حملة لتوفير أجهزة كمبيوتر.. دعوات لتأهيل المدارس لتعليم التكنولوجيا | تفاصيل    تراجعت على العربات وبالمحال الصغيرة.. مساعٍ حكومية لخفض أسعار سندوتشات الفول والطعمية    وفقا لوزارة التخطيط.. «صيدلة كفر الشيخ» تحصد المركز الأول في التميز الإداري    الجيش الأوكراني: 96 اشتباكا قتاليا ضد القوات الروسية في يوم واحد    طائرات جيش الاحتلال تشن غارات جوية على بلدة الخيام في لبنان    3 ملايين دولار سددها الزمالك غرامات بقضايا.. عضو مجلس الإدارة يوضح|فيديو    كرة سلة - ال11 على التوالي.. الجندي يخطف ل الأهلي التأهل لنهائي الكأس أمام الجزيرة    المقاولون العرب يضمن بقاءه في الدوري الممتاز لكرة القدم النسائية بعد فوزه على سموحة بثلاثية    تصريح مثير للجدل من نجم آرسنال عن ليفربول    السجن 15 سنة لسائق ضبط بحوزته 120 طربة حشيش في الإسكندرية    إصابة أب ونجله سقطا داخل بالوعة صرف صحي بالعياط    خناقة شوارع بين طلاب وبلطجية داخل مدرسة بالهرم في الجيزة |شاهد    برومو حلقة ياسمين عبدالعزيز مع "صاحبة السعادة" تريند رقم واحد على يوتيوب    رئيس وزراء بيلاروسيا يزور متحف الحضارة وأهرامات الجيزة    بفستان سواريه.. زوجة ماجد المصري تستعرض جمالها بإطلالة أنيقة عبر إنستجرام|شاهد    ما حكم الكسب من بيع التدخين؟.. أزهري يجيب    الصحة: فائدة اللقاح ضد كورونا أعلى بكثير من مخاطره |فيديو    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    بديل اليمون في الصيف.. طريقة عمل عصير برتقال بالنعناع    سبب غياب طارق مصطفى عن مران البنك الأهلي قبل مواجهة الزمالك    شيحة: مصر قادرة على دفع الأطراف في غزة واسرائيل للوصول إلى هدنة    صحة الشيوخ توصي بتلبية احتياجات المستشفيات الجامعية من المستهلكات والمستلزمات الطبية    رئيس جهاز الشروق يقود حملة مكبرة ويحرر 12 محضر إشغالات    أمين عام الجامعة العربية ينوه بالتكامل الاقتصادي والتاريخي بين المنطقة العربية ودول آسيا الوسطى وأذربيجان    سفيرة مصر بكمبوديا تقدم أوراق اعتمادها للملك نوردوم سيهانوم    مسقط تستضيف الدورة 15 من مهرجان المسرح العربي    فيلم المتنافسون يزيح حرب أهلية من صدارة إيرادات السينما العالمية    إسرائيل تهدد ب«احتلال مناطق واسعة» في جنوب لبنان    «تحيا مصر» يوضح تفاصيل إطلاق القافلة الخامسة لدعم الأشقاء الفلسطينيين في غزة    وزير الرياضة يتابع مستجدات سير الأعمال الجارية لإنشاء استاد بورسعيد الجديد    الاتحاد الأوروبي يحيي الذكرى ال20 للتوسع شرقا مع استمرار حرب أوكرانيا    مقتل 6 أشخاص في هجوم على مسجد غربي أفغانستان    بالفيديو.. خالد الجندي: القرآن الكريم لا تنتهي عجائبه ولا أنواره الساطعات على القلب    دعاء ياسين: أحمد السقا ممثل محترف وطموحاتي في التمثيل لا حدود لها    "بتكلفة بسيطة".. أماكن رائعة للاحتفال بشم النسيم 2024 مع العائلة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط    جامعة طنطا تُناقش أعداد الطلاب المقبولين بالكليات النظرية    الآن داخل المملكة العربية السعودية.. سيارة شانجان (الأسعار والأنواع والمميزات)    وفد سياحي ألماني