سعر الذهب اليوم الأربعاء 15 اكتوبر 2025 فى محافظة المنيا    أسعار الخضار في أسوان اليوم الأربعاء    أسعار الفراخ البلدي والبيضاء وكرتونة البيض الأبيض والأحمر الأربعاء 15 أكتوبر 2025    سعر طن الحديد والأسمنت اليوم الأربعاء 15-10-2025 بعد الانخفاض الأخير.. كم سجل عز الآن؟    عاجل- إسرائيل تقرر فتح معبر رفح لنقل المساعدات إلى غزة بعد إعادة رفات 4 محتجزين    ميسي يتألق فى فوز الأرجنتين على بورتو ريكو بسداسية وديا (فيديو)    مواعيد مباريات اليوم الأربعاء 15-10-2025 والقنوات الناقلة    الطقس اليوم.. خريفي مائل للبرودة ليلًا ونشاط للرياح والعظمى في القاهرة 28 درجة    بسبب خلافات.. فكهاني يقتل شاب بطلق ناري في قليوب    حادث تصادم لسيارة الفنانة هالة صدقى بالشيخ زايد    مسلسل ولي العهد الحلقة 1 تتصدر الترند.. ما السبب؟    مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 15 أكتوبر 2025.. تعرف على موعد الأذان في محافظة المنيا    نتنياهو: إذا لم تلتزم حماس بالاتفاق ستفتح أبواب الجحيم    تجمع القبائل والعشائر الفلسطينية في غزة يدعم الجهود الأمنية ويرفع الغطاء عن المخالفين    ثمن سيارة فارهة، حقيبة زوجة محمد صلاح تثير الجدل في مصر (صور)    المطربة ياسمين علي تتصدر تريند مواقع التواصل الاجتماعي.. لهذا السبب    بعد تحليل المخدرات، قرار عاجل من النيابة ضد سائق التروسيكل المتسبب في وفاة 5 تلاميذ بأسيوط    قمة «شرم الشيخ للسلام»    الفيلم السعودي «تشويش» يواصل حصد الجوائز عالميًّا    كل ما تريد معرفته عن سكر الدم وطرق تشخيص مرض السكري    طرق متنوعة لتحضير البيض المقلي بوصفات شهية للإفطار والعشاء    قرار عاجل في الأهلي بشأن تجديد عقد حسين الشحات    الكنيسة الكلدانية تحتفل بختام ظهورات العذراء سيدة فاتيما في مصر    في شهر الانتصارات.. رئيس جامعة الأزهر يفتتح أعمال تطوير مستشفى سيد جلال    اتحاد الصناعات: الدولة تقدم دعمًا حقيقيًا لإنقاذ المصانع المتعثرة وجذب الاستثمارات الصناعية    ارتفاع أرباح جولدمان ساكس خلال الربع الثالث    العكلوك: تكلفة إعادة إعمار غزة تبلغ 70 مليار دولار.. ومؤتمر دولي مرتقب في القاهرة خلال نوفمبر    ترامب يلغي تأشيرات أجانب سخروا من اغتيال تشارلي كيرك    مميزات وعيوب برج السرطان: بين العاطفة والخيال والحنان    داليا عبد الرحيم تهنئ القارئ أحمد نعينع لتعيينه شيخًا لعموم المقارئ المصرية    وزير العمل: لا تفتيش دون علم الوزارة.. ومحاضر السلامة المهنية تصل إلى 100 ألف جنيه    اليوم، غلق لجان تلقي طلبات الترشح لانتخابات مجلس النواب    الزمالك يجهز محمد السيد ومحمود جهاد للسوبر المصري    هيئة الدواء: تصنيع المستحضرات المشعة محليًا خطوة متقدمة لعلاج الأورام بدقة وأمان    ترامب يهدد بفرض عقوبات على إسبانيا بسبب رفضها زيادة الإنفاق في «الناتو»    نجم الزمالك السابق يكشف عن «أزمة الرشاوي» في قطاع ناشئين الأبيض    باسم يوسف: مراتي فلسطينية.. اتعذبت معايا وشهرتي كانت عبء عليها    هتكلفك غالي.. أخطاء شائعة تؤدي إلى تلف غسالة الأطباق    بالصور.. محافظ الغربية في جولة بمولد السيد البدوي بمدينة طنطا    تعرف على المنتخبات المتأهلة لكأس العالم بعد صعود إنجلترا والسعودية    رمضان السيد: ظهور أسامة نبيه في هذا التوقيت كان غير موفقًا    