بعد تجاوزات إثيوبيا غير القانونية.. مصر تكشر عن أنيابها في أزمة سد النهضة.. متخصصون: ندافع عن حقوقنا التاريخية في نهر النيل والأمن المائي خط أحمر    الأولى على القسم الجامعي "تمريض": التحاقي بالقوات المسلحة حلم الطفولة وهدية لوالدي    رئيس الوزراء البريطانى يصل إلى شرم الشيخ للمشاركة فى قمة شرم الشيخ للسلام    فرنسا تُعلن تشكيل حكومة جديدة برئاسة لوكورنو لتجاوز الأزمة السياسية    ترامب: الصراع في غزة انتهى والإدارة الجديدة ستباشر عملها قريبًا    استشهاد فلسطيني برصاص قوات الاحتلال في مدينة خان يونس    منتخب مصر ينتصر على غينيا بيساو بهدف نظيف في تصفيات كأس العالم 2026    بولندا تواصل تألقها بثنائية في شباك ليتوانيا بتصفيات المونديال الأوروبية    بوركينا فاسو تختتم التصفيات بفوز ثمين في ختام مشوار إفريقيا نحو المونديال    عبد الظاهر السقا: تنظيم أكثر من رائع لاحتفال المنتخب بالتأهل لكأس العالم    نائب محافظ قنا يتفقد عددًا من الوحدات الصحية لمتابعة جودة الخدمات المقدمة للمواطنين    ترامب: الحرب في غزة انتهت ووقف إطلاق النار سيصمد    خبير تربوي يضع خطة لمعالجة ظاهرة العنف داخل المدارس    حبس رجل أعمال متهم بغسل 50 مليون جنيه في تجارة غير مشروعة    القائمة الكاملة لأسعار برامج حج الطبقات البسيطة ومحدودي الدخل    إعلام عبري: إطلاق سراح الرهائن من غزة بداية من الساعة 8 غدا على دفعتين    زيلينسكي: بحثت مع ترمب تزويد أوكرانيا بصواريخ توماهوك وأنظمة باتريوت    منتخب مصر يتقدم على غينيا بيساو بهدف بعد مرور 15 دقيقة    ذهبية المنياوي وبرونزية صبحي تزينان اليوم الثاني من بطولة العالم لرفع الأثقال البارالمبي    البنك المركزي يقبل سيولة بقيمة 125.6 مليار جنيه في عطاء أذون الخزانة اليوم    باحث فلسطينى: زيارة ترامب لمصر محطة مفصلية لإحياء مسار السلام    وائل جسار يُحيى حفلا غنائيا فى لبنان الأربعاء المقبل    الخارجية الفلسطينية تؤكد أهمية ربط خطة ترمب للسلام بمرجعيات القانون الدولي    وزير الصحة يلتقي الرئيس التنفيذي لمعهد WifOR الألماني لبحث اقتصاديات الصحة    بيحبوا يصحوا بدري.. 5 أبراج نشيطة وتبدأ يومها بطاقة عالية    هل التدخين يبطل الوضوء؟ أمين الفتوى: يقاس على البصل والثوم (فيديو)    أسامة الجندي: القنوط أشد من اليأس.. والمؤمن لا يعرف الإثنين أبدًا    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : أول الحذر..ظلمة الهوى000؟!    نوفمر المقبل.. أولى جلسات استئناف "سفاح المعمورة" على حكم إعدامه    ابن النادي" يتصدر تريند "إكس" بعد تصاعد الأحداث المثيرة في الحلقات الثالثة والرابعة (صور)    قافلة طبية بجامعة الإسكندرية لفحص وعلاج 1046 مواطنًا بالمجان في الكينج مريوط (صور)    خاص للفجر.. يوسف عمر يخرج عن صمته ويكشف تفاصيل فيلمه الجديد مع أحمد عز    بعد مصرع الطفل " رشدي".. مديرة الامراض المشتركة تكشف اساليب مقاومة الكلاب الحرة في قنا    محافظ القليوبية يقود حملة مفاجئة لإزالة الإشغالات بمدخل بنها    في حب المعلم    تأجيل إستئناف المتهم الرئيسي ب " تظاهرات الألف مسكن "    الخريف.. موسم الانتقال والحنين بين دفء الشمس