يزور منطقة آثار بني حسن بالمنيا    هيئة الرقابة النووية والإشعاعية تجتاز المراجعة السنوية الخارجية لشهادة الايزو 9001    مصرع طفل وإصابة آخر سقطا من أعلى شجرة التوت بالسنطة    رئيس غرفة مقدمي الرعاية الصحية: القطاع الخاص لعب دورا فعالا في أزمة كورونا    وزير الأوقاف : 17 سيدة على رأس العمل ما بين وكيل وزارة ومدير عام بالوزارة منهن 4 حاصلات على الدكتوراة    «التنمية المحلية»: فتح باب التصالح في مخالفات البناء الثلاثاء المقبل    19 منظمة حقوقية تطالب بالإفراج عن الحقوقية هدى عبد المنعم    رموه من سطح بناية..الجيش الإسرائيلي يقتل شابا فلسطينيا في الخليل    تقرير حقوقي يرصد الانتهاكات بحق العمال منذ بداية 2023 وحتى فبراير 2024    مجهولون يلقون حقيبة فئران داخل اعتصام دعم غزة بجامعة كاليفورنيا (فيديو)    حملات مكثفة بأحياء الإسكندرية لضبط السلع الفاسدة وإزالة الإشغالات    «الداخلية»: تحرير 495 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة وسحب 1433 رخصة خلال 24 ساعة    "بحبها مش عايزة ترجعلي".. رجل يطعن زوجته أمام طفلتهما    استشاري طب وقائي: الصحة العالمية تشيد بإنجازات مصر في اللقاحات    إلغاء رحلات البالون الطائر بالأقصر لسوء الأحوال الجوية    عبدالجليل: سامسون لا يصلح للزمالك.. ووسام أبوعلي أثبت جدارته مع الأهلي    دعاء آخر أسبوع من شوال.. 9 أدعية تجعل لك من كل هم فرجا    مفتي الجمهورية مُهنِّئًا العمال بعيدهم: بجهودكم وسواعدكم نَبنِي بلادنا ونحقق التنمية والتقدم    نجم الزمالك السابق: جوميز مدرب سيء.. وتبديلاته خاطئة    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فاز بجائزة «أبوالقاسم الشابى» فى دورتها الأخيرة رفعت سلام: قدر الشاعر أن يمضى وحيدًا فى الطريق
نشر في الأهرام اليومي يوم 15 - 02 - 2019

لم يكن خبر فوز الشاعر «رفعت سلام» بجائزة «أبو القاسم الشابى» التونسية، فى دورة ترجمة «الشعر الأجنبى إلى العربية» مفاجئاً. بل جدّد استغرابنا لتأخر تكريمه كل هذا الوقت. وفرحنا كثيراً لأجله، فأخيراً التفتت جهة ثقافية معتبرة إلى جهده الدءوب، وترجماته الضافية، الأمينة، ومشروع جاد، ورؤية مميزة، ودأبه الممتد منذ سنوات بعيدة فى ترجمة أعمال «سادة الحداثة الشعرية الكبار»، بودلير، ورامبو، وكفافيس، وكان لابد أن يضم إليهم رابعهم، «والت ويتمان»، بعد معاناة طويلة، وانقطاع متصل، قام على محبة الشعر. ولأن كل إخلاص لابد أن يصادف إنصافا فى لحظة ما، قال رفعت سلام: «فبعد خمسة أعوام كاملة (1825 يومًا) من العناء والمساءلة والقلق والهواجس والحيرة، تجد محيطًا بك، فى تلك اللحظة الفريدة، أحباء تعرفهم من قبل، وأحباء تكتشفهم لتوك، والفرح الحميم ينبت فى الملامح والعيون»، كما قال فى كلمته أثناء تسلمه الجائزة فى «تونس». وكما استمتعت أنا دائما كثيرا بأشعاره، وآخرها ديوان «أرعى الشياه على المياه»، برسومه المصاحبة اللافتة، وأعجبنى تمرده على شعرية جيله، استمتعت بترجماته الرائعة، وأكبرت على طول علاقتنا مستواه الإنسانى الراقى، مع الجميع. وكان لابد أن أحاوره فى لحظة الفرح هذه.
..............................
