نجيب محفوظ أسّس أولي لبنات نص عربي بميزة عالمية لكن هناك روائيين كبارا لم يأخذوا حقهم من الاهتمام زوليخا موساوي الأخضري.. كاتبة مغربية تعمل أستاذة اللغة الفرنسية بالتعليم الثانوي، ولدت بمدينة وجدة في شرق المغرب ماجستير قسم أدب فرنسي وأدب مقارن تخصص أدب مغاربي وإفريقي عضو في العديد من الجمعيات الثقافية داخل المغرب وخارجه، وضعت علي رفوف المكتبة »رواية الحب في زمن الشظايا سنة 2006 ، ومجموعة شعرية أبابيل الصمت »سنة 2008، رواية« »في حدائق كافكا« 2012م تكتب أيضا القصة القصيرة و الخاطرة و تنشر في العديد من المواقع الالكترونية طرحت عليها أسئلة الرواية وهي أسئلة تبحث في هموم ومواضيع الكتابة الروائية .. رهان العالمية ما أهم التحديات التي تواجه الرواية العربية ؟ - نستطيع القول إن الرواية العربية حقّقت في السنوات الأخيرة تراكما كميا وكيفيا جعل البعض يسمي هذه الفترة بزمان الرواية وأنها أصبحت ديوان العرب بعدما كان الشعر يحتلّ هذه المرتبة علينا أن نتساءل لماذا لم تحقّق الرواية العربية رهان العالمية رغم فوز نجيب محفوظ بنوبل منذ عدة سنوات؟ - الرهان المستعجل و الحقيقي هو التأسيس لثقافة قرائية. لا أحد يجهل أن الشعب العربي شعب لا يقرأ. نلاحظ أن هذه الظاهرة استفحلت في السنوات الأخيرة مع الثورة المعلوماتية. كيف نكسب عددا أكبر من القراء؟ لماذا لا يشهد ظهور رواية عربية ذلك الإقبال المنقطع النظير الذي تعرفه بعض الروايات الأجنبية فنجد القراء يبيتون ليلتهم مصطفين أمام المكتبات للحصول علي نسختهم؟ متي يصل القارئ العربي إلي هذه المرحلة من الارتباط الوثيق وهذا الشغف بالكتاب عموما وبالرواية علي وجه الخصوص؟ هل هي أزمة الرواية كموضوع أم أزمة النشر كما يراه كثير من كتاب الرواية، أزمة قارئ أم أزمة منظومة مجتمعية و ثقافية ذات أبعاد استهلاكية سطحية؟ بماذا نبرر غياب النقد و التتبع الإعلامي للإبداعات علي مستوي الرواية خاصة والأجناس الأدبية الأخري عموما؟ - أظن أن الجهود لا بدّ أن تتضافر كي تخلق مشهدا ثقافيا جديدا. جهود الحكومات والمؤسسات و الأفراد مبدعين وقراء. السارد الديمقراطي بحسب نبيل سليمان وما يعوق السرد عنده ؟ - يري نبيل سليمان أن الرواية كائن اجتماعي. من هذا المنطلق يؤسس لنظريته حول السارد الديمقراطي. ربما تتحقّق في نوع خاص من الروايات مثل الرواية التاريخية التي تستوجب ساردا عليما لكن محايدا وغير مشارك في التسلسل الأحداثي بل هو فقط عين ترصد وتحكي ما رأت. لكن كيف يتحقّق السارد الديمقراطي مثلا في رواية تصعب علي التجنيس تتعاقب فيها الإستطرادات و المونولوج و الهذيان و التداخل في الأزمنة و الأمكنة ؟وضعية السارد الديمقراطي وضعية مريحة غير مقلقة من حيث أنه يتولّي عملية السرد بصفته العليمة العالمة دون أن يساهم ذلك في خلخلة النص. أين يمكن أن نصنّف السارد في رواية جاك لوفاتاليست لديدرو مثلا؟ هذا السارد المجهول الهوية الذي يخاطب القارئ مباشرة ويعده أنه سيحكي له المغامرات العاطفية لجاك ولا يفعل؟ لقد أثرت هذا الموضوع في روايتي في حدائق كافكا. تعدّد الأصوات السردية أو ما سمّاه تودوروف بالبوليفونية يضرب في العمق هذه النظرية.هل دور السارد ينحصر في كونه تلك الحلقة الضرورية التي تربط النص بالقارئ أم يمكنه أن يساهم في التكثيف الأحداثي وتواتر دلالات النص؟ إلي أي حد تضر الأدلجة بالنص ؟ - ما اصطلح عليه أدلجة هو إقحام أيديولوجية معينة في المتن الروائي وفرضه فرضا علي القارئ الشيء الذي يضرّ بالهدف من الرواية ومن النص الأدبي عموما. أري أن مهمة الأدب هي خلخلة الموروث و السائد من الأفكار و الظواهر الاجتماعية لكن في قالب أدبي غرضه الأساسي إمتاع القارئ ومنحه شيئا يجنح به نحو آفاق فنية جديدة تكسر رتابة يومه المكرور. هذا لا ينفي أن يعانق الأديب هموما مجتمعية وإنسانية يرقي بها من خلال عمله إلي الجمال و المتعة الفنية. قطرة في هذا الوادي كيف يستفيد الكاتب من التراث الخاص والعام لبلورة رؤية تحدد مسار نصه ؟ - لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكتب الأديب انطلاقا من الفراغ. بل هو يستند في تجربته الإبداعية علي كل ما يحمله كإرث مجتمعي وإنساني ويعتبر إبداعه قطرة في هذا الوادي العميق الذي يسمي الإبداع الإنساني. كل إبداع هو لبنة لما سبقه و ما سيلحق به. عبّر الكاتب الأرجنتيني بورخيص عن هذه التعاقبية في الإبداع عبر نظريته التي أسماها: برج بابل. واعتبر أن الحضارة البشرية هي مكتبة ضخمة تتناسل أدراجها وتعلو كبرج بابل نحو السماء أي مفتوحة علي اللانهاية. ما ضرورة أن يبحث الروائي عما لا يقال ويقوله بطريقته ؟ - كل من يستطيع أن يقول ما يريده هو ملك روما بطريقته الخاصة قال بيسوا.الروائي حتما يبحث عما يقال و ما لا يقال. هذا أمر مهم لكن الأهم منه هو أن تكون له طريقته الخاصة في توصيله بشكل يكون إبداعه قيمة مضافة للإرث البشري. وهنا بالضبط تكمن خصوصية كل مبدع. ألا يقوم فقط بتكرار فظ لما قيل وما يقال. كيف ترين الرواية قبل وبعد عام 2000 ؟ - سنة 2000 لم تحمل جديدا سوي دخول البشرية لحقبة زمنية أخري تسمي الألفية الثالثة. لكن ما يحدث الآن ليس فقط علي الساحة العربية بل والعالمية قد يخلق فارقا في حقبتين وبالتالي يمكن توسيمهما بما قبل الثورات العربية وما بعدها. أظن أن الحراك السياسي من شأنه أن يفتح آفاقا جديدة للعمل الإبداعي أو علي الأقل يكون حافزا لإثارة مجموعة من الأسئلة الجديدة وطرق مواضيع كانت فيما قبل في خانة التابو والمسكوت عنه. هذا لا ينفي أن كثيرا من الروايات العربية حققت هذا الانصهار المجتمعي قبل هذه الفترة واستطاع كتابها تشريح الواقع العربي المزمنة أمراضه لدرجة خلخلة الموروث والسائد من الأفكار والتي حتما أقلقت ذوي العقول الدوغمائية. ماذا ينقصك كروائية ؟ - بما أنني أكتب الرواية و القصة القصيرة و الشعر يمكن أن أقول: ينقصني نص لم أكتبه بعد. الناقد و العاشق للنص هل تحتكمين لآراء النقاد بشكل نهائي ؟ - لا يجب الخلط بين الناقد و العاشق للنص. الناقد يمتلك أدوات بواسطتها يستطيع تفكيك النص و جمع شتاته للوصول إلي دلالاته. يشترط فيه أن يكون ملمّا بتاريخ الأدب ، بالتيارات الأدبية و بأحدث النظريات النقدية العالمية بحيث يشكّل وعيه المتجدّد بمتغيّرات الساحة الثقافية الشيء الذي يمكّنه من تخطّي الأنماط التقليدية وبذلك يمكنه أن يفتح النصّ علي قراءات أخري متعدّدة ومختلفة ولا يحصر النص في خانة عقيمة. الناقد يستقرئ النص والنص فقط ولا يستدعي تأويلات يسقطها عليه و علي كاتبه فيجانب بذلك الصواب. يمكن لقارئ عاشق للنص أن ينجز مقاربة من خلال مداركه وموروثاته القرائية لكن لن يكون بحال من الأحوال ناقدا. في الحالة الأولي فقط أقرّ برأي الناقد وأحترم بطبيعة الحال القارئ المتتبّع للإنتاج الأدبي الذي يوّد بصفته قارئا متميّزا أن ينجز له قراءة خاصة تكون في كثير من الحالات سببا في إثرائه. أهم رواية قرأتها في العام 2012 ؟ - رواية يوسا: بنطليون و الزائرات. لا أدري إن كانت الأهم لكنها راقت لي كثيرا. بفنية عالية و باعتماد سخرية سوداء لاذعة ينتقد الكاتب الطغمة العسكرية الحاكمة التي تستغل سلطتها بكل الوسائل لتدجين الإنسان و شلّ قدرته علي إدراك الواقع بل و تعمد إلي محو شخصيته بتبئيسها و إرجاعها إلي مرحلة الغرائزية الحيوانية. الفكرة بسيطة جدا تتلخص في ادخال مجموعة من المومسات إلي الثكنات العسكرية لمعالجة ظاهرة اغتصاب نساء القري المتاخمة لهذه الثكنات من طرف الجنود. اعتمد فيها يوسا علي تقنية جديدة في الحوار تتطلب تركيزا شديدا من القارئ لتتبع خيط الأحداث المتشابكة. فتراه في لحظة سردية واحدة يعرض ثلاثة حوارات و أكثر تختلط فيها الأزمنة من ماض وحاضر. لماذا هذه الحركية هل تعيدين حساباتك بناء علي ما جري وما يجري الآن في الساحات العربية ليكون لك طرح مع أو ضد أم أن الأمر عادي بالنسبة لك ؟ - أكيد أن الأمر ليس عاديا بالنسبة لي. فما يجري الآن ليس فقط في العالم العربي بل وأيضا في دول العالم كإنجلترا والولايات المتحدةالأمريكية جدير بالاهتمام و المتابعة. لماذا هذه الحركية الآن بالضبط؟ من وراءها؟ وما الغاية منها؟ أسئلة وغيرها تطرح نفسها بإلحاح. أري أن حصيلة سياسة الحكومات المتعاقبة في الدول العربية من المحيط إلي الخليج منذ استقلالها هي حصيلة سلبية لم تنتج سوي الإحباط و الغليان الشعبي المتزايد. وأكيد أيضا أن بعض الدول المعادية للعرب والطامعة في ثرواتهم تتدخل بشكل سافر كما فعل الناتو في ليبيا أو بشكل مستتر من خلال قنواتها التجسسية لتغيير مجري الأحداث لصالحها. ما وقع في تونس و ما يقع الآن في مصر خير دليل علي ذلك. كانت هذه القوي المعادية و لا تزال تملي شروطها علي الشعوب العربية التواقة للحرية. هل ستكون الجماهير العربية في مستوي إحباط مخططاتها؟ هذا هو السؤال المطروح الآن؟ هل المثقف العربي قادر علي مواكبة الأحداث بإبداع يضع أصبعه علي هذه الأمراض التي تنخر الدول العربية؟ هذا سؤال آخر جدير بالاهتمام. هل تطمحين لتحقيق أسلوب جديد؟ - سؤال مؤرق: كيف أستطيع أن أكتب بشكل أفضل؟ مثل كل كاتب يحترم إبداعه و يحترم القارئ المحتمل لما يكتب لا بدّ أن أجيب بنعم علي هذا السؤال. ما بعد نجيب محفوظ ما رأيك بمستوي الرواية بعد نجيب محفوظ ؟ - نجيب محفوظ كاتب دخل التاريخ من بابه الواسع. أسّس أولي لبنات نص عربي بميزة عالمية. تندرج أعماله في الاتجاه الواقعي وقد نجح في ذلك إلي حدّ بعيد لكن هذا لا ينفي وجود روائيين كبار لم يأخذوا حقهم من الاهتمام والاعتراف أذكر علي سبيل المثال لا الحصر: جبرا إبراهيم جبرا، عبد الرحمان منيف، حنان الشيخ، حميدة نعناع، سحر خليفة، ليلي بعلبكي، حيدر حيدر، هذا بالنسبة للكتاب باللغة العربية و آخرين اختاروا أو فرضت عليهم لغة إبداع أجنبية مثل الخالد: كاتب ياسين، رشيد بوجدرة، محمد خير الدين، عبد اللطيف اللعبي الذي عرف كشاعر أكثر منه روائيا رغم أنه كتب روايات مهمة باللغة الفرنسية وآخرين كثيرين لا يسع المجال لذكرهم جميعا. كثير من هؤلاء الكتاب اختار الغوص في التجريبية و الخروج عن قيود الخطاب الروائي التقليدي بتحطيم السرد الرتيب المتكئ علي رتابة الأحداث والحبكة المصنوعة المعدة سلفا. كل يتلمس الحداثة في الرواية من زاويته من تكوينه ولكل كاتب مفهومه للحداثة فما رؤيتك للحداثة في الرواية ؟ الحداثة بالنسبة لي ليست موضة علي الكاتب استهلاكها في غير موضعها ولا شعارا فضفاضا بل هذه النقطة بالضبط التي تكلمت عنها آنفا: الخيال أكثر أهمية من المعرفة قال إينشتاين و الخيال الحداثي في نظري هو الذي يتحقق له استمرارية البحث عن أشكال عديدة ومختلفة للتعبير فيتخصّب النص لديه إلي كتابة تشابكية و تأملية. مساءلة الواقع المأزوم إلي أي حد تحضر الايديولوجيا في نصك وما رأيك بالايديولوجيا فنيا ؟ - أدرك أن لي هوية و شخصية خاصة بي و مختلفة عن الآخرين، و أري أن ذلك يعطيني بعض الحق في أن تكون لي آراء شخصية و أن أعبّر عنها بطريقتي من خلال مساءلة الواقع المأزوم و أومن أن مهمة الرواية هي بالذات طرح أسئلة و ليست محاكاة مرآوية للواقع الذي يتغيّر باستمرار و بوتيرة متسارعة لكنه في نفس الوقت واقف مكانه. من أين تخلق الشخصية الروائية عندك ؟ - من صراع الأنا و الآخر. ليس بالضرورة أن يكون الآخر هو الإنسان المختلف عني بل أيضا المحيط بكل مكوناته. أتوق إلي خلق شخصية ممزقة هاربة من كل تصنيف و ليس شخصية يتماهي معها القارئ ومن خلالها يحقق تخلّصه ولو لحين من مكبوتاته وأرقه أو ما كان اليونان يسمونه في المسرح كاترسيس. شخصية تكون متأرجحة بين البني الفوقية : العقلية الجامدة و أخري تحتية متغيّرة أو علي الأقل تمور تحتها حمم البراكين. أظن أن هذا الوعي بأبعاد السرد هو الذي يخلق الوحدة الوجودية للشخصية ككائن متشظ في عزلته الوجودية أمام جبروت المجتمع أو القبيلة. ما الذي يحقق الخلود للشخصية الروائية ؟ - أظن أنه هو هذا التمزق و في نفس الآن التحقق الوجودي، التموقع داخل وخارج العالم. شخصية دون كيخوت مثلا أو زوربا أو زرادشت هي شخصيات أصبحت خالدة لأنها حققت هذه المعادلة الصعبة. ما أهمية طرح شعرية السرد كلغة بديلة عن السرد العادي ؟ - بالنسبة للرواية كجنس أدبي، قال ساراماجو أنها تحتوي العالم. بمعني أنها تسع كل الأجناس الأدبية الأخري و تحتويها جمالية اللغة من حيث إنها عين ثالثة هو ما يتحقّق لها كونها في نفس الوقت تبليغا مباشرا وغير مباشر. ثنائية التعبير الشعري والنثري الذي يوازي انسجام ماهو ذاتي و بما هو موضوعي، الخاص بالعام هو ما يمنحها ما يسمي التعبير الفاعل. علي اللغة الحداثية أن تتنحي عن أحادية الدلالة فتتحقق لها الشعرية حين تتواتر دلالاتها المتعددة بتعدد مفاتيح النص التأويلية : مجاز، تكثيف، لغة واصفة، ألوان، بياض وفراغات.الشعرية في نظري هي تلك الوساطة بين الممكن والمستحيل بين السهل والممتنع. فن السيرة الذاتية إذا ما فكرت يوما في كتابة سيرتك الذاتية هل ستكتبين كل شئ عنك (المحرج والصعب والحساس و.. و.. الخ) أم انك ستقدمين شيئاً وتستثنين أشياء ..؟ - حاول كثير من الدارسين لفن السيرة الذاتية تأطيرها في قالب نظري يحتويها كجنس إبداعي ويمنع تشظيها و تداخلها مع أجناس أخري و علي رأسهم الكاتب الفرنسي جون جينيت لكن مع ذلك تلتبس الرؤية علي قراء هذا الجنس الأدبي لتأرجحه ما بين السيرة الذاتية و التخييل الذاتي. هل فعلا من يطمح لكتابة سيرته الذاتية ينجح في ذلك؟ بمعني هل يستطيع استرجاع كل أحداث حياته بأمانة كما وقعت بالفعل؟ الإنسان بطبعه كائن راوٍ إن صح هذا التعبير أي أننا طوال اليوم لا نفعل سوي سرد قصص وقعت لنا أو لغيرنا. وحين نحاول أن نسرد ما مضي ولو كان هذا الماضي قريبا جدا مناّ زمنيا ووجدانيا، فإننا حتما نضيف عليه من خيالنا أشياء. إلي أي حدّ إذن يمكن أن تكون السيرة الذاتية أمينة لماضينا حتي ولو افترضنا نيّة الأمانة الأدبية؟ أعتقد شخصيا أن كل ما كتب من سير ذاتية كان فيه شيء من التخييل ولهذا أعتقد أن مصطلح التخييل الذاتي يليق أكثر بهذا النوع من النصوص. من القارئ المفترض بالنسبة إليك ؟ إذا ما سلمنا بوجود قارئ مفترض لدي الكاتب ؟ - أعتقد أن عميلة الإبداع تمرّ بمرحلتين أساسيتين. يكتب المبدع أولا نصه كرسالة إلهية لا يأتيها الباطل من أمامها ولا من خلفها. كلما كانت نابعة من أعماقه ومن وعيه بوجوده ككائن يرتبط وجوده بوجود الآخرين - كان نصه أصدق. ثم المرحلة الثانية التي بالضرورة تستدعي وجود قارئ محتمل لأننا لا نكتب لأنفسنا ولو أن في هذه الفكرة شيئاً من الحقيقة. أنا شخصيا أستمتع جدا حين أكتب. بل لحظات الكتابة هي من أجمل اللحظات و ألذها، لكن ونحن نكتب يمكن أن أقول إننا نستشعر وجود الآخر جنبنا يسترق النظر إلي ما نكتب. قد يسميها البعض رقابة ذاتية وهي إلي حدّ ما كذلك. لكن استحضار هذا القارئ المسترق السمع لما نقول نابع من إحساس بالمسئولية تجاهه و تجاه عملية الكتابة في حدّ ذاتها. طريقة حضارية للتخاطب وإلي أي حد تفكرين بهذا القارئ عند شروعك بالكتابة ؟ - من هذا المنطلق أي الوعي بالكتابة كمسؤولية و كطريقة حضارية للتخاطب لا بدّ وأن تكون مرآة صادقة للشخص الكاتب أو المبدع. لذلك كثيرا ما يتبادر إلي ذهني هذا السؤال: هل نشبه كتاباتنا؟ أم عليّ أن أقول هل تشبهنا كتاباتنا؟ أنا شخصيا كبرت ونشأت في عالم الكتب. منذ سنّ العاشرة من عمري لم أتخلّ يوما عن الكتاب. أنا قارئة نهمة باللغة العربية والفرنسية. فالساعات الطويلة التي أقضيها بين الكتب أورثتني عادة لا أدري إن كانت سيئة أم حسنة ولا يهمني أن أعرف هو أن أثق بكل ما أقرأه. أدخل عالم الكاتب هذا العالم الافتراضي الذي يتجلّي لي عبر صفحات الكتاب فأحبه أو لا أحبّه و ترسّخت لي قناعة أن كل كاتب لا يكتب إلا ما يحتويه بين جوانحه. لكن حين كبرت و أصبحت ألتقي بكثير من الكتاب الذين قرأت رواياتهم، اتضح لي أني كنت قارئة ساذجة وأن كثيرا من هؤلاء الكتّاب لا يشبهون كتاباتهم. لذلك أصبح هذا السؤال يؤرقني. لا أضعه علي نفسي لأني مقتنعة بحكم سذاجتي أيضا أني أكتب كما أعيش وأعيش كما أكتب. ألا ترين أن الرواية تحولت إلي موضة فصار الكل يسعي لكتابة رواية ، الشاعر يكتب رواية والقاص يكتب رواية والناقد يكتب رواية والمفكر كذلك ؟ - لا أظن أنها مسألة موضة بل هي حاجة المبدع للكمال. المبدع إنسان غير عادي. هو عموما إنسان ربّي وعيا شقيا بمحيطه وحساسية مفرطة تجاه كل أنواع القبح كما أنه هش وقابل للانكسار بسرعة لذلك هو دائم البحث عن الوسيلة التي يظن و يتمني أن تنقذه من فراغ الهاوية تحت قدميه. قد يجد بعض السكينة في شكل من الأشكال الإبداعية فيتبناه لكن في كثير من الحالات هو ضائع بين أشكال تعبيرية مختلفة. هذه الأشكال هي الأجنحة التي يتمني لو كانت علي ظهره كي يري العالم من فوق.