وبرودة النسيم    تأجيل الدعوى المقامة ضد إبراهيم سعيد لمطالبته بدفع نفقة ابنه    رئيس منطقة مطروح الأزهرية يكرم الطالبة هاجر إيهاب فهمي لتفوقها في القرآن والخريدة البهية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم 12-10-2025 في محافظة الأقصر    دمياط: فصل المياه في بعض المناطق منتصف الليل حتى الثامنة صباحا    أوسكار عودة الماموث.. فيلم يخطو نحو الإبهار البصري بقصة إنسانية مؤثرة    20 أكتوبر.. انطلاق جولة «كورال وأوركسترا مصر الوطني» بإقليم القناة وسيناء    الخريف موسم الانتقال... وصراع المناعة مع الفيروسات الموسمية    بالأسماء.. الرئيس السيسي يُصدر قرارا بتعيينات في مجلس الشيوخ    "سلامة الغذاء" تنفذ 51 مأمورية رقابية على السلاسل التجارية في أسبوع    الأهلي يحدد 20 أكتوبر موعداً لحسم موقف إمام عاشور من السوبر المصري    الضرائب: الفاتورة الالكترونية والإيصال الإلكتروني شرط أساسي لإثبات التكاليف ورد ضريبة القيمة المضافة    وزارة الصحة: 70% من المصابين بالتهاب المفاصل عالميا يتجاوز عمرهم ال55 عاما    الداخلية تضبط أكثر من 106 آلاف مخالفة مرورية في 24 ساعة    "الوطنية للانتخابات" تواصل تلقي طلبات الترشح لانتخابات مجلس النواب 2025 لليوم الخامس    تنفيذ ورش تدريبية مجانية لدعم الحرف اليدوية للمرأة في الأقصر    مراكز خدمات «التضامن» تدعم ذوى الهمم    مشروع الفستان الأحمر    مدارس التكنولوجيا تعيد رسم خريطة التعليم الفنى    مصر تتسلم رئاسة المنظمة الدولية للتقييس "أيزو" لمدة 3 أعوام بعد فوز مشرف ومستحق    استبعاد معلمي الحصة من حافز ال 1000 جنيه يثير الجدل.. خبير تربوي يحذر من تداعيات القرار    وزير الأوقاف فى الندوة التثقيفية بالإسماعيلية: الوعى أساس بناء الوطن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إضاءة جديدة على كتاب قديم
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 20 - 01 - 2025


علاء خالد
كان هذا الكتاب نقطة تحول فى مسارى الأدبي، بعد ثلاثة دواوين شعرية لم تستوعب شظايا الانتفاضة الوجودية التى بدأت بها هذا المسار. ربما كانت هذه الانتفاضة تبحث عن سياق ومفردات جديدة، تتجلى من خلالها، بعيدًا عن سياق العداء مع السلطة الأبوية عمومًا، و«تابو» التحريم: الجنس والدين وغيرهما، التى توزعت بدرجات متفاوتة داخل هذه الدواوين، وبالطبع، داخل حياتى خلال هذه السنوات.
كانت الكتابة والحياة صنوان فى تلك المرحلة، حتى لو كانت هذه التوأمة غير منطقية بين وسيطين مختلفين للتجريب، ولكن هذه الرابطة أنتجت مجموعة من المعايير: كالصدق، الحقيقة، التناقض، الوفرة، العدالة، التسامح، الآخر، فضاء المكان، الفقد، الأخلاق الجديدة.
سيكون لها أهميتها لمنح هذه الانتفاضة الوجودية الضفاف المتحركة، التى ستحوط هذه التجربة، بديلاً عن حدود/ ضفاف نوع أدبى بعينه.
أصبحت هذه المعايير كالوسواس الذى يطاردنى خلال مسيرتى آنذاك، لتحافظ على فاعلية هذه الرابطة «بين الكتابة والحياة»، وعلى هذه التجربة، وتحميها من الاندياح والركون إلى ضفاف أزمة وجودية لا فكاك منها، أو التماهى مع مجتمع أدبى تاهت معاييره هو الآخر، أو الدخول فى نوع أدبى جامد.