ترجمت من قبل شعراء كبار مثل بودلير، ورامبو، وكفافيس، وغيرهم، وكلهم من عوالم إبداعية مختلفة، وخلفيات اجتماعية متباينة، فهل ثمة مشتركات بينهم، وما الفروق؟ وهل تلمسها من النصوص الشعرية فقط. أم من الخلفيات الثقافية والاجتماعية؟
المشتركات بين الشعراء الكبار قائمة، منذ هوميروس وشكاوى الفلاح الفصيح إلى الآن، حتى لو تمايزت الخلفيات الاجتماعية والأشكال الإبداعية. ف «الأفق» الذى يسعى إليه الشعراء مشترك، والمتمايز هو «الطريق» وتفاصيله. ولأن أحدًا لا يلمس هذا «الأفق»، فإنه يظل يخايل حلم الشعراء، على مر العصور. «الأفق» الذى يتحقق فيه الإنسان فى عالم كريم بلا قهر أو عذاب. وعادةً يترافق ذلك لدى الكبار بالخروج على السياق الإبداعى السائد، بحثًا عن «أفق» مغاير، يمنح الشاعر حريته فى النص التى لا يعثر عليها خارجه، بكسر الأنماط، والخطوط الحمراء الموروثة، وهو اكتشاف مستويات أخرى للغة والإيقاع والبنية، وما يكمن وراء المكتوب، للإمساك بما استعصى على السابقين. وما يمنح التمايز فى التفاصيل هو المغايرة، فالإنسان العادى المقهور تحت سطوة المدينة الحديثة، وأبنيتها الضخمة الشاهقة (لدى بودلير)، هو المرادف للإنسان العادى البسيط، المطرود بشهواته المحرَّمة إلى الهامش المنسى للتواريخ والأزمنة، (لدى كفافيس)، على سبيل المثال. وإذا كان بودلير اعتمد لغة متحررة من وطأة الرطانة الرومانتيكية وتسيبها، فإن كفافيس أطاح بالبلاغة اللغوية القديمة، الفخمة، وأدخل لغة «وسيطة» تمزج «العامية» و»الفصحى». ولديهما معًا، تقترب الصورة الشعرية كثيرًا من وعى الإنسان العادى، وحساسيته «الحديثة». والأساسى فى الرؤية هو «النص الشعرى»، وتحققه الإبداعى، وما عداه ليس سوى وجهات نظر تأويلية، قيمتها نسبية.
جائزة «أبو القاسم الشابى التونسية» هى أول جائزة فى الترجمة تتلقاها، فكيف استقبلت الخبر، وهل يسعدك أنها تحمل اسم شاعر كبير، ويقترن اسمك باسمه؟
المفارقة اللطيفة أننى نلت أول جائزة فى الشعر أوائل التسعينيات، وهى «جائزة كفافيس» (1993) من هيئة دولية؛ وبعد ربع قرن تمامًا (2018)، تأتينى جائزة الشابى فى «الترجمة»، من هيئة عربية، ومؤكد أننى سعدت بها جدا. واقتران اسمى باسم «الشابى العظيم» كاقتران اسمى فى الجائزة الأولى بكفافيس، ويمثل قيمةً فى ذاته. فالشابى أحد عظماء الشعراء العرب، وهو الشاعر الذى أحببته منذ الصغر من شعراء الرومانتيكية العربية، بفعل روحه المتمردة، المتصادمة مع بؤس العالم وظلامه، على النقيض من بقية الشعراء الرومانتيكيين البكائين. فهو الوجه الناصع، عن حق، للرومانتيكية العربية، ولاتزال أشعاره حاضرة بفاعلية فى الوعى العام. وهو أحد آبائى الشعريين الذين فتحت عينَيَّ على الشعر من خلالهم. وكانت لفتة طيبة أن تهدينى وزارة الثقافة التونسية نسخة جديدة من ديوانه الشهير «أغانى الحياة» فى طبعة أنيقة، مع كتاب فريد آخر، أظنه بلا مثيل، عنوانه «المداد الحى»، يضم الآثار الشعرية والنثرية لأبى القاسم الشابى، وكله بخط يده، وبنفس لون الحبر، بكل ما فيه من شطب وتعديلات وتبديلات لجميع النصوص. وما الذى يضاعف قيمة الجائزة عندك؟ الجائزة حين تكون موثوقة القيمة الثقافية، تماثل مَن يربت على قلبك، فبعد خمسة أعوام كاملة (1825 يومًا) من العناء والمساءلة والقلق والهواجس والحيرة، تجد محيطًا بك، فى تلك اللحظة الفريدة، أحباء تعرفهم من قبل، وأحباء تكتشفهم لتوك، والفرح الحميم ينبت فى الملامح والعيون، مثلما قلت فى كلمتى باحتفال تسليم الجائزة بتونس.
هل يخامرك أحيانا أن الترجمة تُعد خَصما كبيرا من رصيدك الإبداعى كشاعر؟ وأن الوقت الذى صرفته فيها كان يمكن أن يضيف أعمالاً شعرية أخرى بدلاً من الترجمة؟
لا.. فقد انتبهت لهذه المعادلة مبكرًا، وأدركتُ أن الترجمة ستكون رفيقتى بموازاة الشعر. وانتهيت إلى أن وقت الترجمة هو الفاصل بين عملين شعريين، ذلك الوقت الذى يقضيه الشاعر عادةً فى «بطالة شعرية»، بانتظار عمل جديد. خاصةً أن الترجمة يمكن إيقافها والعودة إليها فى أى وقت بعكس النص الشعرى. ودائمًا، حين أنتهى من عمل شعرى، أكون بحاجة إلى فاصل زمنى غير محدد، قبل الشروع فى عمل جديد. هذا الفاصل هو زمن الترجمة.
