وزير الخارجية يلتقي بسفراء الدول الأوروبية المعتمدين في القاهرة    رسميًا.. ليفربول يتعاقد مع فريمبونج قادمًا من باير ليفركوزن    أمينة خليل تدخل القفص الذهبي وتحتفل ب زفافها على أحمد زعتر (فيديو)    المفتي مكرما حفظة القرآن بالشرقية: لا ينبغي أن يقتصر الحفظ على التكرار والترديد    مصر تدين إسرائيل بالموافقة على إنشاء 22 مستوطنة جديدة في الضفة الغربية المحتلة    نتنياهو يخضع لفحص تنظير القولون.. ووزير العدل الإسرائيلي يتولى مهامه مؤقتا    وفد من مسئولي برامج الحماية الاجتماعية يتفقد المشروعات المنفذة بحياة كريمة في الدقهلية    «تذاكر وانتقالات مجانية».. بيراميدز يضع خطة إزعاج صن داونز    الخريطة الكاملة لأماكن ساحات صلاة عيد الأضحى 2025 في القليوبية    برنامج توعوي مخصص لحجاج السياحة يشمل ندوات دينية وتثقيفية يومية    رئيس الوزراء اليوناني يهاتف الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسى    تامر حسني ينافس كريم عبد العزيز في دور العرض السينمائية    4 مشاهدين فقط.. إيرادات فيلم "الصفا ثانوية بنات"    المركز القومي للمسرح يعلن أسماء الفائزين بمسابقة توفيق الحكيم للتأليف    المنطقة الشمالية العسكرية تستكمل تنفيذ حملة «بلدك معاك» لدعم الأسر الأولى بالرعاية    النتائج وصلت.. رسائل SMS تكشف مصير المتقدمين ل«سكن لكل المصريين 5»| فيديو    عالم بالأوقاف: كل لحظة في العشر الأوائل من ذي الحجة كنز لا يعوض    تقديم خدمات مجانية لأكثر من 1147 حالة بقرية البرشا في المنيا    «متبقيات المبيدات»: تحليل 600 عينة من عسل النحل    سعر الذهب اليوم الجمعة 30 مايو 2025.. عيار 18 بدون مصنعية ب3934 جنيهًا    أمجد الشوا: الاحتلال يستغل المساعدات لترسيخ النزوح وإذلال الغزيين    نادي مدينتي للجولف يستضيف الجولة الختامية من دوري الاتحاد المصري للجولف    ألمانيا تربط تسلم أسلحة إسرائيل بتقييم الوضع الإنساني بغزة    حذرت من التعامل معها.. الرقابة المالية تصدر قائمة بالجهات غير مرخصة    ماكرون: إذا تخلينا عن غزة وتركنا إسرائيل تفعل ما تشاء سنفقد مصداقيتنا    محمد حمدي لاعب زد يخضع لجراحة ناجحة فى الكوع    سقوط المتهم بالنصب على المواطنين ب«الدجل والشعوذة»    شعبة مواد البناء: أسعار الأسمنت ارتفعت 100% رغم ضعف الطلب    الأحد.. مجلس الشيوخ يناقش الأثر التشريعي لقانون التأمين الصحي والضريبة على العقارات المبنية    محافظ الشرقية يستقبل مفتي الجمهورية بمكتبه بالديوان العام    مفتى السعودية: أداء الحج دون تصريح مخالفة شرعية جسيمة    مصدر أمنى ينفى مزاعم جماعة الإخوان بشأن تعدى فردى شرطة على سائق أتوبيس    فى ليلة ساحرة.. مروة ناجى تبدع وتستحضر روح أم كلثوم على خشبة مسرح أخر حفلاتها قبل 50 عام    الأعلى للجامعات: فتح باب القبول بالدراسات العليا لضباط القوات المسلحة    محافظ مطروح يفتتح مسجد عباد الوهاب بحي الشروق بالكيلو 7    4 وفيات و21 مصابا بحادث انقلاب أتوبيس بمركز السادات    حكم من شرب أو أكل ناسيا فى نهار عرفة؟.. دار الإفتاء تجيب    دعاء العشر الأوائل من ذي الحجة لتيسير الأمور وقضاء الحوائج.. ردده الآن    108 ساحة صلاة عيد الأضحى.. أوقاف الإسماعيلية