رشيد غمرى ∀المجد للشيطان معبود الرياح، من قال لا فى وجه من قالوا نعم.∀ هكذا أعلنها أمل دنقل، مفتتحا قصيدته الشهيرة ∀كلمات سبارتاكوس الأخيرة∀، ممجدا الرفض، والتمرد ضد الظلم كفضائل، وغاضا الطرف عن باقى خصال الشرير. الثقافة العربية منذ فجرها، ربطت الشعر الجيد، بشياطين وادى عبقر، والذين حلوا بأنفسهم فى آداب العصور الإسلامية، كموضوع مفضل لدى بعض الشعراء، غير مكتفين بدورهم القديم فى وسوسة الشعر. كما امتلأت حكايات ألف ليلة وليلة بصنوف الجن والمردة والأبالسة، وأكثر من هذا وجد الشيطان لنفسه متسعا فى آداب وفنون العالم المختلفة، ما بين استحضار بشاعته، والتحذير من غوايته، أو اعتباره رمزا لبعض الخصال كالتمرد، والبراعة، والدهاء. وحتى ظهرت ألوان من الإبداع، يطلق عليها فنون شيطانية. تعتبر مسرحية ∩فاوست∪ للكاتب الألمانى ∩جوته∪ أشهر عمل تناول موضوع الشيطان. القصة التى ترجع جذورها للفلكلور الألماني، تدور حول تعهد الشيطان ∩مفيستو فيليس∪ بأن يغوى الرجل الصالح ∩فاوست∪ الذى كان متعطشا للمعرفة، ولكنه لم يجد فى العلم ولا الدين، ما يشبع ظمأه، فلجأ إلى السحر، بغرض الوصول إلى المعرفة المطلقة. وهنا يظهر له الشيطان، ويعقد معه صفقة، يعده خلالها بالسعادة الدنيوية، مقابل أن يبيعه روحه. قدم ∩فاوست∪ فى العديد من الأعمال الأدبية، والمسرحية، والسينمائية، وحظى بالعديد من المعالجات الموسيقية، ومنها ما قدمه الفرنسى ∩هكتور بريليوز∪ فى عمل أوبرالى بعنوان ∩لعنة فاوست∪، بذل فيه جهدا خارقا، حتى تمكن من عرضه على مسارح باريس، لكن الجمهور الفرنسى رفضه مرتين، ما دفعه إلى التوقف عن المحاولة فى فرنسا، وأصيب الرجل بالاكتئاب، واعتقد أن لعنة فاوست قد حلت على رأسه، لكن تغيرت الأمور عندما وجد عمله القبول لدى الجمهور الألماني، ومن بعده الروسي. ومن الغريب أنه، وبعد عشرات السنوات، ما زال الفرنسيون على موقفهم من العمل، حيث قام الجمهور بالصراخ والاستنكار، عند إعادة تقديمه على مسرح الباستيل الفرنسى عام 2015. الفرنسى ∩كونو∪ أيضا قام بتلحين عدد من مقاطع ∩فاوست∪، ولكن تقبله الجمهور بسبب نزعته الرومانسية، على عكس ما وصف بالعقلانية المفرطة لعمل ∩بريليوز∪، التى هى أقرب لروح ∩فاوست∪ جوته. ومن الأعمال المستوحاة من ∩فاوست∪ أيضا فالسات ∩مفيستو فيليس∪ الأربعة ل∩فرانز ليست∪، والفالس الأول هو معزوفة، يؤديها الشيطان بنفسه، عندما يدخل إلى إحدى الحانات بصحبة فاوست، ليقوم الأخير بمراقصة فتاة جميلة من القرية، وقد حاول ∩ليست∪ أن يقدم لنا تصوره عن نوعية الموسيقى التى يمكن للشيطان أن يعزفها، وأظهر فيها الغرابة، والبراعة، والتمرد، والإغواء. وبخلاف ∩فاوست∪ فإن موضوع الشيطان، يجد أهميته من الكتاب المقدس، وحيث ظهر فى العديد من الأعمال على مدى قرون، لكن تعتبر أوبرا ∩سبت النور∪ ل∩شتوكهاوزن∪ أحد أبرع الأعمال الموسيقية التى تناولت ∩لوسيفر∪، وهو اسم الشيطان قبل المعصية، والانشقاق مع الآلاف من مؤيديه، والطرد