إصدار القوانين السالبة لحقوق ملكية الفلسطينيين لأراضيهم وممتلكاتهم، طرد الفلسطينيين من مواطنهم وإخلاء القرى والمدن العربية من سكانها، التوسع فى البناء الاستيطانى ومصادرة الأراضى وهدم المبانى الفلسطينية. اقرأ أيضًا | 1٫9 مليون نازح قسرًا بغزة |الاحتلال يعزز تواجده بالضفة ويعزل 3 قرى بالقدس مرت حركة الاستيطان اليهودى فى فلسطين وتحديدًا فى الضفة الغربية بعدة محطات كبرى، تواكبت إرهاصاتها مع أولى موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين قبل انعقاد المؤتمر الصهيونى الأول فى بازل العام 1897 مرورًا بمرحلة تأسيس الكيان عام 1948، ثم توسعت الفكرة بعد حرب يونيو 1967 على أثر احتلال إسرائيل للضفة الغربيةوالقدسالشرقية، ثم جاءت مرحلة ما بعد اتفاق أوسلو، وانتهاءً بما يعرف بخطة «إى وان» المنسوبة خطأ لوزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش، لكنها تعود لأكثر من عقدين من الزمان. كل ما فعله سموتريتش هو اقتناص لحظة سيطرة اليمين الصهيونى وأزاح عنها الغبار لتترعرع فى أحضان الحكومة الحالية، أشد الحكومات الإسرائيلية تطرفًا ليضعها فى حيز التنفيذ وأطلق عليها اسم «خطة الحسم»، وأثنى عليها وروج لها رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو وهى المرحلة التى أعقبت الحرب على غزة التى نشبت فى السابع من أكتوبر 2023. ومع تولى الصهيونية الدينية بقيادة سموتريتش وبن غفير ملفات الاستيطان والأمن الداخلى وإدارة الضفة، أصبح العمل أكثر وقاحة وانكشافًا وتسارعًا، وأكثر منهجية وتنظيماً، دون أدوات التجميل أو الرتوش التى كانت تضعها الحكومات السابقة، وأصبح الكلام الرسمى الإسرائيلى لا يحتمل اللبس فى انتهاء حلّ الدولتين. اليوم تستعرض«الأخبار» الخطط الصهيونية للاستيطان وابتلاع الضفة الغربية، التى تتحدى القانون الدولي، وأثر ذلك على مجمل الأوضاع ومصير الدولة الفلسطينية. البذرة والثمرة كانت البذرة حين أنشأ القوميون اليهود حوالى 19 مستوطنة، كانت هى نواة حركة الاستيطان فى فلسطين وسميت الواحدة منها «موشافاه» أقيمت هذه المستوطنات عام 1882 على يد مهاجرين يهود من حركتى أحباء صهيون وبيلو، وذلك على أراضى قرية عيون قارة، التى احتلتها العصابات الصهيونية كاملة عام 1948. كانت أشهرها مستوطنات: بتاح تكفاه، ريشون لتسيون اتخذ الاستيطان اليهودى شكل المزارع المشتركة والمستوطنات العمالية، فكانت «الموشافيم»، و»الكيبوتسيم». رغم تواضع حجم هذه المستوطنات الزراعية، فإنها أرست الأسس المؤسسية والأيديولوجية لسياسة الاستيطان الإسرائيلية غير القانونية الأوسع نطاقًا. الموشاف مصطلح عبرى يشير إلى قرية زراعية تُكَوِّنُفيه الأسر وحدات اقتصادية تدير قطعة الأرض بشكل خاص بها، وتعود ملكية أراضى الموشاف للصندوق القومى اليهودي. وقد أقيم أول موشاف عمالى عام 1921 فى شمال مرج ابن عامر. أما الكيبوتسيم فهى تجمعات لمهاجرين أجانب مُنحوا الإذن بالبقاء لفترة غير محدودة، فى فلسطينالمحتلة، وتضم المستوطنات عددًا من المزارعين والعمال الذين يعيشون ويعملون سوياً. شهدت