اليوم، إغلاق الزيارة بالمتحف المصري الكبير استعدادًا للافتتاح الرسمي    عمقها 30 مترًا.. وفاة 3 شباب انهارت عليهم حفرة خلال التنقيب عن الآثار بالفيوم    السجن المؤبد وغرامة 100 ألف جنيه لتاجر مخدرات في قنا    تأجيل محاكمة المتهمين بقتل طالبة بولاق الدكرور هنا فرج    رونالدو يحقق رقما قياسيا جديدا في تصفيات كأس العالم    صندوق النقد الدولي يرفع توقعاته لنمو اقتصاد الإمارات إلى 4.8% في العام الحالي    معرض حى القاهرة الدولى للفنون فى نسخته الخامسة لمنطقة وسط البلد لعرض أعمال ل16 فنانا    رسميًا.. موعد امتحانات الترم الأول 2025-2026 في المدارس والجامعات وإجازة نصف العام تبدأ هذا اليوم    «توت عنخ آمون يناديني».. الكلمات الأخيرة ل «كارنافون» ممول اكتشاف المقبرة الملكية (فيديو)    في 3 أيام .. وصفة بسيطة لتطويل الأظافر وتقويتها    متى يكون سجود السهو قبل السلام؟.. أمين الفتوى يوضح حكم من نسي التشهد الأوسط    هل شراء شقة عبر البنك يُعد ربا؟.. أمين الفتوى يوضح    الجامعة الأمريكية تنظم المؤتمر ال 19 للرابطة الأكاديمية الدولية للإعلام    ورشة عمل لاتحاد مجالس الدولة والمحاكم العليا الإدارية الإفريقية    مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 14-10-2025 في الشرقية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 14-10-2025 في محافظة الأقصر    إثيوبيا ترد على تصريحات الرئيس السيسي: مستعدون للانخراط في مفاوضات مسئولة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحيق الحياة ورائحة الزمن (6)
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 02 - 09 - 2014

طلبت وكالة الأنباء التراضي خارج المحكمة حيث دفعت تعويضًا قيمته خمسين ألف جنيه إسترليني لزوجة السفير المصري في »لندن»‬ الذي قام بتحويلها كاملة لصندوق دعم الطلاب العرب الدارسين في العاصمة البريطانية!
أحسب أن فترة عملي في »‬لندن» كانت من أكثر فترات حياتي خصوبة لأنها أسهمت في تكويني الفكري والشخصي أكثر من غيرها بما في ذلك فترة عملي بمؤسسة الرئاسة ذاتها، فلقد اتصفت إقامتي في »‬لندن» بالشعور بالحرية والإحساس بالأمان الذي يدركه كل مغترب في تلك العاصمة البريطانية الرائعة فاشتريت شقتي عام 1973 بسعر زهيد ولكن قيمتها الحقيقية الآن تجاوزت ذلك بكثير بعد عمليات إبدال وانتقال من شقة إلي أخري، وفي »‬لندن» تشعر أنك صاحب مكان، كلنا شركاء في نفس القدر من الحرية ونفس المساحة من الحركة وحسن النية متوافر دائمًا إلا من يخطئ، ومازلت أتذكر من عملي في القنصلية المصرية كيف تورطت سيدات مصريات من مستويات راقية في الاتهام بسرقات من المحلات التجارية وكان معظمها بسبب جهلهن بنظام الدفع وعدم معرفتهن بنظام »‬كاميرات» المراقبة الذي كان يبدو حديثًا وغير مألوف في بلادنا مع مطلع سبعينيات القرن الماضي، ولقد شهدت في »‬لندن» أحداثًا كبيرة فاستدعيت ذات صباح من صيف 1973 لاستلام جثمان الفريق »‬الليثي ناصف» الذي سقط من الدور الحادي عشر من برج »‬ستيوارت» تلك البناية الشاهقة التي سكنها عديد من الأسر المصرية ومازالت علامات الاستفهام تحيط بذلك الحادث الغامض حتي اليوم، وفي »‬لندن» أيضًا تابعت مصرع العقيد »‬علي شفيق» المدير الأسبق لمكتب المشير »‬عامر» في حادث مأسوي غامض لم تتحدد دوافعه وملابساته حتي الآن، كذلك