«ماتت أمي من سنة ونصف، ماتت قهرًا من ظلم قانون الاسرة المعمول به الآن، تركتنى فجأة دون أن تودعنى» بهذه الكلمات الموجعة التى تدمى لها القلوب قبل العيون، بدأت «رنا طارق» طالبة الثانوية العامة كلامها، يصاحب صوتها هدوءًا غريبًا وتعلو فوق ملامحها الرقيقة ابتسامة باكية، وعيونها المنكسرة الحزينة يملؤها الدموع، لا يمكن لسامعها أن يملك نفسه من البكاء حزنًا وقهرًا على حالها. قصة رنا التي حكتها ل»أخبار الحوادث» تطوى داخلها مأساة حقيقية وكأنها تتحدث بلسان آلاف الامهات اللاتى يعبرن عن معاناتهن مع قانون الاحوال الشخصية الحالي تحديدًا فيما يخص النفقة، وقالت «رنا» ابنة ال16 سنة بهدوء ودموع بريئة: ماما الله يرحمها ماتت منذ عام ونصف، تركتنى اواجه الحياة بمفردى وأواجه ابى واجري فى المحاكم كي احصل على أبسط حقوقى، قصة أمى تتشابه مع آلاف قصص الأمهات اللاتى أجدهن داخل أروقة المحاكم يلهثن للحصول على الجنيهات القليلة لسد جوع ابنائهن الصغار وليتهن يحصلن عليها بمنتهى السهولة الحكم يصدر وبعدها تبدأ عمليات الكر والفر من الأب، لكن راحت امى فى غمضة عين من القهر والظلم الواقع عليها. بأسى تقول رنا: فقد طلق ابى أمي وعمرى لم يتعد العام والنصف، ولم اتمكن من الحصول على اي من حقوقي، وانتقلت للحياة مع جدتى، ربنا يمنحها الصحة والعافية، هى التى عاونت امى على تربيتى وساندتنا فى الطريق الصعب الذى سلكناه سويًا؛ فقد قررت امى أن تعكف على تربيتى وتمنحنى كل ما أوتيت من قوة لتعوضنى خسارة ان يكون لى أب سوي واشقاء وعائلة مثل باقى الفتيات في مثل سنى، رفضت أمي الست الصابرة كل من تقدم للزواج منها رغم انها كانت في عز شبابها وجميلة بل وألف من يتمناها كما يقولون خاصة أنه لم يكن لديها ابناء غيرى، وكانت جدتى بجانبها تمنحها القوة، لكنها قررت أن تقضى حياتها لرعايتى وحدى، كانت صديقتى وامى واختا كبرى لى، خرجت للعمل للإنفاق علي حتى لا احتاج لأى شيء، خاصة بعد ان رفض ابى أن يعطيها جنيها واحدا، تخيلوا اب يتخلى عن مسؤولياته بمنتهى البساطة في شرع مين ده، يتخلى عن الإنفاق على اسرته كيد في أم بنته فلذة كبده، هل سأل نفسه يومًا وهو يجلس على المائدة يأكل أشهى الأطعمة، ترى ماذا تأكل بنتي رنا وأمها الآن؟، هل لديهما طعام أم لا، من كلماتها الأخيرة اجهشت رنا في البكاء ثم عادت تقول بعد أن تمالكت نفسها مرة أخرى: عملت أمى فى مجال الخياطة تكسب قوت يومها وتنفقه كله على متطلباتى، لم تبخل على يومًا فى أى شيء، وكبرت يومًا وراء الآخر وبدأت افهم الحياة وادرك ما يفعله ابى، وطلبت منها ان تتقدم بدعوى للحصول على النفقة من ابى، لانه حقى، ورغم محاولاتها للرفض لكني شجعتها انا وجدتى، وبالفعل حصلت على حكم بالنفقة يقدر بمبلغ 550 جنيها. حكم نفقة بضحكة يملؤها الحزن والالم والدهشة اكملت «رنا» كلامها بتنهيدة