كانت الكتابة تبحث عن أرض نفسية جديدة.
ربما ما نجح فيه الكتاب هو إنتاج مجموعة من الأفكار الفلسفية الذاتية التى تخصني، تفلسف بلا فلسفة - كما يقول چيل دولوز- ساعد فى دمج هذه الشظايا الوجودية معًا، لإنتاج مفاهيم أو تصورات فلسفية ذاتية، وليست مستجلبة من أى سياق فكرى آخر.
كنت أعيش تبعات أزمة وجودية تتعدى الصدام مع السلطة الاجتماعية والأخلاق، وتتعدى مفهوم التحرر، وتتعدى أيضًا موهبتي، وإمكاناتى فى الكتابة. هذا ما اكتشفته لاحقًا، أن هناك أماكن لم يصل إليها الشعر الذى أكتبه، لأن المشهد، الذى يحوطها، كان جامدًا، ابن مدينة مزدحمة، وابن ماضٍ بلا مرجع ولا جدل، يمكنه أن يخترق طبقات الوعى ويصله به، لتولد مساحات وحوارات داخلية مع الناس والأشياء ومفردات الحياة التى تنتظر هذه الإشارة، هذا الهواء الحر، لتدخل فى سياق مواد حياتنا المتكلمة. كان الماضى صامتًا، والبلاغة أيضًا صامتة، ومساحات الجدل مصمتة، فكان من المهم تغيير المشهد. وقد كانت سيوة.
لعل ما وفرته سيوة / المكان، تلك المسافة اللازمة للتأمل والمراجعة، الغائبة فى المدينة، وأيضًا الزمن الخاص الذى ستتوهج فيه الأفكار وتتصادم.
كنت أبحث عن مكان، غير المدينة، ألصق شظايا هذه الانتفاضة الوجودية بمفرداته وأساطيره، وناسه، وفضاءاته، وسمائه الشديدة اللمعان ليلاً، ومسارات نجومها ودروبها الواضحة.
كنت أبحث عن براح آخر ينتشلنى من الفراغ المصمت للمدينة، التى كانت أصلاً أحد أسباب الأزمة، لأنها لا تمنحك مسافة للتأمل فيها، ربما تمنحك عزلة أو انفصالاً عنها، لكن لا تمنحك مسافة للحوار معها، ومع مفرداتها.
تحولت المدن إلى مصانع لتثبيت ما هو قائم، وحشر المتناقضات والحكايات المتقطعة الأوصال بعضها بجانب بعض، وتكوين مشهد من كولاچ عدمي، بلا أى ترابط، وبلا أى أفق لأى حلول، أو شفاء، أو حتى راحة مؤقتة، وعلى المتضرر أن يجد طريقه بنفسه.
كتبت هذا الكتاب فى معمعة موقعة نفسية، أدخلتنى فى زمن خاص، بعيدًا عن الزمن الخارجي، بعد وفاة والدي، واستنفاد مبررات العداء للسلطة، التى منحت وجودى معنى ومشروعية فى وقت ما، فسقطت فى هوة وجودية ملساء، ليس هناك مكان لأى ارتكاز ولا استقرار ولا تعريف لنفسي، كنت أحتاج لتعريف جديد وسط هذه النثار من الرموز النفسية المتطايرة، وسط مشاعر السقوط والندم والذنب التى كانت تسيطر عليَّ، والرغبة فى استنفار مراكز القوة داخل هذا الوجود ليستمر.
كان هناك أكثر من عامل يؤثر على مسار اللغة وإنتاج الأفكار وطريقة صياغتها، سمح بها جميعًا هذا الزمن الوجودى الخاص، زمن مسروق من أزمنة استهلاك الحياة اليومية فى التسعينيات، أن تستقل بتجربتك وحياتك، بعيدًا عن السياقات الاجتماعية والحياتية، لإنتاج مسافة وأفكار جديدة تتقاطع مع أفكار حياتك القديمة، لتخرج منها وتضيف إليها وتوسع من ضفافها.