حركة الاستيطان القروى فى إسرائيل ازديادًا كبيرًا نتيجة لهجرة اليهود إلى إسرائيل فى أعقاب قيامها وخلال خمس سنوات من 1949 وحتى 1953 أُنشئت 300 قرية استيطانية جديدة. وشهدت إسرائيل موجة أخرى من ازدياد الاستيطان القروى بعد حرب 1967 وحتى عام 1979 أُقيمت خلالها 79 مستوطنة قروية جديدة، وأخذت السياسة الإسرائيلية توجه اهتمامها نحو إقامة استيطان قروى وصناعى معًا على الأراضى الفلسطينيةالمحتلة فى قطاع غزة والضفة الغربية. ومن أكبر أربع مستوطنات هى موديعين عيليت، ومعاليه أدوميم، وبيتار عيليت وأرئيل، وهى مستعمرات وصلت لحجم مدينة فمستوطنة أريئيل يقطنها 18000 شخص فى حين أن بقية المستوطنات يتراوح عدد سكانها ما بين 37000 إلى 55500 مستوطن لكل منها. ومن أخطر المخططات الصهيونية فى هذا السياق،خطة «ينون» التى كتبها عوديد ينون، الصحفى والدبلوماسى ومستشار رئيس الوزراء الإسرائيلى السابق أرئيل شارون. وظهرت للمرة الأولى فى مجلة «كيفونيم» (اتجاهات) التى تصدرها المنظمة الصهيونية العالمية فى فبراير 1982، واستندت إلى رؤية هيرتزل ومؤسسى دولة الكيان الصهيونى نهاية الأربعينيات، وأعيد نشرها بعد ترجمتها إلى الإنجليزية فى 7 نوفمبر 2015. وكانت تتعلق بإقامة «إسرائيل الكبرى»، وتشكل حجر الزاوية فى سياسات القوى السياسية الصهيونية الممثلة فى حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو، وكذلك فى سياسات مؤسستى الجيش وال الاستخبارات بإسرائيل. وتركّز على إضعاف الدول العربية وتقسيمها لاحقًا كجزء من المشروع التوسعى الصهيوني، وعلى الاستيطان بالضفة الغربية وطرد الفلسطينيين من فلسطين وضم الضفة وقطاع غزة لإسرائيل. معطيات خطيرة تواصلت وتيرة الاستيطان برغم التوقيع على اتفاقات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية على حكم ذاتى جزئى فى الضفة الغربيةوغزة.وقسمت اتفاقات عام 1995، المعروفة باسم أوسلو الثانية، الضفة الغربية إلى مناطق تخضع أمنيًا بالكامل (المنطقة أ) أو جزئيًا (المنطقة ب) للسلطة الفلسطينية، أو لإسرائيل حصريًا (المنطقة ج التى تشكل 60% من مساحة الأرض). وتقع مدينة رام الله حيث مقر السلطة الفلسطينية التى أنشئت عام 1994 فى المنطقة أ، وكذلك المدن الرئيسية الأخرى فى الضفة الغربية (جنين ونابلس وأريحا وبيت لحم وجزء من الخليل). منذ توقيع اتفاق أوسلو،واصلت سلطات الاحتلال مصادرة الأراضى العربية، بالاستناد إلى الأوامر العسكرية والذرائع الأمنية وغير الأمنية. «بلغت مساحة الأراضى المصادرة فى الفترة ما بين توقيع اتفاق أوسلو أكتوبر 1994، نحو 70 ألف دونم، خصصت 10 آلاف دونم منها لتوسيع المستوطنات القائمة، بحسب مصادر السلطة الفلسطينية. وجرى معظم المصادرات فى الفترة الفاصلة بين توقيع اتفاق أوسلو واتفاق القاهرة (مايو 1994)، حيث بلغ معدل المصادرات 8630 دونماً فى الشهر الواحد. كانت سنة 1994 أول سنة كاملة تمر بعد توقيع اتفاق أوسلو، وتشهد تطبيق بنود فيه وقد كشفت حركة «السلام الآن» الإسرائيلية النقاب عن معطيات خطيرة، فى مؤتمر صحفى عقدته فى القدس فى 9 يناير 