ألم قائلة: وبسبب مراوغاته وادعائه الفقر وأنه لا يعمل قضت المحكمة لفتاة مثلي بمبلغ 550 جنيها، ملبس ومأكل ومصاريف كل شيء، ليس هذا وفقط، بل كان ابى يتركهم لى فى المحكمة، والغريب أن امى لم تسع يومًا الى الإساءة لسمعة ابى ولو للحظة، ولا اعرف حتى سبب انفصالهما لأنها لم ترض يومًا أن تحكى لي سبب الانفصال، كانت فقط تطلب منى أن أعامله جيدا لانه فى النهاية ابى رغم عدم اهتمامه بي، بل كانت تحاول ان تجد له المبررات وتقول بإنه يعمل «نجار» ويمكن أن يكون لا يمتلك المال للانفاق عليّ، خاصة أنه تزوج وانجب فتاة من زوجته الثانية. ومرت السنوات وتزداد علاقتى بأمى حبًا واحترامًا، ولا ادرك أن امى تحمل هموم الدنيا كلها داخل عقلها؛ فعندما اقترب عيد ميلادى ال15، شعرت بالخوف حتى لا يطلب ابى ضم حضانتى له واخذى منها، وايضا تشعر بالحزن لان المحكمة سوف توقف النفقة المقدرة لي ب(550 جنيها)، لانه رغم قلة المبلغ إلا أنه كان يعينها على أى يوم تتعب فيه أو لا تقدر على الخروج للعمل، تقدروا تقوله يسد متطلبات حتى ولو يوم واحد، خاصة انى كنت دخلت على المرحلة الثانوي وطموحي أن اصل للتعليم الجامعي، وهي ايضًا كان لديها نفس الحلم بأن ألتحق بكلية من كليات القمة حتى تُكمل كفاحها ويكلل تعبها بنجاحى ومستقبل مشرق. كانت أمي تفكر مرارًا وتكرارًا، حتى جاء يوم عيد ميلادى واحتفلنا فيه معًا كالعادة، لم يطلب ابى أن يضمني لحضانته، لكن كيف هذا وهو الذي لا يسعى إلى رؤيتي بل كان يرفض كل طلباتى حتى لا أذهب اليه ويتحجج بانشغاله، ورغم أن جدتى كانت تنصحها بجعلى طبقا للقانون اتقدم بنفسى بدعوى نفقة ضد ابى، كانت ترفض امى وتقول «لا علشان لما تكبر متقولش وقفتها فى المحكمة امام والدها». الوفاة وكأن الأحبال الصوتية أصابها الشلل فجعل الكلام يخرج من فمها متقطعًا، حين بكت رنا بكاءً مريرًا فلم أملك نفسي من دمعات تسللت من مقلتاي معها توقفنا نحن الاثنان عن الكلام قبل أن تعود قائلة: لم يمهلنى القدر البقاء مع امى فترة اطول من حياتى، ولم تعطنى الدنيا الوقت لتوديعها، بعد عيد ميلادى ال15 ب 37 يومًا بالتحديد، رحلت امى عن الدنيا فجأة، رغم اننا كنا نجلس سويًا نتحدث ونضحك، لكن فجأة سقطت امى الست المكافحة مغشيًا عليها، اسرعنا بها إلى المستشفى وهناك علمنا بأن لديها نزيف على المخ، وضغطها ارتفع ثم انخفض فجأة، وكل ذلك بسبب الضغوط النفسية الرهيبة الواقعة عليها، والقهر والظلم الذى عاشت فيه طوال سنوات حياتها، ماتت امى حبيبتى فى غمضة عين، وعمرها لا يتعدى 45 عامًا، ذهبت إلى مثواها الاخير ضحية الظروف والحاجة. بدموع مكتومة وألم على الفراق، أكملت «رنا» بقوة فى الحديث وكأنها تتحدى الحزن والقهر الواقع عليها، وقالت بعد أن استجمعت قواها: المثير فى الموضوع ان والدى يعيش فى الشارع المجاور لنا، لكنه كان يرفض رؤيتى وكلما اتصل به كان يقول لى بتهكم «انتى عايزة فلوس، أمك موجودة تصرف هى»!