فى التسعينيات، كان التشظى الوجودى والانفصام غاية المدينة وتاج راسها، فى مصر، وربما عالميًّا، وظهرت تنظيرات ما بعد الحداثة التى تثبت هذه الأوضاع كأنها خالدة ولا يمكن مقاومتها، فأصبح التشظي، بلا عنوان، رمز إنسان المدينة، وما علينا إلا الاستسلام لهذا القدر.
ربما لهذا السبب، فكرت، دون أن أدري، فى اختيار نقطة بعيدة، وسط الصحراء، خارج مفهوم الحداثة، تلتئم فيها هذه الذات، وتعيد اكتشاف مكنوناتها وطبقاتها الغائرة، حتى يطفو المعنى الذى يقبع «وراء الخير والشر»، فهناك وجود للإنسان سابق على الوجود الاجتماعي، أو يسير بجواره، كان من المهم -بالنسبة لي- الوصول إليه، كبداية جديدة غير معبأة بالأزمات التى سببها المجتمع وطرق ثوابه وعقابه.
جاء الكتاب أيضًا بعد وفاة أبى ردًّا على فكرة الموت، انتفاضة لإعادة ترتيب خريطة الذات بعد فقدها للأب وتحويل هذا الفقد، أو الموت المجانى الذى نتقاسمه جميعًا، إلى موت له معنى، يكشف أصوله وتشعباته فى شتى تفاصيل الحياة، ويعرى الذات كآخر غير قابل للنسيان.
كان أهم ما فى هذه الانتفاضة وعْدها، إمكانية تعويض الفقد بالكتابة، بالاعتراف بهذا الآخر الوجودي، القابع «وراء الخير والشر»، وعدم إلقاء ذنب موته على أحد، ولا على الذات نفسها -فقد بدأ إحساسى بالذنب يتفاقم من مسؤوليتى عن وفاة أبي- ولا على الآخر، أيًّا كان هذا الآخر. تخليص الذنب من كل إرثه التاريخي، وأوله القسوة على الذات.
منحنى وعد الكتابة أملاً فى المستقبل بين هذه النصال الحادة التى كنت أمرر جسدي/ اللغة بينها، وأقول لنفسى يمكن أن تبدأ من جديد.
وضعت هذه الانتفاضة حجر الأساس لمشروعات المستقبل، سواء فى الكتابة أو الحياة.
كان المهم العثور على المستقبل، وسط هذا الحاضر العدمى الذى تنتجه المدينة.
وجدت فى سيوة هذا الفضاء المفتوح، المحمل بالرموز والأساطير، الذى يمكن من خلاله التنبؤ بالمستقبل، مثل العرافين. كان الهدف من الكتابة/ الرحلة خلق هذا المستقبل وسط كل مواد الماضى التى تملأ المكان. كان هذا الكتاب معنيًّا بقراءة الطالع، وبالطبع لاستطلاع هذه الأزمات الوجودية التى تنتظرني، أو استشراف مكان الضربة الوجودية القادمة.
جاء الكتاب كسيرة ذاتية مزدوجة لحياتى وحياة الواحة معًا، حدث المزج التاريخى بينهما، التلاقى فى نقاط، والافتراق فى أخرى. هذا المزج كان يمنح ذاتى قِدمًا، وقدرة على التمثل والدخول فى تاريخ آخر، غير تاريخى الشخصي. حدث المزج بين خطوط ضعفى وخطوط ضعف الواحة التى تُعرَّف جغرافيا بأنها «امتداد خطوط الضعف التى تفصل تكوينات صخرية».
أى شيء كانت عيناى ستقعان عليه أثناء هذه الانتفاضة الوجودية كان سيتكلم، وسأمنحه سيرة ذاتية تُخرِجه من دائرة الصمت للحياة.
بعد انتهاء الرحلة والكتاب، غمرنى إحساس مؤقت بأنى وضعت يدى على كنز، لم أجد أهم من جملة ماركيز فى روايته «الحب فى زمن الكوليرا»، وأن أوجه رسالة لنفسى كما وجهها الراوى لبطله فى الرواية: «أيها الأحمق، الأسوأ قد مضى».