من الجنة، وفق الموروث اليهودى المسيحي، وتضم الأوبرا عدة فصول منها ∩حلم لوسيفر∪ ولوسيفر هو الشيطان فى المسيحية و∩مرثية لوسيفر∪ ورقصة لوسيفر∪ لكن أهمها هو ∩وداع لوسيفر∪، حيث أبدع ∩شتوكهاوزن∪ عملا ينحو للتجريبية، ويقدم استخداما غير تقليدى للآلات الموسيقية، والأصوات البشرية، ليمنحنا الشعور بأجواء الخزى والخسران المصاحبة لخروج لوسيفر. وبما أننا نتحدث عن الموسيقى، وعلاقتها بالشيطان، فلابد أن نذكر ∩كارمينا بورانا∪، وهى أحد أشهر أعمال الموسيقار ∩كارل أورف∪، ومن المقطوعات التى تألفها الأذن العربية، والمصرية. وقد لا يعرف البعض أنها عزفت فى دار الأوبرا المصرية، بقيادة ∩كارل أورف∪ نفسه، عندما قاد أوركسترا القاهرة السيمفوني، عام 1966 خلال زيارة لمصر. العمل الشهير مأخوذ عن نصوص، وصمت خلال العصور الوسطى بالشيطانية، نظرا لكونها تقدم تأملات جريئة حول فكرة الحياة والموت والقدر، والمصير الإنساني، كما تحبذ حياة اللهو، وقد شاع وقتها أن مؤلفها هو الشيطان، ولكنها فى الحقيقة كانت ضمن نصوص عثر عليها فى دير ∩بورن البنيديكتي∪ مكتوبة باللاتينية والفرنسية والألمانية، كتبها جماعة ∩الجوليارد∪ فى العصور الوسطى، وكانوا من الجماعات التى لاحقتها الكنيسة بتهم المجون، وعبادة الشيطان، ومن الطريف أنها أيضا إلى جانب أعمال ∩ريتشارد فاجنر∪، كانت من الأعمال المفضلة لهتلر. لكن السبق فى إبداع هذا النوع من النصوص، يرجع فى الحقيقة إلى واحد من أشهر شعرائنا، وهو أبو الحسن ابن هانئ، المعروف ب∩أبى نواس∪، وقد سبقهم بأكثر من أربعمائة عام. واشتهر بكتابته عن الخمر والملذات، واحتل إبليس مكانا مميزا فى أشعاره، وكثيرا ما كان يستفتيه، ليحلل له المتع، ثم يعود، وينقلب عليه، ثم يقايضه، ويتلاعب به، حتى يصاب المرء بالحيرة، حول أيهما الشيطان فى الحقيقة. ومن أشعاره: لم يرض إبليس الظريف فعالنا/ حتى أعان فسادنا بفساد. وهو القائل: عجبت من إبليس فى تيهه/ وخبث ما أظهر من نيته/ تاه على آدم فى سجدة/ وصار قوادا لذريته. وكان أغرب ما كتبه هو تهديده بالتوبة عن المعاصي، والعودة للرشد والصلاح، إذا هو لم يساعده لاستمالة قلب حبيبته. وهو لم يكن بدعا من الشعراء العرب فى الكلام عن الشيطان، ففى إحدى قصائده يقول امرؤ القيس: أنا الشاعر الموهوب حولى توابعي/ من الجن تروى ما أقول وتعزف. وقال جرير: وإنى ليلقى علىّ الشعر مكتهل/ من الشياطين إبليس الأبالس. وقد زعم جرير والفرزدق أن شيطانهما واحد، نظرا لتشابه عجيب ظهر فى بعض أبياتهما، ودون أن يعلم أحدهما بما كتب الآخر. وهو ما علله الدكتور عبد الرازق حميدة فى كتابه ∩شياطين الشعر∪ بأنه يرجع إلى انتمائهما للقبيلة نفسها، وحفظهما لشعر بعضهما، وتماثل معارفهما. وعلى صعيد الأدب العالمي، نجد الشيطان حاضرا فى العديد من الأعمال، منها ما قدمه الشاعر الإنجليزى ∩ملتون∪ من صورة للشيطان، ترمز للكبرياء والتمرد فى قصيدته المعروفة ∩الفردوس المفقود∪، وهى صورة ليست بعيدة عما