، والغريب أنه بعد وفاتها حضر لتعزيتى واحتضنى وهو يقول لى: «متقلقيش هكمل اللى ماما بدأته»، وكنت كل يوم اتصل به بعد وفاتها كأنى أحتمى به، لكن فوجئت به يتحدث عن أمى بسوء، ولا يقول سوى «امك اللى كانت عايزة تطلق ومش حابه العيشة، وكانت ممكن تتحمل»، كنت اكره الطريقة التى يتحدث بها عن امى. الهروب وبعد ايام بدأ يبتعد ويرفض الرد على مكالمتي ويخبرنى بعدها بأن هناك مشكلات بينه وزوجته وسوف يطلقها حتى اذهب للحياة معه، كرهت تصرفاته بشدة، وعندما اخبره بأنى اعيش مع جدتى، يقول لى بقسوة بالغة؛ «ايوه عندك حق عيشى معاها هى ست كبيرة وقربت تموت وخدى الشقة منها»!، شعرت بخوف شديد منه وبدأت انتبه لكلامه السيئ، خاصة أن جدتى الان اصبحت كل الحياة بالنسبة لى، فهى امرأة عجوز عمرها تعدى ال 76عامًا، لكنها تحاول ان تعوضنى عن غياب امى، وتنفق على كل ما يخص تعليمى، فأنا الآن فى ثانية ثانوي عام، تخيلوا نفقاتي، من دروس وكتب وخلافه، فقد كانت جدتي تمتلك بيتا قديمًا باعته ووضعت عائده فى البنك تنفق منه على تعليمى، بينما تنفق على طلبات البيت من اى اموال يرسلها اشقاء امى لنا، وبدلا من أن يقدر ابى كل ما تفعله جدتى معى لمواصلة تعليمي كان يتحدث عنها بالسوء؛ إلى أن قرر أبى ان ينهى علاقته بي وكأنني لست ابنته، عندما اتصلت به اخبره بأنى الآن في الصف الثانى الثانوى واريد منه مالا ويتحمل نفقات تعليمي، صرخ فى وجهى رافضا، وقال لي «محدش قال لك تدخلى ثانوى عام، كنتى اقعدى فى البيت زى ما ناس تانيه عملت تستني عدلك»! مراوغات صمتت رنا وعادت تقول: كنت اعلم أن المستشارة القانونية فيروز الصافى دائما تقف بجوار المرأة التي يظلمها الأب والزوج؛ لذا لم أتردد في الاتصال بها وطلبت منها مساعدتى، التى لم تتأخر عنى؛ وفورًا اسرعت بالتقدم بدعوى ضم حضانة أمام محكمة اسرة الجيزة لضم حضانتى الى جدتى، وذلك من أحل التعليم حتى لا يتمكن من سحب ملفى من المدرسة بعدما أحسست أنه سيفعل هذا، بعدما تحدث إليّ هاتفيا فى مكالمة أثارت حفيظتى وغضبى كلما اتذكر تلك المكالمة، حيث راح يهددنى؛ «هروح المحكمة واقول تيجي تعيشي معايا لان جدتك مسنة ولا تقدر على رعايتك»، لكنى لم أخف من تهديداته وقلت له سوف ارفض وأخبر المحكمة رغبتي في العيش مع جدتى وانها ترعانى جيدًا وتنفق عليا، والكارثة انه قال لى بقسوة ادمت قلبى كلما اتذكر صوته؛ «خلاص خليكى معاها علشان حتى لما تموت تورثيها». وبعد عنده واصراره على عدم الانفاق على تعليمى، اسرعت إلى محكمة اسرة الجيزة وتقدمت بدعوى نفقة ومصاريف دراسية، وحصلت على حكم مبلغ 1000 جنيه مصاريف ومسكن ونفقات دراسية، والآن اتقدم بطلب زيادة المبلغ لكن جدتى تخشى أن تخسرني ودائما تقول لى، أنا خايفه تروحي مني». أنهت «رنا» ابنة