كانت كلمة السر أمام أبواب المستقبل، بأن ما مررت به لن يكون هناك ما هو أسوأ منه، ولكن عبر هذه المواجهة، تخفت درجة الألم، وقشرة وراء قشرة، تتعرى الحياة ومفرداتها، حتى تتحول إلى علاقة يومية مشحونة، لكنها غير قاتلة.
ربما وجدت هذه الذات فى علاقتها بهذا الفضاء الطبيعى ما هو أكبر من السلطة، تابو المدينة الذى كان يغذيها بوسواس الفردانية والضدية. بالطبع، الضدية جزء من تاريخ أى ذات تسعى لتطوير نفسها، ولكن -أحيانًا- تتحول إلى منهج طويل الأجل بلا أمل فى الفكاك منه.
كانت سيوة مكان التصالح، ليس مع السلطة والتابو فقط، ولكن مع مفهوم الضدية، التى هى فى الأصل علاقة داخلية وإحدى موروثات الذات.
بدأت ألمس مساحة وجود أعمق وفردانية أعمق، ما تحت «الخير والشر»، ما بعد «الثواب والعقاب»، للدخول إلى الكون الفسيح من باب الصيرورات، والضرورات، والمصادفات الضرورية، وغيرها من المفاهيم الكونية التى لا تنتظر حدًّا لتقف عنده وتعيد دورة حياتها.
كانت هناك بداية تلمُس لآخر كوني، كأحد المكونات المنسية أو المهجورة لأى ذات، عبر هذا التوسع فى قراءة علامات الطبيعة ورموزها.
هذا «الآخر الكوني» ليس شخصًا فقط، ولا تابو فقط، بل تاريخ مليء بالتفاصيل، والمصادفات، والعبثية، والنظام، والعشوائية، وتقاطعات عنكبوتية لأحداث وذكريات.
كانت البداية مصحوبة باعتراف بحضوره، وبانكسار وخجل واجبين أمام نسيانه الطويل، وكان ممرًّا لتقبل أى آخر، أى كان موقعه، والتسامح معه. ربما كان هو الطريق للتسامح مع أبي.
لم يلقَ الكتاب الاهتمام الذى تمنيته له عند صدوره فى منتصف التسعينيات. باستثناء مقال كتبه الروائى والصحفى محمود الوردانى فى جريدة الحياة اللندنية، وأيضًا د. سمية رمضان (1951 – 2024). كانت هناك جماعات أدبية وليس هناك حوار. كانت الفترة مشحونة وملتهبة وعلى وشك نهاية القرن وانقلاب ثوابت. كانت تسُمَّى سياسيًّا «فترة السيولة»، فأخذت هذه الفترة فى رجليها أشياء كثيرة وطمرتها.
داخل الجيتوهات الأدبية التى كانت تشكل ظاهرة المجتمع الأدبي، كان هناك وعى ذاتى عميق لأفراده، كل على حدة، ولكن لم يكن هناك حوار عمومًا. أصبح الحوار يدور داخل وعى أقلية، مستبعدة من التيار السائد، بتفسخه وفضائحه وهزائمه.
ربما لكى يتحول الوعى الفردى إلى أدوات حوار جماعى يحتاج لصهر هذه الذوات فى الثقافة، وإنتاج ذات جمعية متعددة ومُمثِّلة للفرد فى آن، فالحوار يحتاج لتجميع لا لتفتيت وتجزئة، كما كان يحدث فى التسعينيات، لاكتشاف السؤال: ماذا نريد من الأدب؟
استخدم الكتاب صيغة الاعتراف كبداية لخلق ذات جديدة، فقد كانت التسعينيات عقد الاعترافات الحميمة، لكن أصابها مثل ما أصاب أى شيء آخر، أن ترهلت الاعترافات وأصبحت بلا فاعلية ولا تأثير، وتحولت لنوع أدبى أو شخصي، ولكنه فى النهاية ليس ذاتيًّا، كونه أصبح سياقًا واحدًا متشابهًا فى النهاية.