ساقتني الظروف للقاء السيد »‬شمس بدران» وزير الحربية قبل »‬نكسة يونيو 67» الذي اختار »‬لندن» مستقرًّا له بعد أن غادر »‬مصر» في بداية حكم الرئيس »‬السادات» وكان الرجل يبدو لي في لقاءاتنا المختلفة قلقًا وحذرًا وتبدو علي ملامحه ظلال سلطة غائبة وبقايا نفوذ ضائع، وكان يحكي لنا أن الموسيقار الكبير »‬محمد عبد الوهاب» كان يزوره في منزله و»يدندن» له علي العود في لقاءات شخصية محدودة! كما حضرت في العاصمة البريطانية زيارة الرئيس »‬السادات»، وأتذكر أنني ذهبت برفقة المستشار »‬رفيق صلاح الدين» لمقابلة المسئول عن قسم »‬مصر» في الخارجية البريطانية لإعداد ترتيبات الزيارة وأثناء الاجتماع طرح الجانب البريطاني درجات الزيارة المختلفة من »‬زيارة دولة» إلي »‬زيارة رسمية» إلي »‬زيارة عمل»، وقالوا إن زيارة الرئيس »‬السادات» هي زيارة عمل فلن تقابله الملكة إلا علي مدخل جناحها في قصر »‬باكينجهام»، عندئذ طوي المستشار »‬صلاح الدين» أوراقه وطلب مني أن أتبعه في الخروج من المقابلة، وكان الرجل خبيراً بالعقلية البريطانية فقال لهم إن »‬السادات» رئيس »‬مصر» ولو أن »‬ناصر» كان هو الزائر لاستقبلته المقاتلات البريطانية عند المجال الجوي البريطاني تحية وتشريفًا، فأنتم تعرفون هيبة الحكام وتحترمون فقط من تخافون لا من تصادقون! عندئذ لحق بنا السيد »‬ديفيد جوربوث» عند الدرج معتذرًا وجري ترتيب الزيارة بمراسم لائقة لمكانة رئيس »‬مصر» »‬أنور السادات» مع اعتذار كامل عن مشروع الترتيبات الذي كان معدًّا من الجانب البريطاني، ولقد أدركت يومها أن العقلية الغربية تحترم من يعرف حقه كما أنها مستعدة لتجاهل من لا يدرك ما هو له، ولقد عملت في »‬لندن» في ظل سفراء ثلاثة كان أولهم هو السيد »‬كمال رفعت» وهو نائب أسبق لرئيس الوزراء ومناضل قاد الفدائيين في منطقة »‬القنال» وتلاه الفريق »‬سعد الشاذلي» بمجده العسكري ومكانته الرفيعة، ولقد كنت قريبًا منه واحتفظت بحبي واحترامي له دائمًا، وجاهرت بالحديث عن دوره الدبلوماسي الرفيع وكتبت ذلك وهو في محبسه، وأتذكر هنا واقعة لا أنساها حيث استدعاني إلي مكتبه بالسفارة صباح يوم »‬سبت» علي غير العادة وقال لي يا »‬أبو سارة» (بالإشارة إلي ابنتي الصغري التي ولدت أثناء خدمتي معه): »‬إن زوجة السفير »‬زينات هانم متولي» قد أهينت وهي أشرف النساء فقد أذاعت إحدي وكالات الأنباء أن زوجة السفير المصري قد ضبطت تخرج من أحد المحلات ومعها مشتريات غير مدفوعة، ولم يكن ذلك معقولًا ولا مقبولًا، فقد أخطأت وكالة الأنباء وبدلًا من أن تقول زوجة سفير مصري ذكرت حرف التعريف وكأنما الإشارة هنا إلي زوجة السفير المعتمد في »‬لندن» وهو الفريق »‬سعد الشاذلي» رئيس أركان حرب القوات المسلحة في »‬معركة العبور». وقد طلب مني السفير»الشاذلي» أن أقوم بإبلاغ الخارجية المصرية برقيًّا بالواقعة وأنه سوف يقاضي وكالة الأنباء التي نشرت الخبر مغلوطًا، وبالفعل مضي الرجل في الإجراءات القانونية فطلبت وكالة الأنباء التراضي خارج المحكمة حيث دفعت تعويضًا قيمته خمسين ألف جنيه إسترليني لزوجة السفير المصري في »‬لندن» الذي قام بتحويلها كاملة لصندوق دعم الطلاب العرب الدارسين في العاصمة البريطانية! ثم عملت بعد ذلك مع السفير »‬سميح أنور» وهو واحد من ألمع سفرائنا وأكثرهم توازنًا، وأتذكر أنه حضر مهمومًا إلي أحد اجتماعاته