تعلن عن الأماكن المخصصة للصلاة    أزمة تايوان تتفاقم.. واشنطن تعيد تشكيل الردع وبكين تلوّح بالرد    وزير الزراعة يستعرض جهود قطاع تنمية الثروة الحيوانية والداجنة خلال مايو الجاري    ليلة في حب وردة وبليغ حمدي.. «الأوبرا» تحتفي بروائع زمن الفن الجميل    بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من مسجد الشهيد بالقليوبية    كأس العالم للأندية.. ريال مدريد يعلن رسميا ضم أرنولد قادما من ليفربول    الرئيس اللبنانى يزور العراق الأحد المقبل    طهران: تقرير الاستخبارات النمساوية المشكك في سلمية برنامجنا النووي كاذب    نائب وزير الصحة يتفقد عددا من المنشآت الصحية فى البحر الأحمر    النصر السعودي يخطط لخطف نجم ليفربول    طقس مائل للحرارة اليوم الجمعة 30 مايو 2025 بشمال سيناء    شاهد عيان يكشف تفاصيل مصرع فتاة في كرداسة    رئيسة المجلس القومي للمرأة تلتقي الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر    ريا أبي راشد: أجريت مقابلة تلفزيونية مع مات ديمون بعد ولادة ابنتي بيومين فقط    حملة للتبرع بالدم بمديرية أمن البحر الأحمر    موعد مباراة الاتحاد والقادسية في نهائي كأس خادم الحرمين والقنوات الناقلة    «مالوش طلبات مالية».. إبراهيم عبد الجواد يكشف اقتراب الزمالك من ضم صفقة سوبر    فرنسا تحظر التدخين في الأماكن المفتوحة المخصصة للأطفال بدءًا من يوليو    نجاحات متعددة.. قفزات مصرية في المؤشرات العالمية للاقتصاد والتنمية    إمام عاشور يكشف كواليس أزمته مع الشناوي ويؤكد: "تعلمت من الموقف كثيرًا"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«زمكان» الحلقة الثانية

تناولنا فى الحلقة الأولى من رواية «زمكان» تفاصيل «الزمان والمكان»؛ اللذين تدور فيهما أحداث الرواية، فالمكان أنشاص، حيث الخمائل والحدائق وعطر الربيع وسحر وروعة المكان،أما الزمان فحيث ينتقل بطل الرواية من الشباب إلي الشيخوخة؛ ويبدأ رحلة التفكير والبحث عن الموت، من خلال حديثه مع إمام المسجد، فضلا عن الأحلام التى تراوده، والتى أصابته بالمرض.. وإلى الحلقة الثانية من الرواية...
بعد أيام قليلة نشبت حربٌ في أنشاص، فعند الظهر بينما أنا في البيت سمعنا أصوات طلقات رصاص تدوي في كل مكان، وتعالى صراخ الناس، أصاب الذعر أمي، فهي لا تعرف ما الذي حدث، وأبي في الشغل، كل أخواتي في البيت ماعدا مجيدة أختي الكبرى، فقد كانت تستذكر عند صديقتها في الدراسة «نجاح» بنت عم فتحي شرشر الموظف بالتفتيش، فقد اقترب موعد امتحانات شهادة «القبول».
دخل علينا عم عبيد الذي يشتغل عندنا، وقال: إن الجيش يضرب في الأهالي، وهناك حرب أهلية.
قالت له أمي بذعر: لماذا يا عبيد ما الذي حدث؟
عربة جيش صدمت في الطريق الخارجي بنتا صغيرة من الفلاحين فقتلتها، وعندما وقفت العربة لتستطلع الأمر، طلع عليها الأهالي وقتلوا السائق وعسكريا وضابطا، فجاءت سيارات جيش محملة بالجنود وهم الآن ينتقمون من الأهالي.
ولكن هذا بعيدا عنا.
لا فقد هرب الأهالي إلى عندنا، يختبئون في الحدائق، والجيش يجري خلفهم وهم الآن في شوارع التفتيش، وضرب النار على آخره يا ست هانم.
قالت أمي وهي تكاد تولول: مجيدة موجودة عند نجاح شرشر يا عبيد، روح هاتها بسرعة.