نعم. قبل بضعة شهور، صدر عملك الشعرى الجديد «أرعى الشياه على المياه».. عن دار نشر فى لندن.. فلماذا اخترت تعميده فى بلد أوروبي؟
هو عمل شعرى ذو طبيعة خاصة. ففى كل صفحة هناك اشتباك وتداخل بين العناصر التشكيلية المتعددة والعناصر الكتابية، بصورة دقيقة. وأى خلل فى التنفيذ الطباعى للإخراج الداخلى يؤدى إلى تخريب العمل، وضياع جهدى. فضلاً عن الارتباك الكبير فى مجال النشر المصرى، الذى يفرض شروطه على المؤلف ب «الإذعان»، بجانب تأخير الكتاب إلى أجل غير مسمًّى، أو يُخل بالاتفاقات المتعلقة بالجانب التقنى والفنى، ويصدر الكتاب بمواصفات غير متفق عليها، إلخ. لهذا كله، قبلت دعوة الصديق الشاعر العراقى «حكمت الحاج» لنشر العمل فى الدار التى أسسها منذ سنوات، مطمئنًّا إلى دقته، وأرسلت نسخة (بى دى إف) إليه لتثبيت تفاصيل الإخراج، وخرج الكتاب طباعيًّا بأفضل مما كنت أتوقع.
ما نُشر عن العمل من مقالات، خلال فترة وجيزة منذ صدوره فى يوليو 2018، يعنى أنه تجربة جديدة فى الكتابة الشعرية.. أليس كذلك؟
«أرعى الشياه على المياه» ليس «ديوانًا» يتألف من قصائد منفردة، بل «عمل شعرى» كامل، يبدأ، ويتواصل فى سياق شعرى متصل. وامتداد وتطوير لأعمالى السابقة، من زاوية توسيع أفق الكتابة، بتحويل الصفحة إلى ساحة متاحة لتعدد الأصوات والأشكال والصياغات، ومنها الرسوم المبثوثة فى كل صفحة. فالكتابة متعددة السياقات فى الصفحة، ومتعددة الأصوات، شأن الرسوم، بلا مخطط مسبق، ولا نمط جاهز. ولا مثال سابق، ولا هيمنة لعنصر على آخر، أو انفراد عنصر، أو صوتٍ شعريًّ ما، بفضاء النص أو الصفحة. وليست هناك مساحة مهدرة، إلى حد أن هامش الصفحات مشغول بكائنات متحركة أو أصوات أو أصداء منطلقة على غير هدًى فى زحام العالم. غابة عارمة من الأصوات والحيوات الصاخبة، المتقاطعة، المتداخلة، المتصارعة، مخترقة فضاء الصفحة إلى الكون، الجغرافيا والتاريخ، الماضى والراهن والقادم، الأدبى والتشكيلى، بلا انتهاء. وفى أحد مستوياته مزج بين «التشكيلى» و«الكتابى»، بلا نمطية، بصورة متوازنة تقريبًا. والعناصر «التشكيلية» رسمتها بنفسى، أو استعنت فى بعضها برسوم ورموز هيروغليفية، أو رسوم «فراس رفعت سلام» (5 سنوات).. وتتعدد الأصوات الكتابية، ومستوياتها، وإحالاتها الرمزية، عبر كل الصفحات، ليصبح العمل بنية مفتوحة، على غير نموذج. ولا تقتصر الفاعلية «البصرية» على العناصر التشكيلية، فلنص اللغوى محكوم بالتفاوت بين أنماط الخطوط المستخدمة (خمسة أنماط مختلفة)، بين الخط الصغير والكبير، الثقيل والخفيف، وتوزيعه ضمن بنية النص. وهى بنية تفرض على المتلقى الخروج على «أدبية» النص، أو اقتصار النظر على البُعد الأدبى، بالمعنى التقليدى، إلى النظر الشمولى فى «الأدبى» و»التشكيلى»، وطبيعة العلاقة بينهما، ودلالة العناصر فى علاقاتها المتفاوتة. وبالتالى يخرج عن إمكانية الإلقاء الشفاهى إلى حتمية القراءة الفردية، بفعل الحضور القوى للعناصر «البصرية» بصورة مطلقة. كمحاولة لفتح أفق الكتابة بلا حدود، لمنح الأفق طاقات وطبقات غير مألوفة، تأتى أحيانًا من أغوار الزمن والتواريخ، وأحيانًا من الرموز العتيقة التى راكمتها الحضارات، وأحيانًا من الخيال الإنسانى المحض المغامر. بما يجعل الكتابة «احتمالاً» لا «نمطًا»، «رؤيا» لا «إعادة إنتاج».