كانت الفجيعة والأزمة الوجودية تطال الجميع، باختلاف موقعهم ودورهم فى الحياة. وأى شيء سيصدر لن يأخذ حقه فى الانتباه أو التأويل، لنقص أدوات القراءة والتفسير، التى كانت تسُتكمَل آنذاك، بجهد شخصي، بالرهان على المستقبل، ورصد علاماته فى الحاضر. وهذا كان أيضًا شحيحًا.
كانت هناك جدران بين المجتمع الأدبى وبين المستقبل، لذا جرت القراءة داخل جدران هذا الزمن الضيق والصراعى للحاضر، والتى أخذت تردد صدى صوت واحد.
أى نص جديد كان يُكتَب آنذاك، باستثناءات قليلة، يدخل مباشرة فى سياق التاريخ والأرشيف. ولكن كان إيمانى أن هناك حياة لأى نص ربما ليست فى حاضره ولكن فى مستقبله، فأى نص جديد أكتبه سوف يُحيى ما قبله ويُدخِله فى دائرة جديدة ويبعثه من النسيان، أو من ظلام الأرشيف.
ما زلت أومن بهذا حتى الآن، وأنا فى الرابعة والستين، فرحى بأى نص جديد ليس فقط لجدَّته، ولكن لأنه سيعيد وضع علامات ويلقى الضوء من جديد على نصوص أخرى سابقة، فأى نص جديد، هو جزء من سلسلة طويلة لأى كاتب، تكتمل بغيابه، جميعها تصنع ما يمكن أن يسُمَّى «الكتاب».
كنت تنتابنى وقتها نوبات فرح غامر بأنى جئت بشيء جديد، لمست مكانًا نفسيًّا ولغويًّا وفكريًّا لم ألمسه من قبل، كأننى صنعت من نفسى طبيبًا نفسيًّا ولغويًّا، والاثنان منفتح أحدهما على الآخر، لإنتاج هذا النص الاعترافى الذى يقف بين الشعر والسرد.
كنت أمر بلحظات فرح شديدة أثناء الكتابة، كأنى ألمس كينونة العالم، لحظات موازية لاكتشافات نفسية وأسلوبية، كانت تنداح أمامى على الورق، وتدخل فى سياقات لغوية مجازية لم أعهدها من قبل. ربما حدث الاتحاد بين اللغة وأزمة الذات، حيث يوجد هذا المكان الوجودى الذى يقع «وراء الخير والشر».
كان يتلو هذا الفرح، مباشرة، نوبات حزن وخوف وصمت، تجعلنى أبتعد عن الكتابة واستكمال النص، كنت أخشى الاقتراب بهذا المبضع، الذى فى يدي، من هذه الذات المجروحة، وهذه الأدلة النفسية، حتى لا أجرح نفسى ويتبع ذلك نزف صامت يستمر لعدة أيام، لا أكلم فيها أحدًا، وأحدس أنه قد حدث الافتراق المؤقت بين أزمتى واللغة، وهجرنى هذا الوحي.
ولكن، عمومًا، الفرح كان أكبر مساحة، وزمنًا، وتلقينًا، وبدأت أتلمس طبقات هذه الذات الأركيولوجية.
كنت أسير على خيط رفيع فى الكتابة حتى لا يشُبَّع الشكل بالبلاغة أو الفرح، ولا تكذب الذات. بين الصدق فى تحرى الحقيقة، والشكل الذى كانت ترومه الحقيقة والصدق، حدث الامتزاج، وصار هناك مركب سردى لا يمكن فيه فصل الشعر عن النثر. انصهر النوعان وانصهرت معهما الذات. كان الانصهار فى الكتابة وفى الوعى أيضًا، وكانت النقطة الفاصلة والنقلة فى مسار كتابتي، أصبحت هناك شعرية قابلة للتطوير، أيًّا كان النوع أو الشكل الذى تبحث أو تصب فيه.
أنا مدين لهذه الرحلة، ولهذه الانتفاضات التى رفعتنى إلى نشوة لم يألفها جسدي، وأيضًا نزلت بى إلى سفح من العدم لم أعهده من قبل. بين الاثنين، كانت هناك تقاطعات وشبكات عنكبوتية من الإشارات والرموز والإضاءات التى تضيء بعضًا من طبقات هذه الذات.