يانهار أسود، الدكتورة عند نجاح شرشر، «كان عبيد يطلق على كل واحد منا اسما خاصا به، فمجيدة دكتورة، وهادية أستاذة، وأنا برنس، ومروة النونَّة، وأحمد دُكش».
هرع عبيد إلى الخارج، وفي الحال كانت أمي تدير منفلة التليفون وتطلب من عامل السويتش «الخاص بمنطقة التفتيش» أن يصلها برقم 16 الذي هو رقم عم فتحي شرشر، اطمأنت على مجيدة وأخبرتها أن عبيد سيأتي لاصطحابها على أن يسلكا طريقا آمنا.
بعد أن عادت مجيدة، عاد أبي أيضا واجتمعت الأسرة كلها، وظلت الحرب الأهلية مشتعلة طوال النهار، اتصل بنا جدي العمدة، ليطمئن علينا، وقال إنه سمع أخبار هذه الحرب من راديو إسرائيل، ولكن الراديو المصري لا يذكر شيئا عنها، وبعد أن طمأنته أمي على أحوالنا وأننا جميعا بخير، قال لها: سأرسل لكم سيارة تأتي بكم عندي في البلد، ولكن أمي صرخت فيه: تبعت سيارة فين، الحكاية زادت وعدت، لا يوجد أحد يتحرك ولا يمشي في الشارع إلا وُيضرب بالنار.
جلست أنا ومجيدة وهادية في الدور الأرضي للفيلا، لا نستطيع أن نبرحها ولو حتى للحديقة، فقد كانت حديقتنا وحدائق الفيلات الأخرى مخبأً للهاربين، عبيد وحده هو الذي كان مسموحا له بالخروج، حيث كان يأتينا بالأخبار كل حين، ومنه عرفنا أن الأهالي لا يحملون أسلحة ولكنهم فقط يحملون مواسير حديد يشتبكون بها مع الجنود، وحين كان أبي يود استطلاع الأمر من شرفة الفيلا كانت أمي تجذبه جذبا من ثيابه ليبقى في الداخل حتى لا يعرض نفسه للخطر، ولكن أصوات الرصاص كانت تتزايد وكان قلبي يقفز قفزا مع كل طلقة رصاص، علام هذا ولم؟
وعندما كان عبيد بالخارج كنا نسمع صيحاته وكأنه يشجع مباراة كرة، فيقول تارة: يا ابن العفريتة، اخبطه في دماغه، ثم بأعلى صوته: حاسب يا عم مغاوري الواد العسكري جنبك، «تعال استخبا هنا»، وتارة أخرى يقول: مات، ماات، مااااات، وكنت أسمع «مات» هذه فيرتجف فؤادي.
انتهت الحرب الأهلية في نفس اليوم، ولكن صدر قرار عسكري بمنع التجول، وجاء بنشرة الأخبار بالتليفزيون «أن بعض الأهالي في أنشاص قاموا بشغب بسبب حادث سيارة جيش، وأن المشاغبين قتلوا ثلاثة من قواتنا المسلحة، وأن الرئيس أصدر قرارا بحظر التجول في أنشاص إلى أن تستتب الأمور»، ولم يرد بنشرة الأخبار عدد القتلى من الأهالي.
وفي اليوم التالي عرفت من عبيد أن الشيخ محمد عثمان شيخ الجامع والكُتّاب كان من ضمن القتلى، مات الشيخ محمد!
كانت الدنيا وكأنها تتحداني، مات الشيخ محمد الذي حدثني عن الموت، عندما أوصل لي عبيد الخبر زاغت عيني وجف حلقي، التزمت عدة أيام الصمت التام، وكنت أقف شاردا في الصالة العلوية للفيلا وأنا أبحلق في لا شيء، كأنني أنظر للفراغ، وذات يوم وعقب أن صليت العشاء مع أبي في المسجد أخذت أدعو الله قائلا: يا رب لا تجعل الملائكة تنسى حسنات الشيخ محمد فأنت جعلت الإنسان ينسى، والإنسان غير الملائكة، ولا تطرد الشيخ محمد من الجنة كما طردت سيدنا آدم، فهو يحب جنة الآخرة أكثر من حبه لجنة أنشاص بتاعة الملك، آسف يا رب أنت لم تطرد سيدنا آدم من الجنة كما قال لي الشيخ محمد، أنت لا تطرد أحدا من عندك يا رب لأنك كريم.