من أين أتتك فكرة الرسم المتداخل مع النصوص؟
كنت فى مارسيليا الفرنسية، بدعوة من المركز الدولى للشعر، لثلاثة شهور، نهاية 2005. وهناك بدأت كتابة «حجَر يطفو على الماء». وأثناء الكتابة، وجدت نفسى أخطط بعض الرسوم على أوراق جانبية، ففكرت بلا تركيز فى مزاوجة الرسوم والكتابة. وحين عدت أوائل 2006، عكفت على مراجعة المخطوطة. وأعطيت النص لأحد الأصدقاء التشكيليين، ليقدم رؤية تشكيلية كاملة مع النص الشعرى، ويصدر العمل مشتركًا، باسمينا على الغلاف. وبالفعل، أحلت المخطوط إلى أحد الأصدقاء التشكيليين، المقتدرين ثقافةً وإبداعًا. لكنه تماطل، وتسرب الوقت بلا إنجاز. فقررت عمل الصياغة التشكيلية للعمل بدلاً منه؟. لمَ نخاف، نحن الشعراء، من اللعب بالرسوم فى أعمالنا الشعرية؟ هل سينتقدنا البعض لأن رسومنا ليست مطابقة للأكاديمية، وأننا نرسم بصورة سيئة؟ فما المشكلة؟. وحسمت الأمر. وعكفت على إنجاز عشرات الرسوم لمجمل العمل. ولم يكن الأمر سهلاً. فمنذ سنوات بعيدة، لم أجرب الرسم، وكأننى أتعلم لغة جديدة، أسمعها، لكنى أجهلها. وبدت لى النتيجة النهائية معقولةً، ومُرضية. خاصةً أننى قمت بالإخراج الداخلى، ومزاوجة النصوص بالرسوم فى الصفحات وفق تصورى، وصممت الغلاف أيضا، ووجدت تجاوبًا وحماسًا من الناشر للمغامرة. وما لم يستطع تنفيذه الطباعة على «ورق لحمة»..! نعم، «ورق لحمة»!. وكان تبريره التقنى أن «ورق اللحمة» يتشرب الماء أثناء الطباعة، فيفقد تماسكه الضرورى لإنجاز الطباعة. واختار نوعًا من «ورق الرسم» الثقيل نسبيًّا ليتحمل طباعة الرسوم مع النصوص، بلا آثار جانبية. وكانت النتيجة أفضل من أن يشاركنى فنان تشكيلى. وسعدت كثيرًا حين أمسكت بالكتاب مطبوعًا.
ألم يكن مقلقًا لك، انطلاقك عكس القصيدة السائدة، التى تتعامل مع اليومى بلغة بسيطة، عادية، قابلة للاستيعاب السريع؟ فلا يتبنى هذا الاتجاه سواك الآن فى مصر، وربما فى القصيدة العربية كلها؟
لم يكن أمامى مفر. فالبدايات ذاتها فى ديوان «وردة الفوضى الجميلة» كانت محاولة لا واعية للتملص مما هو سائد فى الكتابة الشعرية فى السبعينيات، وسعيًا لاكتشاف طريق خاص بى، لم تعرفه الأقدام الكثيرة المحيطة. ويبدو لى أن «إشراقات رفعت سلام» (1992) الذى كتبته فى النصف الثانى من الثمانينيات، كان الطلاق النهائى مع التيار السائد فى جيل السبعينيات، الذى خلق نمطًا شعريًّا لنفسه، وانسجن بداخله. لقد فتح أفق القصيدة على مصراعيه، لكنه لم يقفز خارج «النمط/ السجن»، إلى ذلك الأفق، وظل حبيسه، يتخبط بداخله، وبه يعيد كل شاعر إنتاج ذاته. وحين اكتشف شعراء «شبان/ جدد» آنذاك قصيدة أخرى، منتصف التسعينيات، هرول، بشكل أعمى، فلول السبعينيين، ومَن تلاهم (ممن يصطنعون «جيلاً شعريًّا» يدعونه «جيل الثمانينيات») وراء هذه القصيدة الجديدة، التى بدت لهم مَخرجًا من أزمتهم الشعرية المستحكمة، قصيدة لا علاقة لها بما كتبوه قبلها. فانقسم نتاج كل منهم إلى نصفين بلا مصالحة بينهما. لقد قفزوا على منجز شعراء آخرين (شُبّان آنذاك)، بلا مساءلة لأنفسهم، ولا للنص ذاته، وبلا اجتهاد ولا خصوصية، فامّحت التمايزات، وتعمم النمط إلى «قصيدة عامة» يكتبها الجميع.. منذ التسعينيات إلى الآن. ولا يليق بالشاعر أن يمشى على أرض اكتشفها ومهدها آخرون، ثم يرفع عليها لافتة باسمه. فقَدَر الشاعر أن يمضى وحيدًا فى الطريق، على أرضٍ لم تطأها قدم، إلى أفق مجهول، لا مرئى.