الصباحية مع أعضاء السفارة وقال: »‬إن »‬مجلس السفراء المسلمين» قد عقد اجتماعًا في اليوم السابق لجمع التبرعات لإنشاء »‬المركز الإسلامي الجديد» علي أرض حدائق »‬الريجنت» في قلب »‬لندن» وأن سفير »‬المملكة العربية السعودية» »‬عبد الرحمن الحليسي» عرض مساهمة حكومة بلاده بالنصيب الأكبر من البناء كذلك جاءت تبرعات من دول إسلامية أخري، أما نحن في »‬مصر» فظروفنا الاقتصادية تحول دون الإسهام الفعال في بنائه». فقلت له: »‬إن »‬مصر» تساهم بثمانية ملايين جنيه إسترليني هي قيمة الأرض إذ إنه في حدود علمي أنها مقايضة ملكية بين الملك »‬جورج الخامس» والملك »‬فؤاد الأول» في مقابل أرض »‬كنيسة جميع القديسين» علي ضفاف نيل »‬القاهرة» منذ منتصف ثلاثينيات القرن العشرين»، فنظر إليّ السفير »‬أنور» متسائلًا إذا كان لدينا دليل يثبت ذلك؟ وقد انصرفت من الاجتماع متجهًا إلي »‬مركز الوثائق البريطانية» وبتوفيق من الله حصلت علي المكاتبة الرسمية في أوراق الخارجية البريطانية وتدور حول استقبال ملك »‬بريطانيا» للسفير »‬حسن نشأت باشا» سفير »‬المملكة المصرية» ومعه الشيخ »‬حافظ وهبه» الوزير المفوض لملك الحجاز العاهل السعودي »‬عبد العزيز الكبير»، وأنه قد جرت في ذلك اللقاء مراسم تبادل الوثائق بخصوص تبادل الأراضي بين »‬لندن» و»القاهرة» بما يؤكد أن الأرض التي يقام عليها »‬المركز الإسلامي» هي أرض مصرية تاريخية، ولقد استقر ذلك المفهوم، وكان أول مدير للمركز الجديد بعد إنشائه عالما أزهريا مصريا هو الراحل الشيخ »‬محمود حب الله»، إنني أريد أن أؤكد أن العمل في »‬لندن» مَدرَسة فهي مدينة التعليم والعلاج والتسوق والتسلية أيضًا، فلكل ما يريد، ولذلك فإنني أستأذن »‬القدس» »‬أم المدائن» لأصحاب الديانات السماوية لكي أقول إن »‬لندن» هي »‬أم المدائن» لأبناء الحضارات المعاصرة! وفي العاصمة البريطانية حصلت علي الدكتوراه من كلية »‬الدراسات الشرقية والإفريقية» التي أنشأتها جامعة »‬لندن» بدعم من »‬وزارة المستعمرات البريطانية» في مطلع القرن العشرين، ورغم أن أستاذي اليوناني الأصل الأمريكي الجنسية كان يتحدث العربية بطلاقة إلا أنه لم يتحدث معي بها إلا عندما قال في نهاية مناقشة الرسالة (مبروك تستطيع الآن إبلاغ زوجتك بحصولك علي الدكتوراه)، وكان ذلك في حضور البروفيسور »‬روجر أوين» أستاذ العلوم السياسية الشهير في جامعتي »‬أكسفورد» البريطانية ثم »‬هارفارد» الأمريكية، وفي »‬لندن» أنجبت زوجتي السيدة »‬نجوي» وهي مثقفة مصرية ذات نشاط اجتماعي ناجح في كل مراحل حياتنا ابنتيّ السيدتين »‬سلمي» و»سارة» ومن المصادفات أن أكبر أحفادي قد اتجه للدراسة في جامعة »‬لندن» أيضًا فأنا مدينٌ للعاصمة البريطانية بالعشق التاريخي والهوي الإنساني والألفة التي لا تنتهي، وقد كنت أود أن أكون سفيرًا فيها ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، ومازال تواصلي مع مدينتي المفضلة فأنا عضو في مجلس أمناء مؤسسة بريطانية كبيرة لتعليم الطلاب الأجانب إلي جانب عضوية المركز البريطاني للدراسات الإستراتيجية، ولقد خرجت من تلك المدينة المبهرة بالآلاف من الأصدقاء المصريين والعرب والأجانب، وكلما هبطت الطائرة في مطار »‬هيثرو» شعرت وكأنها تهبط بي في قرية »‬المغازي» مركز »‬المحمودية»، حيث ولدت ونشأت.. إنها ذكريات النشأة والتكوين وأحلي سنوات العمر.