وفي اليوم التالي؛ بينما كنت ألعب في مدخل الفيلا، رأيت سربا من النمل يمشي بهمة في طابور طويل، جلست وأخذت أترقبه، كان النمل يحمل ذرات صغيرة وفتافيت على رأسه، كانت هذه الفتافيت أكبر من حجم النملة كلها، ومع ذلك فالنملة الصغيرة تحملها ببساطة، عنَّ لي خاطر، لماذا لا أصنع الموت، لماذا لا أجعله أمامي مرئيا، أمسكت بعصا صغيرة، فجعلتها حاجزا يحول بين النمل واستمراره في طريقه، فإذا به ينحرف بجوار العصا ويستكمل مسيرته، وضعت إصبعي على عدد من النمل ودهستهم، ماتوا، وجدت حالة من الهرج والمرج تجتاح الطابور، حتى النمل يدرك الموت، انتظرت قليلا دون أن أتدخل، فوجدت النمل عاد لسيرته الأولى، يسير في الطابور المنتظم وهو يحمل حبات الفتافيت، ولكنني رأيت عددا آخر من النمل يأتي إلى النمل الميت ويحمله، راقبته فوجدته يدخل به إلى حفرة في الأرض، توقفت وعدت إلى داخل الفيلا.
بعد أيام أتى إلينا وافد جديد للعمل في بيتنا معاونا لعبيد، وسيختص بشئون الحديقة ومتابعة الدواجن التي نربيها في الحوش الخلفي للفيلا، وعند هذا فلا جديد، فقد كان البستاني السابق عليه اسمه «حسن الصادق» ولكن الجديد الذي كلبشني هو أن محمد هذا اسمه الذي اشتهر به بين الناس هو «محمد الميت».
أخذت أراقبه بحذر، والهواجس تنتابني، هل محمد هذا هو الموت؟! أو لعله يعرف سيدنا عزرائيل الذي كان الشيخ محمد عثمان قد أخبرني عنه أنه هو قابض الأرواح! وفي إحدى المرات رأيته يصلي بالحديقة، ويسجد على الطين الذي في الأرض، تعجبت جدا، كيف يصلي هذا الرجل على الأرض دون أن يفرش سجادة صلاة، هذا والله أمر عجيب! اقتربت منه، وما أن أتم الصلاة حتى سألته: أنت بتعمل إيه؟!
قال: أصلي الظهر.
على الطين! من غير سجادة صلاة.
ضحك وهو يقول: هذا حلال طالما أن الأرض غير نجسة.
أليس الطين نجاسة؟
لا يا برنس، فالله خلقنا من الطين.
الطين الشوكي؟!
ضحك مرة ثانية: اسمه التين الشوكي، مش أنت عارف الحروف وفاهم الفرق بين الألف وكوز الذرة.
لا أنا عارف الألف لكن لا أعرف كوز الذرة.
ما علينا، المهم أنك تعرف أن الأرض طاهرة والطين طاهر طالما لا مؤاخذة ما فيش عليه مخلفات البهائم، رسولنا قال هذا.
قال إيه؟
قال إن ربنا جعل الأرض مسجدا طاهرا للمسلمين.
طيب أنت عايش ولا ميت؟
فوجئ محمد بالسؤال وقال: أنا عايش لكن شهرتي الميت.
ليه؟
منذ أعوام وأنا شاب صغير أغمى عليَّ فظن أهلي أنني مت، فأحضروا لي الكفن، وغسلوني، وقبل أن يدفنوني في الأرض ربنا بحكمته تدخَّل فقمت من الإغماء وإلا لكنت قد مت فعلا، فالناس كبَّرت والنسوان زغردت، ومن ساعتها أطلقوا عليَّ محمد الميت.
وهل الميت يتم دفنه في الأرض؟
أي نعم.
وحكى لي محمد الميت قصة أول قتيل في البشرية، وكيف أن الغراب أرشد القاتل علي طريقة الدفن.
وهل الغراب راح للنمل؟
يروح للنمل ليه؟
أنا قتلت شوية نمل، فحضر بسرعة فريق نمل وقام بحمل النمل الميت ودخلوا به في حفرة تحت الأرض.
ربنا بيهدي كل الخلق وبيعرفهم الحق.