فلنعد لكتابك الفائز بجائزة أبو القاسم الشابى «الأعمال الكاملة» ل «والت ويتمان»؟
صدر الكتاب قبل عامين، خلال دورة معرض الكتاب 2017، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بعد خمس سنوات من العمل المتصل، ووصل إلى ألف صفحة من القطع الكبير، فى أول ترجمة عربية للأعمال الشعرية الكاملة لويتمان. وبه، اكتملت رباعية «الأعمال الشعرية الكاملة» التى أنجزتها فى ربع القرن الأخير، كفافيس، وبودلير، ورامبو، ويتمان؛ والتى بدأتُها مع كفافيس، لتغطى سنوات من الكَد والعناء والمتعة الشاقة، فى آن. فهُم «سادة الحداثة الشعرية» ومؤسسوها فى ثلاث شعريَّات عريقة، باذخة، من شعريات العالم. و«أوراق العشب» ليس ديوانًا، بل أعماله الشعرية الكاملة؛ هو مجموع شعره الذى كتبه خلال حياته. فلم يصدر ديوانًا منفردًا، إثر ديوان، على عادة الشعراء المحدثين؛ لم يصدر سوى «أوراق العشب»، فى طبعات متتالية. وكل طبعة جديدة تحمل ما استجد من قصائده. والفارق شاسع بين الطبعة الأولى (1855) وطبعته الأخيرة (1892)، المعروفة ب «طبعة فراش الموت»، كآخر طبعة أشرف على إصدارها وضبطها بنفسه، التى تمثل «الأعمال الشعرية الكاملة» له. هو الفارق بين عمل شعرى «أوَّلى» من اثنتَى عشرة قصيدة، وعمل شعرى «نهائى» يتجاوز الأربعمائة قصيدة، مُنقحةً، معدَّلَة، مضبوطة فى شكلها النهائى.
لماذا اخترت هذا الشاعر الأمريكى تحديدا؟
بعد اثنين من كبار شعراء الفرنسية، رامبو، وبودلير، وثالثهم الشاعر اليونانى العظيم كفافيس، كان لابد أن أتجه إلى الشعر المكتوب بالإنجليزية. وهنا، لن تجد قامة موازية لكفافيس، وبودلير، ورامبو- كمؤسسين للحداثة الشعرية- أفضل من ويتمان. إنه مؤسس الحداثة فى الشعر المكتوب بالإنجليزية، ومن تجربته الشعرية الفريدة انطلقت بعده حركات وأصوات شعرية كبرى فى القرن العشرين، واستندت إليه، واستلهمته، سواء فى الولايات المتحدة الأمريكية أو خارجها.. وصولاً إلى لوركا ونيرودا. و«والت ويتمان» (31 مايو 1819- 26 مارس 1892) ليس شاعرًا، بل ظاهرة شعرية فريدة، تلقى بظلالها الكثيفة على شعرية القرن العشرين، الأميريكية والإنجليزية، بل العالمية؛ قادمةً من قرنها التاسع عشر. هو مؤسس لشعرية أخرى، قادمة دائمًا، لم تكن ابنة القرن التاسع عشر، بل ابنة القادم فى القرن التالى وكل قرن، ليصبح بوصلة مؤكدة، ويتلقى العرفان الشعرى والثقافى اللائق به، بعد أن حُرم منه طوال حياته (شأن جميع الكبار والمؤسسين، من قبيل بودلير ورامبو، المعاصرَين له فى ثقافة ولغة أخرى، على الضفة الأخرى من الأطلنطى). و«أوراق العشب» سِفره الشعرى الكامل، وصرح شعرى، استغرق نحو نصف قرن من حياته، والنصف الثانى من القرن التاسع عشر بكامله. قارة شعرية بكاملها- لم يسبق أن عرفها الأدب الأميريكى، ولا المكتوب بالإنجليزية عامةً- تضم بلدانًا وأنهارًا وجبالًا وبحارًا، مما لا عينٌ من قبل رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب شاعر من قبل.