1995، أن سلطات الاحتلال صادرت، خلال سنة 1994 وحدها، ما مجموعه 30 ألف دونم من الأراضى العربية فى الضفة: 4 آلاف دونم لتوسيع 11 مستوطنة؛ 17 ألف دونم لاستعمالها مقالع حجارة؛ نحو 9 آلاف دونم أُعلنت محميات طبيعية. وقد علّقت الحركة على خطط توسيع المستوطنات، كما تجسدت فى 11 خطة هيكلية، بما يلي: «يبدو أن الحكومة تنفذ فى الضفة الغربية سياسة تقطيع إلى مناطق يهودية وأخرى عربية بهدف إيجاد كانتونات فلسطينية داخل المناطق التى تديرها إسرائيل» خطة المنطقة تعود هذه الخُطّة إلى عام 1994 عندما طرحها رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق إسحق رابين،وأقرّها لاحقًا وزير الدفاع الإسرائيلى إسحق مردخاى عام 1997. توقّف تنفيذ الخطّة لأكثر من عقدين تحت ضغط دولى لأن المنطقة أحد آخر الروابط الجغرافية بين مدينتى الضفة الغربية الرئيسيتين رام الله وبيت لحم. وتبعد المدينتان 22 كيلومترًا عن بعضهما البعض جوًا. ولكن بمجرد اكتمال مشروع مستوطنة إي1، فإنه سيدمر إمكانية وجود طريق مباشر وسيُجبر الفلسطينيين المسافرين بين المدن على الاستمرار فى اتخاذ منعطف واسع يبتعد عدة كيلومترات عن طريقهم، مرورًا بنقاط تفتيش متعددة، وهى عملية تضيف ساعات إلى الرحلة، إلاّ أن السلطات الإسرائيلية عاودت العمل بها فى 2014، خاصةً بعد إعلان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس فى 2018. يتضمّن المُخطَّط إنشاء مُستوطنات إسرائيلية جديدة تضم 4,000 وحدة ومنطقة صناعية وعشرة فنادق ومقبرة كبيرة تمتد على مساحة 12٫443 دونم من الأراضى المُصادَرة من قرى عناتا والطور وحزما بالإضافة إلى العيزرية وأبو ديس، والتى تُعتبر جميعها الامتداد السكانى الطبيعى للفلسطينيين شرق القدس، مما يعنى ضم هذه المناطق إلى إسرائيل ضمن ما تسمّيه الأخيرة «أراضى دولة». تمتد هذه المنطقة الجبلية فى وسط الضفة الغربية، ويحدّها من الغرب التلة الفرنسية فى القدس، ومن الجنوب الغربى أبو ديس، ومن الجنوب مستوطنة كيدار، ومن الشرق مستوطنة معاليه أدوميم، ومن الشمال مستوطنة علمون. كما تشمل جيبًا صغيرًا يقع شرق مستوطنة معاليه أدوميم على الطريق 1 السريع بين القدس وأريحا، ويضم تجمّعات بدوية فلسطينية مثل الخان الأحمر. فى أغسطس 2025،صادقت إسرائيل نهائيًا على تنفيذ المشروع الذى اقترحه سموتريتش ويرمى إلى ضم 82% من أراضى الضفة. وأقرت مخطط «إى 1» لبناء 3400 وحدة استيطانية، وهو ما من شأنه فصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها. قبل التصديق النهائى على المشروع، تسارعت وتيرة التوسع الاستيطانى تزامنًا مع حرب الإبادة فى قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، وصعّد جيش الاحتلال والمستوطنون هجماتهم على الفلسطينيين فى الضفة الغربية، وبعد شهرين، صوّت الكنيست لصالح نص يدعو الحكومة إلى ضم الضفة الغربية وإسقاط أى مشروع لإقامة دولة فلسطينية. وفى 21 يناير 2025 شن جيش الاحتلال عملية عسكرية أطلق عليها اسم»السور الحديدي» فى عدة مناطق بالضفة الغربية، حيث نشر دباباته لأول مرة منذ نهاية