رمز له أمل دنقل، وهى الصورة نفسها أيضا لدى الشاعر الإيطالى ∩كاردوتشي∪، ويرجح أنها مأخوذة من وحى الإله اليونانى ∩بروميثيوس∪ الذى تمرد على الآلهة، وقرر تعليم البشر ما أخفى عنهم، ما يجعله تناولا ∩إنسانويا∪ لفكرة الشيطان. الممارسات التى وصفت بالشيطانية خلال العصور الوسطى، كانت موضع إلهام أيضا لأعمال تشكيلية، ومنها لوحة ∩سبت الساحرات∪ للأسبانى ∩جويا∪، التى رسمها فى أوج الصراع بين الليبراليين، ورجال الدين، وصور فيها الشيطان على هيئة تيس عظيم، يقدم التعاليم، وربما يقوم بتعميد الأطفال، وقد اتخذ شيطانه مظهرا أقرب ∩للساتير∪، والذى يظهر أيضا على الورقة الخامسة عشرة من أوراق التاروت، وهوكائن أسطوري، هجين بين الإنسان والتيس، وله أجنحة خفاش، وترجع جذوره إلى أزمنة بعيدة، حيث كان شريكا أساسيا فى حفلات المجون لديونيسيوس فى الأساطير اليونانية والرومانية، وقد شاع تصوير الشيطان بصور مرعبة خلال العصور الوسطى، رغبة من الكنيسة فى تخويف المؤمنين، وتنبيههم إلى خطورته، وهو التقليد الذى ظل معمولا به فيما بعد. وهذا ما يفسر التماثيل المخيفة فى واجهة بعض الكنائس الأوروبية، وخصوصا التى تنتمى إلى الطراز القوطي، وأشهرها كاتدرائية ∩نوتردام∪ بباريس، حيث يظهر الشيطان خلف المسيح، وتلاميذه، وهو ما ساعد على رواج أسطورة شعبية تقول إن الشيطان شارك فى بنائها، كما تم إضافة عدد من التماثيل المخيفة للشيطان فى عصور لاحقة للكنيسة نفسها.، ومن المعروف أن الطراز القوطى فى العمارة، يبعث على الرهبة، ويتسم بالحدة، ويتضمن أعمالا نحتية مخيفة، لكائنات غرائبية وأسطورية، ومنها صور عديدة للشيطان. وقد شاع إبليس فى الرسوم المسيحية مبكرا، وعلى اختلاف الكنائس، من خلال صور القديسين، وهم يحاربون الشيطان، وينتصرون عليه، كتجسيد لآيات من الإنجيل، وهو ما قدمه أيضا عدد من أكبر الفنانين، فى عصر النهضة، ومنها لوحات ∩رافائيل سانتي∪، التى قدمت القديس جورج والقديس ميخائيل، وغيرهم يحاربون الشيطان بصوره المختلفة. كما ظهر الشيطان فى الكوميديا الإلهية ل∩دانتي∪، والمئات من الأعمال التى عالجتها، وغزلت على منوالها.. لكن الصورة السلبية للشيطان تبدلت فى أعمال العديد من المبدعين، فعلى سبيل المثال ظهر الشيطان كبطل فى بعض أعمال ∩مارك توين∪ و∩برنارد شو∪، كما يربط البعض بين بعض الألوان الموسيقية المعاصرة، وبين الشيطانية، كمذهب، ولعل أشهرها ما ينسب لموسيقى الروك أند رول وما تفرع منها من الميتال، والهيفى ميتال، والميتال الأسود، وهى موسيقى صاخبة، متشائمة فى كثير من الأحيان، وساخطة بشكل عام، لكن هذا الاتهام ليس جديدا، إذ تعرض بعض أشهر الموسيقيين الكلاسيكيين للاتهام نفسه، مثل بيتهوفن فى سيمفونيته الخامسة، وتشايكوفسكى فى سيمفونيته الثالثة، ورحمانينوف فى بعض أعماله، لكن يظل الإبداع ساحة مفتوحة لكافة التجارب، وحيث لا يبقى إلا ما كان معبرا عن قيم الحق والخير والجمال، حتى ولو استخدم الشيطان، ليؤكد تلك المعانى.