ما الملامح الرئيسية لأشعاره لمن لا يعرفه؟
«أوراق العشب» احتفالٌ رفيع بالحياة، بالحب، بتفتح الطاقات الإنسانية عن آخرها، بلا حدود ولا أسلاك شائكة. هى «أنا» الإنسان الفرح بالشمس، والأرض، والنجوم، وزرقة السماء، والرياح، وموج البحار؛ المبتهج برفقته الإنسانية، بأخوته ومحبته الكاملة والعميقة للآخر، امرأةً أو رجلاً أو فتاةً، طفلاً أو عجوزًا، أبيض أو أسود، بلا تمييز أو تمايز. إنه مطلَق الإنسان، مطلق الجمال الإنسانى، فى جميع أشكاله وتحولاته. عشقٌ وحدَبٌ على كل ما هو إنسانى أو طبيعى، حُنُو وشغف، حُب واحتفاء. سَبرٌ لأغوار الوجود الإنسانى فى ذاته، فى إنسانيته المرئية والخفية، فى طاقاته الكامنة القادرة على اجتراح المستحيل كالآلهة، فى عنفوانه اللانهائى، المطلق، بلا ميتافيزيقا ولا أوهام أو خرافة. فالمطلق الوحيد فى الوجود هو الإنسان الفيزيقى،المكتنز- حتى فى بؤسه وضعفه وتهميشه- لطاقات حيوية، قادرة على أن «يخرق بها الأرض، ويبلغ الجبال طولَا». هو الحلم بالحرية الإنسانية الكاملة، بتحقق الإنسان على أرضه، برفقة «أخيه» الساعى بدوره إلى التحقق الممكن، بلا منافسة أو تناحر (كأنه حلم بيوتوبيا تتحقق فعلًا فى التاريخ وعلى الأرض، على يد الإنسان الأمريكى، من أجل ذاته وأجل الآخرين، شركائه فى الحياة على الكوكب نفسه). لكن هذا الصوت، المغنى بأعلى ما فى طاقته وطاقة أى صوت من عنفوان، تكسره الحرب المفاجئة، التى تقسم ما كان موحدًا، وتفصل ما كان مندمجًا، وتطيح بالجثث والأشلاء، والصرخات والحشرجات، فى الشمال والجنوب. ما بين 750 إلى 850 ألف جندى قتيل (غير 50 ألف قتيل من المدنيين، فضلًا عن 60 ألف مُعَاق) فى حرب أهلية أقرب إلى «الإبادة» أو «المجزرة» المتبادلة بين جيشَى الشمال الحكومى والجنوب المتمرد الساعى إلى الانفصال. وما إن تتوقف الحرب، حتى يُقتَل أبراهام لنكولن، الرئيس الذى حمَّله ويتمان أحلامه، وأسقط عليه عذاباته وجراحه، بما يشبه «المخلِّص» الذى يحمل سيفًا. فلماذا تنهار الأحلام معًا؟ دفعةً واحدة؟ لا يوتوبيا، ولا فراديس؛ لا أناشيد ولا أغنيات بهيجة، بعد اليوم. قصائد يمشى فيها شاعرها مُثقلًا بالزمن، مثخنًا بالجراح والطعنات، على كاهله جُثث القتلى وأجساد المصابين، وتحتل سمعَه الصرخات والنشيج. كأنه الموكَّل بالألم الإنسانى، العجوز المهدهد للمصابين والمحتضرين، المبشِّر منكسرًا بسلامٍ قادمٍ- بلا يقين، كأمل نظرى غائم- يرأب الصدوع والانكسارات، ويرمم الأنقاض؛ دون أن يدرى متى، ولا كيف. ولا التزام- فى بنيته الشعرية- بالنمط الشعرى السائد آنذاك؛ معتمدًا نمط «الشعر الحر»، وإيقاعًا أقرب إلى إيقاع الإنجيل. ولا قافية. لا قواعد معيارية للوزن، ولا طول الأبيات. ولغة لا تعرف الذهنية والتأملية، لا تعرف التعالى والرطانة الثقافية الأدبية، بل تخرج مباشرةً من الحياة اليومية العادية للإنسان، جليةً نافذة، إلى جسد القصيدة. هى أقرب إلى لغة اليومى، لا اللغة الأدبية القاموسية المعيارية، بحكم تركيباتها شبه «الشفاهية»، والتناثر الواسع للألفاظ القادمة من الأصول الثقافية للمهاجرين. كتابة شعرية عابرة للحدود والأشكال، غير مسبوقة، مستخدمة صورًا ورموزًا غير مألوفة، صورًا ورموزًا «أرضية»: أوراق الشجر المتعفنة، حِزَم القَش، الأنقاض؛ متخطيةً التوجهات السائدة نحو آفاق مفتوحة فى الكتابة عن الجنس، والحب، والأخوة الإنسانية المطلقة. «أنا» من لحم ودم، بلا تصورات ذهنية مجردة؛ «أنا» الإنسان العادى، البسيط، العابر للطبقات والفئات والمستويات الاجتماعية والثقافية؛ العامل، والفلاح، والمراكبى، والراعي؛ بأحلامه البسيطة، وحياته المتقشفة الصعبة، ومجاهداته اليومية للبقاء على قيد الحياة العسيرة، لكن الكريمة.