الانتفاضة الثانية، وأدت هجماته إلى تهجير 40 ألف فلسطينى على الأقل وقد كشف تقرير صادر فى أكتوبر 2024 عن منظّمة «السلام الآن» الإسرائيلية عن إنشاء 43 بؤرة استيطانية جديدة على أراضى الضفة الغربيةالمحتلة منذ شن إسرائيل حرب الإبادة الجماعية على غزّة. وقالت المنظّمة إن هذا العدد غير مسبوق، ويمثّل زيادة بمقدار 6 أضعاف عن المتوسط السنوى المُسجّل بين عامى 1996 و2023، ويجعل سياسة الحكومة الإسرائيلية واضحة تماماً: ضمّ الضفة الغربية وتقليص المساحة الفلسطينية فى المنطقة. وقال سموتريتش إن «خطط التوسع الاستيطانى فى تلك المنطقة تدفن فكرة الدولة الفلسطينية». من شأنها فصل القدسالشرقية عن الضفة الغربيةالمحتلة، فى خطوة وصفها مكتبه بأنها ستقضى على فكرة إقامة دولة فلسطينية. تهدف إلى قطع أوصال الضفة الغربية، عزل القدس، وإنهاء أى تواصل جغرافى بين مدن الشمال والجنوب. المستوطنات والقانونين فى حين لا يعترف القانون الدولى بشرعية المستوطنات الصهيونية المقامة على أراضى الضفة الغربية، ويعتبرها عملًا من أعمال الاحتلال، استنادًا إلى إحدى قاعدتين: إما لأن المستوطنات تمثل خرقًا للمادة 49 من اتفاقية جنيف، أو لأنها مخالفة للإعلانات الدولية. منذ احتلال الضفة الغربية عام 1967، أكدت العديد من قرارات الأممالمتحدة، مثل 446 و452 و465 و471 و476، بشكل واضح أن احتلال إسرائيل غير قانوني. وعلاوة على ذلك، أكد القرار 446، الذى تم تبنيه فى 22 مارس 1979، أن المستوطنات التى أقيمت فى المنطقة تفتقر إلى الشرعية القانونية وتمثل عائقًا كبيرًا أمام تحقيق السلام. يؤكد قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2334، الذى تم تبنيه فى عام 2016، أن أنشطة الاستيطان الإسرائيلية تمثل «انتهاكًا صارخًا» للقانون الدولى ولا تتمتع «بأى شرعية قانونية». ويدعو القرار إسرائيل إلى وقف هذه الأنشطة والالتزام بمسؤولياتها كقوة احتلال وفقًا لاتفاقية جنيف الرابعة. كما أكّد كل من مجلس الأمن، والجمعية العامة للأمم المتحدة، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، ومحكمة العدل الدولية، والأطراف العليا الموقعة على الاتفاقية، أن اتفاقية جنيف الرابعة تنطبق على المستوطنات الإسرائيلية. وقد احترمت العديد من الدول الأوروبية هذا المبدأ الدولى وأعلنت مقاطعة المنتجات الزراعية الصادرة من مستوطنات الضفة لأنها مزروعة على أرض محتلة. إلا أن إسرائيل تحتج بأن القانون الإسرائيلى فى مستوطنات الضفة الغربية يطبق القانون الإسرائيلى على المستوطنات الإسرائيلية والمدنيين الإسرائيليين فى المنطقة ج من الضفة الغربية، وهى أرض خاضعة للاحتلال العسكرى الإسرائيلى وبالتالى تخضع للقانون العسكري. يتم تطبيق بعض الأحكام على أساس شخصي، بحيث تنطبق على المقيمين كإسرائيليين بدلاً من قانون تلك الأرض، وقد أدى تطبيق القوانين إلى إنشاء «جيوب» من القانون الإسرائيلى فى الضفة الغربية التى تحتلها إسرائيل، ويستخدم مصطلح «قانون الجيب» أو «العدالة القائمة على الجيب» لوصف النظام القانونى الناتج عن تهجين القانون الإسرائيلي.