أصبح محمد الميت رفيقا لي عندما يأتي للفيلا نهارا، وبعد أن كنت أخاف منه استأنسته وفرحت به وبطريقته في الحديث.
وفي بداية العام الدراسي كانت أيامي الأولى في مدرسة بساتين الإسماعيلية الابتدائية القريبة من الفيلا، دخلت إلى الصف الأول الابتدائي وأنا أتقن الكتابة والقراءة، يرحمك الله يا شيخ محمد يا من علمتني القراءة والكتابة، وبارك الله في أختي مجيدة التي جعلتني متقنا لهما، كان محمد الميت هو الذي يقوم بتوصيلي للمدرسة كل صباح، ثم كان يأتي بعد انتهاء اليوم الدراسي لاصطحابي للبيت، وفي المدرسة التقيت بأصحابي من أبناء الموظفين والمهندسين، بعضهم كان في سني وصفي وبعضهم كان أكبر مني بعام أو عامين، وفي المدرسة رأيت الأستاذ حمدي شملول الناظر، أحببناه كثيرا، وشغفنا به وبطريقته الأبوية، فقد كان رجلا طيبا تربويا، فاهما، وكانت المدرسة تحفة تعليمية، ففيها مسرح كبير، وبها معمل للتجارب، ومكتبة كبيرة كان يشرف عليها وقتها أستاذ من أحب أساتذتي هو «الأستاذ عبد القادر اليماني».
وبدخولي المدرسة أصبحت الأمور المتاحة لي أكبر مما مضى، فالآن أنا أخط السير قدما في عالم الكبار، أصبحت تلميذا في المدرسة، أجلس في الصف الأول وأستمع لدروس أبلة «نبوية»، وفي الفصل معي أصدقاء تلفهم سذاجة الطفولة، كان منهم محمد جمعة، وعدلي عبد الغفار، وسوسن ابنة الدكتور جورج ميلاد، وممدوح حفني، وأحمد فتحي شرشر، وكنا جميعا نؤلف فريقا متفاهما متعاونا، ننتبه للدورس معا، ونلعب معا، ونمارس كل الأنشطة معا.
كانت هادية أختي تسبقني بعامين دراسيين، وكانت تسبقني في حب القراءة، وفي أحد الأيام الأولى للدراسة جاءت لي في الفسحة، وطلبت مني أن أذهب معها إلى مكتبة المدرسة، لم أكن مستوعبا لمعنى المكتبة، إذ وقع في خلدي أنها مكتبة خشب صغيرة مثل التي في بيتنا، ولكنني وجدتها قاعة فسيحة يحيط بجدرانها مكتبة ضخمة فيها عدد مذهل من الكتب، صحت مندهشا عندما رأيت المكتبة مثل «علي بابا» حينما وقع على كنز المغارة، قلت لهادية وأنا منشد للكتب: إيه ده، إيه ده؟!
كتب جميلة، ستحبها، بدلا من أن تلعب في الفسحة تعال هنا واقرأ القصص الجميلة.
ذهبت إلى أصحابي مسرعا وأنا أخبرهم عن المفاجأة التي عثرت عليها في المكتبة، سألتني سوسن ميلاد: كتب كتيرة يا عبد الله؟
قلت لها وأنا أمط الكلمات وأفتح ذراعي للدلالة على كثرة هذه الكتب: قد الدنيا.
كان هذا الخبر مفرحا لنا جميعا، فكلنا تعلمنا القراءة والكتابة قبل المدرسة في كتاب الشيخ محمد، حتى سوسن ميلاد! ورغم تنوع شخصياتنا إلا أننا جميعا كنا نحب القراءة ، لربما كانت هي إحدى الوسائل القليلة للتسلية، وكان أكثر من يتسابقون للقراءة من فريقنا، محمد جمعة، وسوسن ميلاد، وأنا، وكان لهادية أختي الفضل في إدخالنا إلى عالم المكتبات والقصص.
كان أول كتاب وقع عليه بصري في مكتبة المدرسة عنوانه «موت نملة» استلب هذا الكتاب نظري فأخذته كي أقرأه في البيت، لم يكن الكتاب كبيرا إذ لم يتعد بضع صفحات فيها العديد من الصور، ولكنه كان يحكي قصة نملة ضحت بحياتها في سبيل أن تعيش أسرتها، وقفتُ عند الصفحة الثانية وقرأت فيها: «وقام الولد الشقي بهدم جحر النمل، فخرجت نملة تعاتبه: لماذا فعلت هذا بنا؟ فلم يرد الولد عليها، فقالت: سأقف مدافعة عن أهلي حتى ولو كنت أنت أكبر مني، فقتلها الولد، فحزنت كل الكائنات عليها».
