تناولنا فى الحلقة الثالثة من رواية "زمكان"، وصف المكان الذى تدور فيه أحداث الرواية في "أنشاص" وفي أنشاص الرائعة نشأت وتنسمتُ حدائقها واستغرقتني طبيعتها، حيث الخمائل والحدائق وعطر الربيع وسحر المكان وروعة الزمان ، كانت الفيلا التي نسكن فيها مميزة على كل الوجوه ، ورغم أنها مطابقة لباقي الفيلات إلا أنها كانت متميزة بموقعها حيث كانت الغرف الخلفية لها تطل على الحدائق الملكية التي لا يستطيع البصر الوصول إلى منتهاها ، كما أن حديقتها كانت أكبر من الحدائق الأخرى وتحتوي على عدد من الأشجار أكثر من باقي الفيلات. قبل أن أدخل المدرسة أرسلني أبي وأنا في الخامسة إلى كتاب الشيخ محمد عثمان لأحفظ ما تيسر من القرآن ولأتعلم القراءة والكتابة والحساب ، كان الشيخ محمد هو إمام وخطيب المسجد الملكي ، وكان بارعا في الخطابة مولعا بالقراءة ، خبيرا في تعليم الصغار ، وكان ينتحي بنا جانبا من المسجد قبل صلاة الظهر بساعتين فيأخذ في تحفيظنا قصار السور ، والحروف الهجائية ، فنخرج من الكتاب ونحن نُغني " ألفٌ باءٌ أبت ثجحٌ " وعندما وجد شغفي بالحروف قال لي : أنت تذكرني بشاعر كبير خرج من كتابي هذا ، سألته بنهم المتشوق للمعرفة : وما هو الشاعر ؟ هو الذي يكتب الشعر . وما هو الشعر ؟ ألا تغني حينما تخرج من الكتاب مع رفاقك " أبت ثجحٌ" يعني الشعر أغنية ! هو كذلك ومن هو الشاعر ؟ الشهيد هاشم الرفاعي . اسمه "الشهيد"؟ لا اسمه هاشم ، الشهيد يعني أنه مات في سبيل الله . وما معنى " مات " ؟ ألم تسمع عن الموت من قبل !! . كانت هذه أول مرة يحدثني فيها أحد عن الموت مباشرة ، كان ذكر الموت يأتي عرضا في أحاديث البعض ولكنني لم أكن أتوقف عنده ، لا بد أنه شيئ مثل المرض ، ولكن ذكره كان يخيفني ويجزع قلبي، يومها شرح لي الشيخ محمد طبيعة الحياة، ومن هو أبونا آدم ، ولماذا خلقنا الله ، والموت الذي هو نهاية كل حي ، ويوم القيامة، والجنة والنار ويبدو أنه تعجب حينما سألته : هل يعرف كل واحد من الناس متى يموت ؟ . وقتها ابتسم دهشة وقال : علم ذلك عند الله ، فقد أخفى عنا هذا السر . ولماذا يخفي عنا ؟ هو يخفي عنا أيضا موعد يوم القيامة ؟ لماذا ؟ حتى نعبده حق العبادة ، فلو عرفنا موعد موتنا لعبدناه فقط قبل الموت . الموت ، الموت ، ظلت هذه الكلمة تتردد في أذني، وعندما كان الموت يرد على بالي كنت أرى بخيالي جسدا شفيفا أبيض لا ملامح له، ما هذا الخيال ؟ ولماذا البياض هو الذي يظهر أمامي عند ذكر الموت ؟! وعلى مدى عدة أيام كنت أرى أمي في الحلم وهي تبكي وتلبس السواد ، وكنت أرى ضيوفا يدخلون إلى بيتنا والحزن يرتسم على وجوههم ، ونساءً يبكين ، وامرأة تولول ، كنت أصحو فزعا ، وأحيانا كنت أصحو باكيا ، هرعت لي أمي تطمئن على حالي ، ما الذي أفزعني في المنام ، فرويت لها ما رأيته، فبسملت واستعاذت بالله من الشيطان الرجيم وطلبت مني أن أتفل ناحية اليسار ثلاث مرات ففعلتُ مثلما قالت ، ثم أراحتني على الفراش ووضعت يدها على جبهتي وقرأت لي بضع آيات من القرآن حتى رحت في نوم عميق. تكرر الحلم أكثر من مرة ، وعرفتُ أن هذا النوع من الأحلام اسمه كوابيس، ولكن هل هذا كان كابوسا فعلا ؟ عندما أخذت أقص على أمي تفصيلات الحلم بدقة متناهية ، كنت أرويه لها بصورتين ، حيث كنت أعيش في أحداثه بشخصيتين ، الشخصية الأولى هي أنا ذلك الطفل الصغير ، أقف ساهما شاردا أنظر بذهول إلى أمي وهي تبكي بحرقة وترتدي السواد ، وإلى أطياف الضيوف الداخلين إلى البيت مقطبين مكفهرين ، وإلى المرأة التي تولول ، والشخصية الثانية هي أنا الذي يجلس وكأنه ينظر لشاشة كبيرة يرى فيها المشهد الفائت ، قالت أمي وهي تحتضنني : يا ضنايا ، عقلك يتذكر يوم ماتت جدتك ، كنت قد بدأت تدخل عامك الثالث حينما ماتت ، كان كل ما تراه هو ذكريات عقلك عن هذا اليوم ، لم تنسه ولكنك دفنته في قلبك ، لذلك تراه في الأحلام . جدتي ! جدتي لأمي ! نعم أتذكر طيفها كملاك يرتدي البياض ، كنت أنده عليها مثل كل الأحفاد في العائلة : نينا الحاجة ، أو نينا سيادة ، وكان جدي العمدة يناديها دائما " بالحاجة سيادة " كانت جدتي صاحبة عيون زرقاء ووجه أبيض مفرط في الطيبة والهدوء والاستكانة والرضا ، كانت حكاءة ماهرة بالفطرة ، أتذكرها وهي تحكي لي وأنا في حضنها وهي جالسة متربعة على سريرها ، حدوتة الشاطر حسن وست الحسن والجمال ، وحدوتة قطر الندى ، وحدوتة الشاطر حسن والشاطر محمد والشاطر عليّ الدين ، ومغامرات علي الزيبق المضحكة ، وحينما كنت أضحك بسبب مقلب من مقالب علي الزيبق كانت جدتي تزيد من جرعة ضحكاتي فتزغزغني من باطن قدمي الصغير فتتقطع أنفاسي من كثرة الضحك ، فتقول لي بطيبة مفرطة : هاموتك من الضحك يا ابن بنتي ، فأقوم هاربا من أمامها.