السادسة عشر عاما حديثها لأخبار الحوادث، بهدوء كأنها امرأة ناضجة، وبراءة بالغة مثل الاطفال، قائلة: «شتان الفارق بين تصرفات امى وتصرفات ابى، وبين كلام ابى وحديث جدتى عنه، أنا لا أفهم كيف يمكن لقانون أن يقضى على أحلام أطفال وشباب الغد بأن يحكم للأم هذا المبلغ الصغير فى ظل الظروف الاقتصادية الحالية، وقد أدركت رغم سنى الصغيرة ان الزواج وبناء أسرة مسئولية كبيرة لا يمكن لأى أحد تحملها، ويجب ان يتغير القانون للوقوف بجانب المرأة المعيلة حتى تتمكن من استكمال طريقها بأبنائها بدلا من أن تسقط ميته نتيجة الضغوط التى يلقيها علي عاتقها المجتمع كله مثلما ماتت أمي كمدًا وحزنًا بنزيف في المخ نتيجة ارتفاع ضغطها». صعوبات وبسؤال فيروز الصافى المستشارة القانونية المتخصصة فى قضايا الأحوال الشخصية، قالت ل»أخبار الحوادث»: في ظل الظروف الاقتصادية الحالية، تعاني الكثير من السيدات من ضغوط مالية متزايدة بسبب الغلاء وارتفاع تكاليف المعيشة، هذه التحديات بلا شك تؤثر بشكل مباشر على أحكام النفقة للصغار؛ حيث أن المعايير التقليدية التي تعتمد على تحديد دخل الزوج الثابته فقط لم تعد كافية لتعكس الواقع الاقتصادي المعاصر، لذلك تتطلب هذه الظروف إعادة النظر في كيفية تحديد مبلغ النفقات، بحيث تأخذ بعين الاعتبار الغلاء وتأثير الظروف الاقتصادية العامة، وليس فقط دخل الزوج. من المهم أن يكون هناك توازن يضمن حقوق الأطفال في الحصول على مستوى معيشي كريم يلبي احتياجاتهم الأساسية، التكيف مع هذه التغييرات الاقتصادية يمكن أن يسهم في تحقيق عدالة أكبر في توزيع النفقات، وضمان أن تكون القرارات القضائية أكثر انسجامًا مع الواقع المعيشي للأسر. وهناك نقطة أود أن أوضحها وهى؛ أن هناك أزواجا وآباءً يصعب تحديد دخلهم بطريقه رسمية مثل حالة «رنا»؛ فوالدها يعمل عملا حرا ولا يمكن تقديم ما يثبت دخله أو تحديده، ومثال آخر أن يكون الأب موظف ولديه نشاط عمل آخر وسجله باسم والدته أو شخص آخر، للاسف لا يمكننى تقديم مستندات ملكية لممتلكات وأرصدة الأب في البنوك لكي أتمكن أنا وغيري من المحامين إثباتها أمام المحكمة. لابد أن نسلم ونعترف بوجود بعض المشكلات والصعوبات التي تواجه السيدات المعيلات لإثبات الدخل الحقيقي للزوج، وأما عن التنفيذ فهو معاناة حقيقية أخرى تحتاج إلى وضع حلول جذرية، فيجب على سبيل المثال أن يكون هناك تعديل تشريعي يقر عقوبات جديدة للممتنعين عن سداد النفقة. *** وقبل أن تغادرني الفتاة الجميلة صاحبة المأساة رنا سألتها عايزه تقولي حاجة أخيرة: «ضحكت الفتاة فأشرقت ابتسامتها وجهها، وقالت: «الماضي بكل مآسيه صار توأم الواقع الذي أعيش فيه الآن، لكن ما يهون عليّ الأمر وجود جدتي ربنا يبارك في عمرها وصحتها، هي دلوقت عيلتي كلها بعد ما صرت يتمية وأبي على قيد الحياة». رحلت رنا وبقيت دموعي.