طلبت وكالة الأنباء التراضي خارج المحكمة حيث دفعت تعويضًا قيمته خمسين ألف جنيه إسترليني لزوجة السفير المصري في »لندن»‬ الذي قام بتحويلها كاملة لصندوق دعم الطلاب العرب الدارسين في العاصمة البريطانية!
أحسب أن فترة عملي في »‬لندن» كانت من أكثر فترات حياتي خصوبة لأنها أسهمت في تكويني الفكري والشخصي أكثر من غيرها بما في ذلك فترة عملي بمؤسسة الرئاسة ذاتها، فلقد اتصفت إقامتي في »‬لندن» بالشعور بالحرية والإحساس بالأمان الذي يدركه كل مغترب في تلك العاصمة البريطانية الرائعة فاشتريت شقتي عام 1973 بسعر زهيد ولكن قيمتها الحقيقية الآن تجاوزت ذلك بكثير بعد عمليات إبدال وانتقال من شقة إلي أخري، وفي »‬لندن» تشعر أنك صاحب مكان، كلنا شركاء في نفس القدر من الحرية ونفس المساحة من الحركة وحسن النية متوافر دائمًا إلا من يخطئ، ومازلت أتذكر من عملي في القنصلية المصرية كيف تورطت سيدات مصريات من مستويات راقية في الاتهام بسرقات من المحلات التجارية وكان معظمها بسبب جهلهن بنظام الدفع وعدم معرفتهن بنظام »‬كاميرات» المراقبة الذي كان يبدو حديثًا وغير مألوف في بلادنا مع مطلع سبعينيات القرن الماضي، ولقد شهدت في »‬لندن» أحداثًا كبيرة فاستدعيت ذات صباح من صيف 1973 لاستلام جثمان الفريق »‬الليثي ناصف» الذي سقط من الدور الحادي عشر من برج »‬ستيوارت» تلك البناية الشاهقة التي سكنها عديد من الأسر المصرية ومازالت علامات الاستفهام تحيط بذلك الحادث الغامض حتي اليوم، وفي »‬لندن» أيضًا تابعت مصرع العقيد »‬علي شفيق» المدير الأسبق لمكتب المشير »‬عامر» في حادث مأسوي غامض لم تتحدد دوافعه وملابساته حتي الآن، كذلك ساقتني الظروف للقاء السيد »‬شمس بدران» وزير الحربية قبل »‬نكسة يونيو 67» الذي اختار »‬لندن» مستقرًّا له بعد أن غادر »‬مصر» في بداية حكم الرئيس »‬السادات» وكان الرجل يبدو لي في لقاءاتنا المختلفة قلقًا وحذرًا وتبدو علي ملامحه ظلال سلطة غائبة وبقايا نفوذ ضائع، وكان يحكي لنا أن الموسيقار الكبير »‬محمد عبد الوهاب» كان يزوره في منزله و»يدندن» له علي العود في لقاءات شخصية محدودة! كما حضرت في العاصمة البريطانية زيارة الرئيس »‬السادات»، وأتذكر أنني ذهبت برفقة المستشار »‬رفيق صلاح الدين» لمقابلة المسئول عن قسم »‬مصر» في الخارجية البريطانية لإعداد ترتيبات الزيارة وأثناء الاجتماع طرح الجانب البريطاني درجات الزيارة المختلفة من »‬زيارة دولة» إلي »‬زيارة رسمية» إلي »‬زيارة عمل»، وقالوا إن زيارة الرئيس »‬السادات» هي زيارة عمل فلن تقابله الملكة إلا علي مدخل جناحها في قصر »‬باكينجهام»، عندئذ طوي المستشار »‬صلاح الدين» أوراقه وطلب مني أن أتبعه في الخروج من المقابلة، وكان الرجل خبيراً بالعقلية البريطانية فقال لهم إن »‬السادات» رئيس »‬مصر» ولو أن »‬ناصر» كان هو الزائر لاستقبلته المقاتلات البريطانية عند المجال الجوي البريطاني تحية وتشريفًا، فأنتم تعرفون هيبة الحكام وتحترمون فقط من تخافون لا من تصادقون! عندئذ لحق بنا السيد »‬ديفيد جوربوث» عند الدرج معتذرًا وجري ترتيب الزيارة بمراسم لائقة لمكانة رئيس »‬مصر» »‬أنور السادات» مع اعتذار كامل عن مشروع الترتيبات الذي كان معدًّا من الجانب البريطاني، ولقد أدركت يومها أن العقلية الغربية تحترم من يعرف حقه كما أنها مستعدة لتجاهل من لا يدرك ما هو له، ولقد عملت في »‬لندن» في ظل سفراء ثلاثة كان أولهم هو السيد »‬كمال رفعت» وهو نائب أسبق لرئيس الوزراء ومناضل قاد الفدائيين في منطقة »‬القنال» وتلاه الفريق »‬سعد الشاذلي» بمجده العسكري ومكانته الرفيعة، ولقد كنت قريبًا منه واحتفظت بحبي واحترامي له دائمًا، وجاهرت بالحديث عن دوره الدبلوماسي الرفيع وكتبت ذلك وهو في محبسه، وأتذكر هنا واقعة لا أنساها حيث استدعاني إلي مكتبه بالسفارة صباح يوم »‬سبت» علي غير العادة وقال لي يا »‬أبو سارة» (بالإشارة إلي ابنتي الصغري التي ولدت أثناء خدمتي معه): »‬إن زوجة السفير »‬زينات هانم متولي» قد أهينت وهي أشرف النساء فقد أذاعت إحدي وكالات الأنباء أن زوجة السفير المصري قد ضبطت تخرج من أحد المحلات ومعها مشتريات غير مدفوعة، ولم يكن ذلك معقولًا ولا مقبولًا، فقد أخطأت وكالة الأنباء وبدلًا من أن تقول زوجة سفير مصري ذكرت حرف التعريف وكأنما الإشارة هنا إلي زوجة السفير المعتمد في »‬لندن» وهو الفريق »‬سعد الشاذلي» رئيس أركان حرب القوات المسلحة في »‬معركة العبور». وقد طلب مني السفير»الشاذلي» أن أقوم بإبلاغ الخارجية المصرية برقيًّا بالواقعة وأنه سوف يقاضي وكالة الأنباء التي نشرت الخبر مغلوطًا، وبالفعل مضي الرجل في الإجراءات القانونية فطلبت وكالة الأنباء التراضي خارج المحكمة حيث دفعت تعويضًا قيمته خمسين ألف جنيه إسترليني لزوجة السفير المصري في »‬لندن» الذي قام بتحويلها كاملة لصندوق دعم الطلاب العرب الدارسين في العاصمة البريطانية! ثم عملت بعد ذلك مع السفير »‬سميح أنور» وهو واحد من ألمع سفرائنا وأكثرهم توازنًا، وأتذكر أنه حضر مهمومًا إلي أحد اجتماعاته الصباحية مع أعضاء السفارة وقال: »‬إن »‬مجلس السفراء المسلمين» قد عقد اجتماعًا في اليوم السابق لجمع التبرعات لإنشاء »‬المركز الإسلامي الجديد» علي أرض حدائق »‬الريجنت» في قلب »‬لندن» وأن سفير »‬المملكة العربية السعودية» »‬عبد الرحمن الحليسي» عرض مساهمة حكومة بلاده بالنصيب الأكبر من البناء كذلك جاءت تبرعات من دول إسلامية أخري، أما نحن في »‬مصر» فظروفنا الاقتصادية تحول دون الإسهام الفعال في بنائه». فقلت له: »‬إن »‬مصر» تساهم بثمانية ملايين جنيه إسترليني هي قيمة الأرض إذ إنه في حدود علمي أنها مقايضة ملكية بين الملك »‬جورج الخامس» والملك »‬فؤاد الأول» في مقابل أرض »‬كنيسة جميع القديسين» علي ضفاف نيل »‬القاهرة» منذ منتصف ثلاثينيات القرن العشرين»، فنظر إليّ السفير »‬أنور» متسائلًا إذا كان لدينا دليل يثبت ذلك؟ وقد انصرفت من الاجتماع متجهًا إلي »‬مركز الوثائق البريطانية» وبتوفيق من الله حصلت علي المكاتبة الرسمية في أوراق الخارجية البريطانية وتدور حول استقبال ملك »‬بريطانيا» للسفير »‬حسن نشأت باشا» سفير »‬المملكة المصرية» ومعه الشيخ »‬حافظ وهبه» الوزير المفوض لملك الحجاز العاهل السعودي »‬عبد العزيز الكبير»، وأنه قد جرت في ذلك اللقاء مراسم تبادل الوثائق بخصوص تبادل الأراضي بين »‬لندن» و»القاهرة» بما يؤكد أن الأرض التي يقام عليها »‬المركز الإسلامي» هي أرض مصرية تاريخية، ولقد استقر ذلك المفهوم، وكان أول مدير للمركز الجديد بعد إنشائه عالما أزهريا مصريا هو الراحل الشيخ »‬محمود حب الله»، إنني أريد أن أؤكد أن العمل في »‬لندن» مَدرَسة فهي مدينة التعليم والعلاج والتسوق والتسلية أيضًا، فلكل ما يريد، ولذلك فإنني أستأذن »‬القدس» »‬أم المدائن» لأصحاب الديانات السماوية لكي أقول إن »‬لندن» هي »‬أم المدائن» لأبناء الحضارات المعاصرة! وفي العاصمة البريطانية حصلت علي الدكتوراه من كلية »‬الدراسات الشرقية والإفريقية» التي أنشأتها جامعة »‬لندن» بدعم من »‬وزارة المستعمرات البريطانية» في مطلع القرن العشرين، ورغم أن أستاذي اليوناني الأصل الأمريكي الجنسية كان يتحدث العربية بطلاقة إلا أنه لم يتحدث معي بها إلا عندما قال في نهاية مناقشة الرسالة (مبروك تستطيع الآن إبلاغ زوجتك بحصولك علي الدكتوراه)، وكان ذلك في حضور البروفيسور »‬روجر أوين» أستاذ العلوم السياسية الشهير في جامعتي »‬أكسفورد» البريطانية ثم »‬هارفارد» الأمريكية، وفي »‬لندن» أنجبت زوجتي السيدة »‬نجوي» وهي مثقفة مصرية ذات نشاط اجتماعي ناجح في كل مراحل حياتنا ابنتيّ السيدتين »‬سلمي» و»سارة» ومن المصادفات أن أكبر أحفادي قد اتجه للدراسة في جامعة »‬لندن» أيضًا فأنا مدينٌ للعاصمة البريطانية بالعشق التاريخي والهوي الإنساني والألفة التي لا تنتهي، وقد كنت أود أن أكون سفيرًا فيها ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، ومازال تواصلي مع مدينتي المفضلة فأنا عضو في مجلس أمناء مؤسسة بريطانية كبيرة لتعليم الطلاب الأجانب إلي جانب عضوية المركز البريطاني للدراسات الإستراتيجية، ولقد خرجت من تلك المدينة المبهرة بالآلاف من الأصدقاء المصريين والعرب والأجانب، وكلما هبطت الطائرة في مطار »‬هيثرو» شعرت وكأنها تهبط بي في قرية »‬المغازي» مركز »‬المحمودية»، حيث ولدت ونشأت.. إنها ذكريات النشأة والتكوين وأحلي سنوات العمر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.