بيتر ماهر الصغيران «إذا صدقت، سوف ترى أن الصورة ترمش بالعين اليسرى»، هذا ما أخبرنى به أبى عن المرأة حاملة الخبز الموجودة فى الصورة. منذ الطفولة، بدت الصورة غريبة! امرأة ذات ملامح حادة، حولها مجموعة من الأطفال، ويقبع فى أسفل الصورة كائن يشبه الكلب أو الذئب؛ فقد تحيرت كثيرًا فى تسميته، خصوصًا أنه كان نصف إنسان ونصف حيوان! سألت والدى كثيرًا عن تفاصيلها، وعن هوية من رسمها، لكنه لم يُجب إجابة محددة. ما كان يدعونى إلى الدهشة أكثر، هو مراقبة طقوس أبى الليلية؛ كان يشعل أعوادًا من البخور الهندى أمام الصورة، ثم يجلس إلى جوارها يستنشق الرائحة، ينحنى أمامها ويُقبّلها، ثم يخلد إلى النوم. كان يفعل هذا كل مساء بلا ملل ولا كلل، وإذا حاولت الاقتراب منه وقت تلك الممارسات، ينهرنى بشدة، ويأمرنى بعدم مغادرة الغرفة حتى ينتهى من كل طقوسه المعتادة. وذات مرة، تسللت بعد أن خلد إلى النوم، ظللت أكلم الصورة وأسألها: «ما حكايتك؟» هل أنتِ امرأة ذات بركات وهبات؟ ما حكاية هذا الكائن الآخر؟» لم أجد إجابة على أسئلتى. مرت السنوات، وتوفى أبى، ليحتفظ بكل الأسرار لنفسه. وفى اليوم التالى لوفاته، أصابنى الذهول: وجدت بعض قطرات ماء قد سقطت داخل الصورة! ركّزت النظر فى العينين، واكتشفت أنها دموع! أما الكائن الذى حيّرنى طويلاً، فقد غيّر وضعيته وأصبح جالسًا! أحضرت متخصصًا فى فهم الأرواح، أنزل الصورة، أشعل مصباحًا كهربائيًا صغيرًا، وظل يفحصها وهو يتمتم بعبارات غير مفهومة بصوت خفيض. لكنه لم يلاحظ شيئًا، ورحل. فى ليلة أخرى، سمعت أصواتًا آتية من الصالة. خرجت من الغرفة، فوجدت امرأة توزّع الخبز على الأطفال، ثم التفتت إلىَّ وقالت: «ابنى الحبيب، تعال». قلت بدهشة: «ابنك؟!» فقالت: «تعال يا ولدى... لن أتركك بعد اليوم، لن أدع الشمس تلسع وجهك، سأحوّلها لخدمتك. أنا أمك... أنا هنا فى عالم لا نهائى، بلا حواجز ولا مسافات». قلت بانفعال: «أخبرنى أبى أنكِ ميتة منذ أن كنتُ صغيرًا، وأننا لم نكن نعرف حتى مكان جثمانك!» أجابت: «لقد أخفى عنك الحقيقة... أنا يمامة العالم الآخر. أنا عائدة مع أنوبيس». ثم أشارت إلى الكائن الذى كان مجهول الهوية وقالت: «تخيل! تمرد على مساعدة الموتى فى رحلاتهم الأخيرة، لذا حُكم عليه بالفناء... إلا إذا عاد ليساعد الأحياء والأموات». «اختارنى مجلس القضاء الأعلى لحُسن سِيرى وسلوكى، حتى أتخلص من لعنته التى ستستمر مائة عام أخرى قادمة!» سألتها بتعجب رهيب: «مائة عام؟!» قالت: «نعم، فى عالمنا الزمن نقطة؛ لا ماضٍ، لا حاضر، لا مستقبل». قلت بحب: « أماه... هل تملكين تحقيق رغباتى؟» ردت: – «أنت لم تعثر على مصباح علاء الدين. أوقاتى ليست ملكى، بل ملكهم. أنا صانعة الخبز، غازلة الحرير، مُنتجة العسل الجبلى». ثم صمتت لحظات، وقالت بنغمة حسرة: – «آه، لو رأيت قمحنا هناك وسط الغابات... لن ترى مثله مطلقًا. حتى الألوان الطبيعية، لن تجد مثلها!». قلت بغضب: «أماه... أنوبيس ليس ولدك!». قالت بهدوء: «أنا لا أملك سوى الدعاء إليك بالمجىء إلينا هناك... حتى أبوك لم يصل إلينا بعد». ثم تمتمت بكلمات غريبة: «إنْ أحب الإنسان الحق، فكر أن تُنافس أنوبيس، يمكن أن نصنع لكما مسابقة». شاورت عقلى كثيرًا قبل اتخاذ القرار، ثم قلت: «سأفكر فى الأمر». قالت بتعجب: «تفكر؟» أجبت: «غدًا سأبلغك بالرد». دخلت غرفتى بعد هذا العصف الذهنى، وأنا أحاول إدراك ما رأيت وما سمعت. فى الصباح الباكر، ذهبت إلى الصورة لألقى تحية الصباح، ثم ناديت: «أماه...» اقتربت من وجهها وقبّلته... لكن لا مجيب. «إلى أين ذهبتِ؟ ومتى تعودين؟» مرت أوقات طويلة من الانتظار، وأنا قلق، حائر، متساءل دائمًا: هل لو طبقت وصفتها، سأذهب معها إلى هناك؟ أم سأظل معلّقًا بين شك ورجاء؟