هل الشاعر يكون أقدر من غيره على ترجمة الشعر؟
نعم، ولا..! فالقدرات المطلوبة فى ترجمة الشعر لا تقل عن قدرات الشاعر، فى الحساسية، والطاقات اللغوية والخيالية، وسعة الأفق والثقافة؛ لاستيعاب الطاقات المختلفة الكامنة فى النص الشعرى الأجنبى، وتقديمها بأكبر دقة وكفاءة ممكنة. وهو ما يتحقق فى حالة فريدة، غريبة: أن يتخلى الشاعر المترجم عن ذاتيته، ويمنح قدراته الشعرية إلى الشاعر الآخر الأجنبى بمحبة، مدركًا التمايز بينه وبين الآخر، ومحققًا لهذا التمايز خلال عملية الترجمة، عن وعى ورحابة صدر. لكن المشكلة تكمن فى عجز الشاعر عادةً عن الفصل بين ذاته والآخر، فإذا به- فى غالبية الأحوال- يقدم «صياغته الذاتية» للنص الشعرى الذى كتبه شاعر آخر، لا صياغة الشاعر الآخر. وإذا بالقارئ المدقق يفتقر إلى السمات الأسلوبية للشاعر الأجنبى، ويعثر- بدلاً منها- على السمات الأسلوبية للشاعر المترجِم. وهى حالة «تأميم» للنص الأجنبى، ومصادرة لا واعية لخصوصيته الشعرية. وتلك هى المشكلة.
كيف تستعد لترجمة أعمال أى شاعر؟
هل تقرأ أشعاره وحسب، أم تقرأ كافة كتاباته؟ وتتعرف على حياته، وتكوينه الإنسانى والنفسى، وهل هذا مفيد فى تفسير معانيه الشعرية، وترجمتها بشكل أحكم؟
هناك ضرورة لاختبار مدى توفر «المصادر» (بالإنجليزية والفرنسية)، وإمكانية توفيرها حتى بما يزيد عن الحاجة، ثم التحقق من امتلاك النصوص المطلوبة، ربما فى أكثر من نسخة (فى ترجمات «الأعمال الكاملة»، كان لديَّ دائمًا ما لا يقل عن ثلاث طبعات مختلفة لتلك الأعمال) للمقارنة والتحقيق الأولى.. فضلاً عن الدراسات المحيطة بالتجربة الشعرية، والحياتية، والمرحلة التاريخية. وهذا الحشد للمصادر والمراجع ليس أمرًا سهلاً. فمن أين ستأتى بهذه المصادر والمراجع الحديثة (وهى غير متاحة بالقاهرة)؟ لا يكون أمامى سوى انتهاز فرصة الدعوات إلى المهرجانات الأدبية الأوروبية- وخاصةً فى فرنسا- للقيام بعمليات مسح للمكتبات المتاحة هنا وهناك، لتوفير الأعمال الضرورية (ولن نتحدث عن الأسعار الباهظة، نتيجة انهيار سعر صرف الجنيه المصرى). بعدها، يكون من الضرورى التعرف على حياة الشاعر، وفهم تركيبته الثقافية والنفسية (بقدر المستطاع)، وملابسات زمنه الثقافية والإبداعية والعامة، والتيارات الشعرية السائدة، وموقفه منها، للدخول إلى عالمه الشعرى، والسيطرة عليه إدراكيًّا: سماته الأسلوبية، طبيعة المستوى اللغوى الغالب على نصوصه، طبيعة المعجم والألفاظ، كيفيات بناء الصورة الشعرية، إلخ. وكثيرًا ما ينتابنى الإحساس أننى أتمشى معه فى نفس الشوارع، وأجلس معه فى نفس المقاهى، وأسهر معه فى ليالى الأرق، وأخوض معه أزماته العصيبة.. كأنه قرينى أو كأنى قرينه القادم إليه من زمن آخر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.