كانت هناك خريطة ترسم وتوسع من قدر هذه الذات، بين الفرح والتسامح والانتساب لمفردات العالم والكون، وفى الناحية الأخرى، الصمت الصافي، الذى بلا حوار، والعدم الصافي، الذى أصبح لى الحق فى أن أضمه كجزء من مفردات حياتى ومسيرتي.
أتذكر النقاشات الطويلة مع الأستاذ حسنى سليمان صاحب دار «شرقيات»، التى نشرت الكتاب فى طبعته الأولى منتصف التسعينيات، عن أهمية تصنيف الكتاب، ولكنى رفضت أن يكون له أى تصنيف، لأنى لم أكتبه بأى نية أخرى، سوى أن يكون نصًّا مفتوحًا على كل الاحتمالات.
وأتذكر أنه طلب منى فى البداية أن أعيد كتابته كرواية، ولكنى رفضت، واقتنع أخيرًا برأيي، ونشر الكتاب دون أى تصنيف له.
صدر الكتاب يوم زواجي، 25 مايو 1995، أهم حدث فى حياتي، وحدث المزج مصادفة، أو كمصادفة ضرورية بين الذات والحياة والآخر.
حمل صديقى ياسر عبد اللطيف نسخًا طازجة من المطبعة فى القاهرة، ومنها مباشرة إلى محطة القطار، إلى بيت زوجتي، فى الإسكندرية، حيث عقدنا الزواج.
استقبلت النسخ على المائدة التى جلسنا إليها، مع الأصدقاء، فى حديقة البيت. فرَّقت النسخ عليهم جميعًا كأن ذلك من طقوس الحفل. أصبح الكتاب إحدى أدوات البهجة والدعم فى هذا اليوم الاستثنائي.
كان الإقدام على الزواج خطوة هامة وتخيفني، ولكن حضور هذا الكتاب، الذى يحمل بين دفتيه إشارات بولادة جديدة على نحو ما، أو اكتشاف لطبقة جديدة متسامحة فى نفسي، وتضع الآخر كطرف أساسي، كمشروع حياة، كان هديتى ووعدى واستحقاقي، لنفسي، وأيضًا لهذا الرباط المقدس الذى يجمعنى بالآخر.
كنت أدخل على أمي، أحد أبطال الكتاب، ليلاً، فأجدها ساهرة وهو فى يديها، تضع نظارة القراءة التى تُكبِّر عينيها وتكشف أدق تفاصيلها، تحت إضاءة الأباجورة المجاورة للسرير، وغارقة تمامًا فى تفاصيله كأنها تمتص حبره بكلماته، بمعانيه، بأزماته، داخل هذا الاستغراق المقدس كالصلاة.
كانت أمى تقرأ الكتاب، وتقرأ خطوط ضعفي، وضعفها، وضعف العائلة، بقلبها، كنت ألمس هذا الاهتمام، والإعجاب الذى تخفيه خلف العتاب الذى تبديه، فقد كانت قارئة خاصة، تقرأ بقلبها. كنت أحتاج لمن يقرأنى بقلبه.
بعد مرور ثلاثين عامًا على الطبعة الأولى، بُعِث الكتاب من جديد، ودخل فى دورة أخرى من الحوارات عبر أجيال جديدة ووسائط توثيق جديدة، وهو ما أسعدنى بحق، لأنى دائمًا أنظر إليه بوصفه كتابًا جديدًا لا أرشيفًا، أستثنيه من أن أضمه إلى قائمة كتاباتى الأخرى، كونه حدثًا ارتبط فيه بقوة المزج بين الأدب والحياة.
وأنا أعيد قراءته لأكتب هذه المقدمة، كنت أراقب من جديد هذه الذات التى كانت على وشك الانهيار، وأغفر لها هفواتها وضعفها، وأحيانًا عدم قدرتها على كشف الحقائق التى كانت قريبة منها وتفلت من بين أصابعها، ولكنها الحياة، نكتشف أنفسنا عبر اكتشافات الآخرين لنا، ونحن بصفتنا «آخرين» أيضًا.
المقدمة التى كتبها علاء خالد للطبعة الجديدة من كتابه خطوط الضعف التى تصدر عن دار نشر وزيز


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.