يا الله، أنا فعلت مثل هذا الولد، قتلت نملا بريئا، أنا مجرم قاتل، قضيت بقية اليوم وأنا أبكي في داخلي، وبعد فترة وجيزة نسيت الأمر وهان عليَّ الخطب، ففهمت قيمة أن ينسى الإنسان أحزانه، إلا أنني أصبحت عاشقا للمكتبة أهرع إليها في الحصص الخالية وفي الفسحة، وأستعير في آخر اليوم كتابا أقرأه في البيت، ومر العام الدراسي، وانطلقنا في الإجازة الصيفية، حيث أخذت أصطحب أترابي فنذهب إلى حدائق الملك، حيث الجداول والظلال والخمائل والأشجار الباسقة، وعند الغروب كنا نذهب لترعة الإسماعيلية فنجلس في ولهٍ لمشاهدة مشهد عجائبي من مشاهد الكون، حين تغيب الشمس عن الوجود في موكب برونزي تتيه منه العقول، لا شك أن الطبيعة الساحرة عكست صورها في وجداننا فاتسع أفق ورحب خياله.
وفي أرجاء الحدائق أخذنا نتعاون مع الطبيعة ونشتبك معها، فأخذنا في تسلق الأشجار وكأننا قرود، وانتظمنا في قطف الأزهار وإعداد باقات للزهور نتسابق بها، وبرعنا في اختراع الألعاب ووسائل التسلية فكنا مثلا نجمع أغطية زجاجات الكولا ونثقبها ونمرر منها «أستك» فتتكور فنصنع منها عجلة صغيرة نشبكها «بسيخ حديد مطاطي»، ونجري بالسيخ الذي في نهايته العجلة في سباقات ساذجة وكأننا نقود سيارات فارهة.
في منتصف العام التالي، وبينما نحن في الفسحة، وإذ كنت في المكتبة عاكفا على كتاب يحكي رحلات جلفر في بلاد الأقزام، جاء لي محمد جمعة وسوسن ميلاد وهما في حالة هلع والدموع تنهمر من عيونهما، ما الذي حدث؟
مات الأستاذ حمدي شملول ناظر المدرسة الذي كنا نحبه.
الموت هو القاعدة، والحياة هي الاستثناء، إذن لماذا كانت الحياة؟ من أجل الموت، إنك لا تستطيع الموت إلا إذا كنت حيا، فالعدم غير قابل للموت، ولكن هل الموت عدم؟ بما أن العدم غير قابل للموت إذًا العدم غير الموت، ما هو الموت؟ ولماذا كل شيء في الدنيا يقبل المساومة والتأجيل والمفاوضة إلا الموت الموت هو الشيء الوحيد المنضبط في الكون، ولكنني لا أفهم من هذا التعريف معنى الموت، فقط عرفت دقته.
هلاوس في هلاوس أخذت تنتابني، وتشد عقلي الصغير شدا وأنا راقد على فراشي، أخذت أتمتم بكلمات غير مفهومة، جسَّت أمي جبهتي ثم صرخت: يا لهوي الولد سخن، اتصلي يا مجيدة ببيت الدكتور جورج بسرعة.
لم يكن الدكتور جورج موجودا، فحضرت إلينا مسرعة زوجته طنط سعاد عبد الله، كانت لديها خبرة كبيرة في التمريض اكتسبتها من زوجها، قامت بقياس الحرارة واستمعت بالسماعة إلى صدري، وقامت بقياس نبضي، ثم أدارت منفلة التليفون وطلبت توصيلها بالوحدة الصحية، تكلمت مع عمي الدكتور جورج قليلا وشرحت له الحالة، بعد قليل جاء حامد تومرجي الدكتور وهو يحمل معه أدوية، وكالعادة تم غلي الحقنة، ثم قامت طنط سعاد بحقني، لم أشعر بشيء فقد رحت في إغماءة.
