مصطفى عبادة بعد ستة دواوين شعرية ترجمت إلى أغلب لغات العالم الحية، وضعت الشاعرة المغربية عائشة البصرى فى مصاف كبار الشعراء العرب. ها هى تكتب روايتها الأولى «ليالى الحرير» التى صدرت منذ أيام وفيها تتسامى حالات صراع الأنثى وآلامها إلى مستويات عالية من التأمل الوجودى والقلق الروحى العميق والمضىء. وعائشة البصرى عضو بيت الشعر بالمغرب، وعضو اتحاد كتاب المغرب، وعضو الجمعية الدولية للنقد بفرنسا، وعضو فى عدد من لجان التحكيم الأدبية، بالإضافة إلى الشعر تكتب المقالة والنقد الفنى. ومن إصداراتها الشعرية: مساءات (المغرب 2001)، أرق الملائكة (المغرب 2002)، شرفة مطفأة (المغرب 2004)، ليلة سريعة العطب (لبنان 2007)، حديث مدفأة: حقيبة فنية بالاشتراك مع الفنان عبد الله الحريرى (فرنسا 2012)، صديقى الخريف : حقيبة فنية بالاشتراك مع الفنان محمد بنانى (المغرب 2009)، خلوة الطير (سوريا 2010 )، درس فى الرسم : قصائد للأطفال ( المغرب 2013)..السخرية فى شعر محمود درويش : دراسة نقدية. " ليالى الحرير " رواية تجريبية، تخلط بين الكثير من الأنواع الأدبية، هل هى مغامرة تتحدى الرواج الروائى السهل ؟ فى إطار التصنيفات النقدية، قيل الكثير عن ليالى الحرير: رواية تجريبية، رواية تحرى، رواية فانتاستيكية أو( شيئا من الواقعية السحرية) شخصيا ليس لى لا القدرة ولا الحق فى التصنيف فهذا حق النقاد. ولا حق لى فى التأويل. التأويل ليس من شأن الكاتب. حقى الوحيد مارسته وبجرأة فى محاولة التجريب وخلخلة البنيات الجاهزة وعقد توافق جديد مع القارئ .وهو ما ينحو فى اتجاه تصنيفك. لا أظن أن هناك خلطا بين الأنواع الأدبية فى ليالى الحرير، بقدر ما هناك استفادة من تقنيات أنواع أدبية أخرى. فبالإضافة لما اكتَسَبْتُه من تقنيات الكتابة الشعرية. التناص العمدى مع أعمال روائية معروفة؟ - حركة الحلم فى الرواية أنشط كثيراً وأبلغ تأثيراً من حوادث اليقظة. توظيف هذا الحلم كفضاء يسمح لى بالخروج من الواقع، دون إثارة حفيظة القارئ. -توقيع الكاتب بإدراج اسمه بشكل عمدى ومقصود، وهى تقنية استعملت كثيرا فى السينما . -الكثير من التمويه والمراوغة للقارئ: وأنا أكتب ليالى الحرير كنت أتسلى بتضليل القارئ . وأسعى للتمويه بما أمكننى من حيل روائية. حتى وأنا أضع حواشى للرواية كمفاتيح مساعدة، كانت تلك المفاتيح ( الحواشي) تفتح أبواب متاهات أخرى. عملت عبر امتداد النص على اقتياد القارئ إلى متاهات جمالية لهذا قد تبدو ليالى الحرير متعبة لبعض القراء، وقد قصدت ذلك. -تفتيت الشخوص، حتى لم يعد هناك بطل واحد تدور حوله الرواية. حتى الكلبة منحتها حيزا من فضاء الشخصيات. -الشخصيات كلها ميتة بما فيها الساردة التى لا تعى ميتاتها الإكلينيكية المتكررة . بل حتى الروائية التى من المفروض أن تكون عالمة بكل شيء، فى هذا