ظللت قيد الفراش فترة حتى هذل جسدي، الذي كان أصلا هذيلا، وكان الدكتور جورج يمر عليَّ يوميا، أما طنط سعاد فكانت لا تكاد تفارقنا حتى تعافيت.
أصبحت مشهورا «بالإغماء»، ما أن يحدث شيء مفزع حتى أروح في إغماءة وكأنني أحتمي بالغياب عن الوعي، عن الأشياء التي لا أستطيع تحملها، ولكن الهواجس لم تتركني لحالي.. «الإغماء هو نوع من الموت، فأنا لا أعرف ما الذي يدور فيه، كما أنني أنقطع عن الدنيا ساعتها، ولكنني أنقطع أيضا عن الدنيا ساعة النوم، إذن النوم نوع من الموت، ولكنني في النوم أرى أشياء وأحلم، في النوم أعيش في دنيا أخرى، إذًن الموت هو حياة ولكن في دنيا أخرى».
استرحت لهذا التعريف، وتكلمت مع مدرستي أبلة نبوية فيه، تعَجَبَتْ وقالت: كيف لعقلك الصغير أن يفكر في هذه الأشياء، أنت ما زلت صغيرا، لا تفكر في الموت، الحياة قدامك طويلة، لكن لن أقول لك إلا اطمئن، لما بنموت بنذهب إلى دنيا أخرى غير الدنيا بتاعتنا، بنروح عند ربنا.
زاد اطمئناني، فما قالته لي أبلة نبوية يتفق مع ما فكرت فيه، إلا أنني تعجبت من أن الأبلة نبوية تظن أن التفكير في الموت يجب أن يكون قاصرا على الكبار فقط! وكأن الصغار لا يجوز لهم التفكير فيه، مع أن الذي مات أولا في حادث الحرب الأهلية طفلة صغيرة، وترتب على موتها موت الكبار، الكبار يظنون أن عالم الصغار بليد وغبي ومحدود، ليس فيه تفكير ولا رأي، ولو سمعوا الحوارات التي كانت تدور بيننا لتعجبوا من عمقها.
كنت دائما أجمع أصدقائي الذين في سني وأحكي لهم الحواديت التي كنت أسمعها من الكبار، وكان أحد مدرسينا واسمه الأستاذ يسري يختارني ومعي محمد جمعة وسوسن ومنى الجبالي، ليحكي كل واحد منا للفصل ملخصا لكتاب قرأه، فحكت لنا سوسن ملخصا لقصة سيدنا يوسف، وحكى محمد جمعة قصة عن حرب عام 1956، ثم وقفنا معه بعدها ننشد «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر فوق كيد المعتدي، والله للمظلوم خير مؤيدِ»، وحكت منى الجبالي قصة سندريلا، وحكيت أنا قصة جلفر في بلاد الأقزام، وأخذ الأستاذ يسري يسأل كل واحد منا عن الذي استفاده من القصة التي قرأها، وأذكر أنني قلت له: استفدت أنني عرفت أن الدنيا فيها حاجات كثيرة فوق عقلنا، وأننا لا يمكن أن نعرف كل حاجة في الدنيا، لازم يكون فيه حاجات لا نعرفها، يعني أيام النبي ماكان أحد يعرف شيئا عن التليفزيون، ولو رحنا لهم وحكينا عن التليفزيون لن يصدقونا، ولو حد حكى لجلفر أن فيه في الدنيا أقزاما بحجم النمل ما كانش هايصدق، لكن لما سافر شاف، ولو حكى للناس مش هايصدقوه لأنهم ما شافوش.
وبالرغم من عمق الصغار إلا أن هناك أشياء كثيرة بديهية لا يعرفونها، فكلنا كنا نجهل معنى الملكية الخاصة، فكان في ظننا أن ثمار الحدائق من مانجو وبرتقال، وفرامبواز وتوت هي من أملاكنا الشخصية ولنا الحق في اكتنازها، فكنا نسطو على هذه الثمار كما نشاء في أي وقت، ومع الجهل بمعنى الملكية وحدودها كنت، أنا ورفاقي، نجهل كيف يتكاثر الإنسان، ونجهل تعدد الأديان واختلاف مذاهب الناس، وكأن هاتين المنطقتين من الأشياء المحرمة التي لا يجوز الاقتراب منها، ولكن يحدث أحيانا ماليس منه بد...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.