الفضاء الروائى ليس لديها اليقين بموت أو حياة الساردة . وهذه متاهة أخرى. -تنويع الأمكنة والأزمنة : الرواية مركبة ومبنية على ثلاثة عناصر: عنصر الواقع، عنصر الحلم الذى تنشأ فيه أجزاء مهمة من الرواية، بالإضافة إلى عنصر الغيبوبة، البرزخ الذى يربط بين عالم الموتى وعالم الأحياء. هذا المابين، الفضاء الحقيقى للرواية، حيث تتنقل الساردة فيه بسلاسة، بحثا عن أجوبة لم تجدها فى الحياة فسعت إليها فى الموت. «ليالى الحرير» طموح صغير، بغض النظر عن ثراء الموضوع الذى سأكتب عنه، رهانى كان رهانا جماليا و تقنيا بالدرجة الأولى، أى كيف سأكتب وليس فقط الموضوع الذى سأكتب عنه. على هذا الأساس يمكننى القول إنها مغامرة تتحدى الرواج الروائى السهل. ألمح فى خلفيات الرواية رؤى تسجيلية خاصة فى وصف الأماكن والروائح، ما مدى الخبرة الذاتية فى الرواية ؟ الكاتب لا يستطيع أن يتخلص من الإحالات المرجعية لواقعه، دون أن يعنى ذلك أن الكاتب لابد أن يسقط فى سيرته الذاتية . إننا لا نكتب من فراغ. "ليالى الحرير" هو مسار شاعرة عاشت أو تخيلت حيوات كثيرة وتنقلت بين فضاءات متعددة. كل قصيدة هى حكاية حياة، ومن الطبيعى أن أوظف هذا التراكم التخييلى كعنصر من بين العناصر الأخرى التى اعتمدتها فى كتابة الرواية. هذا فضلا عن استغوار تجارب التعلم والسفر والتكوين والمعاناة والألم. شكلت الأحلام والكوابيس وعالم اللا وعى جزءا مهما من الرواية، أليست هذه عوالم شعرية ؟ بالطبع، وعلى أن أذكرك أن الساردة تقدم نفسها كشاعرة. كما أن الرواية نحت منحى ذهنيا وسيكولوجيا لم أخطط له مسبقا. عندما ذهبت إلى كتابة هذا النص الروائى، لم أضع هويتى الشعرية فى خزانة الملابس. فى كل نص جديد أكتبه أحظر كفرد وكذات متعددة فى نفس الوقت . ذلك أن الأنا دائما هى الآخر . أنت تعرف - بدون شك - قولة الشاعر الفرنسى أرتور رامبو (أنا آخر). وقولة الروائى الفرنسى كلود سيمون (أنا آخرون). الكاتب فى النهاية متعدد حتى عندما يريد أن يظل مفردا . استفاد السرد من اللغة الشاعرية حتى أننى أحصيت أكثر من عشرين قصيدة نثر مكتملة داخل الرواية ألم تشعرى بثقل ذلك على العمل؟ أشكرك على القراءة الدقيقة المتضامنة مع هذه الرواية. أعجبتنى ملاحظتك الذكية لأنها قد ترضى غرور الشاعرة فى داخلى، إن صح ذلك . لكننى عندما كنت بصدد كتابة هذا النص الروائى كنت أبذل قصارى جهدى لأشيد عالما روائيا ببصمتى الخاصة لأننى لا أؤمن برواية خالية من روح الشعر، لكننى لم أتقصد مطلقا أن أبنى معمارا روائيا بقصائد نثر كلبنات متراصة. ربما نجحت، لأن قراء آخرين تحدثوا عن شعرية اللغة وكثافتها، ولم ينظروا إليها كقصائد نثر نائمة. كثير من الشعراء جربوا كتابة الرواية ما تفسيرك لهذه الظاهرة لدى المبدع العربى ؟ أن يكتب شاعر رواية هو إثراء مضاعف. وأستغرب أن مثل هذه الأسئلة ما زالت تطرح فقط فى العالم العربى، خصوصا حينما يطرحه البعض أحيانا باستنكار . طبعا أنا لا أقصدكَ، فأنت صحافى وعليك أن تطرح الأسئلة التى تُطرح فى الساحة. يبدو لى أننا فى الساحة الثقافية العربية لم ندرك بعد أن سؤال الأجناس الأدبية أصبح متجاوزا بمعنى من المعانى، فى ظل انتشار مفهوم الكتابة، ومفهوم النص، ومفهوم التناص، ومفهوم النص الموازى إلى آخره .ومثل هذا السؤال لا يطرح فى سياقات ولغات وساحات ثقافية وأدبية أخرى رغم أن عددا من كتاب الرواية فى القرن العشرين قدِموا من الشعر: سراماغو، بول أوستير، الطاهر بنجلون، ميشيل بوتور، بيتر هاندك، غونتر غراس وغيرهم ...بل وفيهم من ظل يكتب الشعر والرواية فى نفس الآن. كما أن فيهم من عاد إلى الشعر بعد أن حقق منجزات باهرة فى الكتابة الروائية . أريد هنا، أن أعترض على حراس الأجناس الأدبية لكى يرحموننا من هذه النقاشات البالية . أتمنى أن يدرك هؤلاء الحراس أن الشاعر أو الكاتب لا يختار الشكل مسبقا بل هناك قضايا وانشغالات تختار شكلها الملائم. فى كل الأحوال الشعر ليس طريقا نحو الرواية والرواية ليست "استراحة محارب" بالنسبة للشاعر. هل تتذكرين اللحظة التى قررت فيها مغادرة الشعر مؤقتا لكتابة هذه الرواية ؟ كيف كانت؟ فيم كنت تفكرين؟ فى بداياتى، كتبت القصة القصيرة . ونلت جائزة عن قصة قصيرة فى مسابقة طلابية .لكننى لم أدخل تجربة النشر إلا مع الشعر وفى وقت متأخر نسبيا. لم أغادر الشعر وأتفرغ كليا لكتابة الرواية التى دامت أكثر من سنتين، بل كنت منهمكة وبتواز فى مشايع شعرية أخرى . كتابة الرواية لم تكن بالنسبة لى تكتيكا، أو موضة يتبعها الشعراء حاليا كما يروج، بل كانت الرواية بكل بساطة لحظة خاصة جدا لا علاقة لها بالجو الثقافى العام، وليس تحريضا لجنس أدبى ضد جنس آخر.عند منعطف ما، أحسست بحاجة لمساحة أكبر لأكتب شهادة صريحة عن الحياة أو بالأحرى لأوصل للقارئ خلاصة حياة. أو ربما - كما قيل - حين يرفضنا الواقع أو يصبح من الصعب أن نتكيف معه نبحث عن انتماء ما فى الرواية : نخلق شخصيات ونجعل منها أباء وأخوالا وأعماما وإخوة وأحبة وكذلك أعداء. نبنى فضاءات نسكنها : شوارع وأحياء ومدن نفترضها. أشتغل فى نفس الفضاء. كتابة الرواية لا تبعدنى كثيرا عن اهتمامات أخرى . أنا الآن منهمكة بكتابة الجزء الثانى لليالى الحرير، وفى نفس الوقت أشتغل على يوميات وأنقح ديوانا شعريا جديدا سيصدر قريبا. لا تزالين مشغولة – كما شعرت من قراءة الرواية – بهموم المرأة، كيف ترين ما تنجزه المرأة المبدعة الآن؟ وضع المرأة كان ولا يزال يثقل كتابات المبدعات . لن نتخلص منه ما دمنا لم نحقق الحد المعقول من الكرامة وحرية التعبير. ليس للمرأة فقط بل للجنسين معا، الرجل والمرأة. خصوصا أننا بدأنا نعيش ردة واضحة فى بعض البلدان العربية . ومن الطبيعى أن أُحَمِّل روايتى كما حمَّلت شعرى إشارات لهذا التوتر الاجتماعى الذى تعيشه المرأة دون السقوط فى أنثوية مبالغ فيها . فى كتاباتى حاولت الانفلات من الانسياق العام الذى عرفته الكتابات النسائية. لم يكن الرجل بالنسبة لى ذلك العدو رقم واحد بل اعتبرته دائما رفيقا فى الصراع ضد الظلم والقهر والحروب والعنف بجميع أشكاله السياسية والاجتماعية . علمتنى ممارستى السياسية أننى أنا والرجل فى خندق واحد. نناضل معا بالكلمة من أجل حياة كريمة. فى ليالى الحرير إشارات قوية عما تعانيه المرأة المبدعة على الخصوص. بما أن الساردة لها علاقة بالكتابة. تلك المرأة التى تعيش قلقا وجوديا عميقا. امرأة تطرح أسئلة بسيطة حول الموت والحياة والحب والكره. بحثا عن أجوبة كونية تنسج بها رؤية للعالم. المرأة المحبطة، المتشطية، المثخنة بالجراح، المفتقدة لنعمة البوح والاحتجاج . المرأة/الجسد الممزق بين ثقافات وإيديولوجيات. لكنها فى نفس الوقت امرأة مشاكسة دون عنف ومسالمة دون إذعان. إنها امرأة تمتح من ذاكرة الطفولة لترسم عالما مرتبطا بكائن إنسانى محدد ومعقد، عالم امرأة، الذى هو بمثابة منظار سحرى لتجارب مختلفة و لحظات معاشة مرغوب فيها أو محلوم بها . كقطع صغيرة من السيراميك تجتمع لتبرز صورة امرأة . حين نتساءل عما أنجزته المرأة المبدعة يحيلنا السؤال على الجرح النازف: كم تملك المرأة العربية من مساحة حرية للبوح؟ إن تحديد تلك المساحة هو الذى يحدد مدى النضج والاكتمال اللذين ستبلغهما أو بلغتهما تجربتها الإبداعية، وبما أن الإبداع هو انكشاف الذات على الآخر بكل انفعالاتها: غضب، حب، حزن، فرح، يصبح الجسد فى قفص الاتهام بدل النص فتهرب المبدعة إلى نحو الغموض والطرق الملتوية للتعبير عن أشياء بسيطة وعادية. كل هذا لم يمنع من تألق أسماء وتجارب نسائية فى السنوات الأخيرة. شاركت المرأة بقوة فى التغيير الثورى العربى كيف تابعت ذلك؟ وهل ستنتج الثورات الحالية أدبا جديدا؟ لا أحد الآن ينكر دور المرأة فى الحراك السياسى الأخير الذى عرفه العالم العربى فى الساحات والميادين وعلى الفيس بوك. شخصيا وككل المثقفين العرب، تحمست فى أول الأمر لهذه الثورات العربية التى أدت إلى تغيير سياسى عربى. وأعطت الشعوب العربية ثقة فى المستقبل. لكننى أجدنى الآن أكثر حذرا إن لم أقل أكثر خوفا من هذه الثورات لما عرفته البلدان العربية التى حدثت فيها ثورات حقيقية من انحراف عن أهداف ثوراتها. بل فسحت المجال لتحقيق أجندات أجنبية. شخصيا لا أحبذ أن نستبدل ديكتاتورية سياسية بأخرى دينية, وهذا ما عرفته بعض البلدان العربية. لا حوار مع التطرف كيفما كان حتى ولو جاء عن طريق صناديق الاقتراع. الحقيقة المرة هى أن ثوراتنا العربية سرقت وأجهضت.إذا استثنينا ما قام وما زال يقوم به الشعب المصرى العظيم من محاولات لاستعادة ثورته.