سيارات رينج روفر.. الرفاهية والأداء في أعلى درجاتها    فرنسا تعزز الإجراءات الأمنية أمام أماكن العبادة المسيحية    القيادة المركزية للجيش الأمريكي تنشر الصور الأولى للرصيف البحري على سواحل قطاع غزة    إيهاب جلال يعلن قائمة الإسماعيلي لمواجهة الأهلي في الدوري الممتاز    "هاتريك" ليفاندوفسكي يقود برشلونة لفوز ثمين على فالنسيا 4-2 في الدوري الإسباني    طقس اليوم مائل للحرارة نهارا مائل للبرودة ليلا على أغلب الأنحاء.. والعظمى بالقاهرة 30    حقيقة نشوب حريق بالحديقة الدولية بمدينة الفيوم    مقتل 3 ضباط شرطة في تبادل لإطلاق النار في ولاية نورث كارولينا الأمريكية    مباراة من العيار الثقيل| هل يفعلها ريال مدريد بإقصاء بايرن ميونخ الجريح؟.. الموعد والقنوات الناقلة    موعد صرف مرتبات شهر مايو 2024.. اعرف مرتبك بالزيادات الجديدة    اندلاع اشتباكات عنيفة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال في مخيم عسكر القديم شرق نابلس    ظهور خاص لزوجة خالد عليش والأخير يعلق: اللهم ارزقني الذرية الصالحة    تعرف على أسباب تسوس الأسنان وكيفية الوقاية منه    السيطرة على حريق هائل داخل مطعم مأكولات شهير بالمعادي    حبس 4 مسجلين خطر بحوزتهم 16 كيلو هيروين بالقاهرة    العميد محمود محيي الدين: الجنائية الدولية أصدرت أمر اعتقال ل نتنياهو ووزير دفاعه    هل أكل لحوم الإبل ينقض الوضوء؟.. دار الإفتاء تجيب    ثروت الزيني: نصيب الفرد من البروتين 100 بيضة و 12 كيلو دواجن و 17 كيلو سمك سنوياً    هل ذهب الأم المتوفاة من حق بناتها فقط؟ الإفتاء تجيب    نيويورك تايمز: إسرائيل خفضت عدد الرهائن الذين تريد حركة حماس إطلاق سراحهم    تعرف على موعد إجازة عيد العمال وشم النسيم للعاملين بالقطاع الخاص    نظافة القاهرة تطلق أكبر خطة تشغيل على مدار الساعة للتعامل الفوري مع المخلفات    لتلوثها ببكتيريا برازية، إتلاف مليوني عبوة مياه معدنية في فرنسا    تراجع أسعار النفط مع تكثيف جهود الوصول إلى هدنة في غزة    العثور على جثة طفلة غارقة داخل ترعة فى قنا    محلل سياسي: أمريكا تحتاج صفقة الهدنة مع المقاومة الفلسطينية أكثر من اسرائيل نفسها    موعد عيد شم النسيم 2024.. حكايات وأسرار من آلاف السنين    فتوى تحسم جدل زاهي حواس حول وجود سيدنا موسى في مصر.. هل عاصر الفراعنة؟    شقيقة الأسير باسم خندقجي: لا يوجد أى تواصل مع أخى ولم يعلم بفوزه بالبوكر    بين تقديم بلاغ للنائب العام ودفاعٌ عبر الفيسبوك.. إلي أين تتجه أزمة ميار الببلاوي والشيح محمَّد أبو بكر؟    حماية المستهلك: الزيت وصل سعره 65 جنيها.. والدقيق ب19 جنيها    د. محمود حسين: تصاعد الحملة ضد الإخوان هدفه صرف الأنظار عن فشل السيسى ونظامه الانقلابى    مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 30 أبريل في محافظات مصر    أستاذ بجامعة عين شمس: الدواء المصرى مُصنع بشكل جيد وأثبت كفاءته مع المريض    مفاجأة صادمة.. جميع تطعيمات كورونا لها أعراض جانبية ورفع ضدها قضايا    حكم الشرع في الوصية الواجبة.. دار الإفتاء تجيب    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل لي نصيباً في سعة الأرزاق وتيسير الأحوال وقضاء الحاجات    بمشاركة 10 كليات.. انطلاق فعاليات الملتقى المسرحي لطلاب جامعة كفر الشيخ |صور    رسميا.. بدء إجازة نهاية العام لطلاب الجامعات الحكومية والخاصة والأهلية بهذا الموعد    السجيني: التحديات عديدة أمام هذه القوانين وقياس أثرها التشريعي    ضبط 575 مخالفة بائع متحول ب الإسكندرية.. و46 قضية تسول ب جنوب سيناء    «هربت من مصر».. لميس الحديدي تكشف مفاجأة عن نعمت شفيق (فيديو)    المتحدث باسم الحوثيون: استهدفنا السفينة "سيكلاديز" ومدمرتين أمريكيتين بالبحر الأحمر    عفت نصار: أتمنى عودة هاني أبو ريدة لرئاسة اتحاد الكرة    تصريح زاهي حواس عن سيدنا موسى وبني إسرائيل.. سعد الدين الهلالي: الرجل صادق في قوله    ميدو: عامر حسين ب «يطلع لسانه» للجميع.. وعلى المسؤولين مطالبته بالصمت    «المقاطعة تنجح».. محمد غريب: سعر السمك انخفض 10% ببورسعيد (فيديو)    مصطفى عمار: القارئ يحتاج صحافة الرأي.. وواكبنا الثورة التكنولوجية ب3 أشياء    بعد اعتراف أسترازينيكا بآثار لقاح كورونا المميتة.. ما مصير من حصلوا على الجرعات؟ (فيديو)    ما رد وزارة الصحة على اعتراف أسترازينيكا بتسبب اللقاح في جلطات؟    توفيق السيد: لن يتم إعادة مباراة المقاولون العرب وسموحة لهذا السبب    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    أخلاقنا الجميلة.. "أدب الناس بالحب ومن لم يؤدبه الحب يؤدبه المزيد من الحب"    برلماني يطالب بالتوقف عن إنشاء كليات جديدة غير مرتبطة بسوق العمل    تموين جنوب سيناء: تحرير 54 محضرا بمدن شرم الشيخ وأبو زنيمة ونوبيع    خليل شمام: نهائى أفريقيا خارج التوقعات.. والأهلى لديه أفضلية صغيرة عن الترجى    تقديم موعد مران الأهلى الأخير قبل مباراة الإسماعيلى    بالرابط، خطوات الاستعلام عن موعد الاختبار الإلكتروني لوظائف مصلحة الخبراء بوزارة العدل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحيق الحياة ورائحة الزمن (5)
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 26 - 08 - 2014

فخرجت إليه فإذا هو »عبد الفتاح باشا عمرو»‬ سفير الملك »‬فاروق» في »‬لندن» وبطل »‬الاسكواش» العالمي الذي يأتي إلي قنصلية بلاده بعد مضي عشرين عامًا علي قيام الثورة يريد استخراج »‬جواز سفر» حتي يعيد ارتباطه بالوطن.
كان تعييني في القنصلية المصرية العامة في »‬لندن» عام 1971 نقطة تحوَّلٍ كبيرة في حياتي إذ طلبني السفير الراحل »‬كمال رفعت» للعمل معه في العاصمة البريطانية ولمَّا لم يكن هناك مكان لدرجتي في »‬السفارة» فقد تسلمت عملي »‬نائبًا للقنصل» بالمبني التاريخي الذي فقدناه منذ سنوات في الشارع الخاص الذي كانت تقيم فيه الأميرة »‬مارجريت» ثم الراحلة »‬ديانا» وأمير ويلز »‬تشارلز» فضلاً عن وجود السفارة الإسرائيلية أيضًا فيه، فقد اشتري سلطان »‬بروناي» حق الانتفاع بمبني القنصلية المصرية عند انتهائه بالنسبة لنا بعد أن تركتها بسنوات طويلة، ولي في ذلك المكان ذكريات كثيرة هي مكون أساس في تشكيل شخصيتي الدبلوماسية والثقافية والاجتماعية، فلقد رأيت »‬مصر» الحقيقية هناك حيث تؤمه الشخوص البارزة القادمة بمشكلاتها تطلب حلاً أو أمراضها تطلب علاجًا، فلقد كانت »‬القنصلية المصرية» تحت رئاسة القنصل العام الرائع »‬محب السمرة» بمثابة خلية نحل ومكتبًا خارجيًا لرئاسة الجمهورية المصرية، فتري »‬د.أشرف مروان» خارجًا، ووزراء قادمون، ومحافظون ذاهبون، و»د.مجدي يعقوب» يطلب تأشيرة لزوجته الألمانية مع بدايته علي سلم الشهرة، ولقد دخل علي حاجب القنصلية ذات يوم وقال لي إن هناك رجلاً كبيرًا يجلس في الاستراحة ويحمل »‬جواز سفر» باسم المملكة المصرية ويريد أن يري القنصل، فخرجت إليه فإذا هو »‬عبد الفتاح باشا عمرو» سفير الملك »‬فاروق» في »‬لندن» وبطل »‬الاسكواش» العالمي الذي يأتي إلي قنصلية بلاده بعد مضي عشرين عامًا علي قيام الثورة يريد استخراج »‬جواز سفر» حتي يعيد ارتباطه بالوطن وتواصله مع الأرض الطيبة التي خرج منها، فرحبت به ترحيبًا شديدًا وأنا أشهد أمامي شخصية تمثل »‬مصر» في العصر الملكي، خصوصًا وأنني قرأت عنه وعرفت من تاريخه الكثير، فاستخرجت له يومها جواز سفر جديد علي مسؤوليتي وعندما عبر لي عن رغبته في الاحتفاظ بجواز سفره الملكي وافقته علي ذلك خصوصًا أنه كان جوازًا فاقد الصلاحية بحكم الزمن لكنه يمثل وثيقة من تاريخ وطنٍ نعتز به، وما أكثر الشخصيات الهامة التي رأيتها في ذلك المكان الذي كان يعتبر ملتقي للمصريين والعرب حيث كان مقرًا للسفارة السورية قبل الوحدة وعندما جرت مقايضة المباني بعد الانفصال أصبح ذلك هو مقر القنصلية المصرية العامة في »‬لندن»، ومن النوادر التي لا أنساها أيضًا أن »‬الخارجية المصرية» أرسلت إلينا تلفت النظر إلي دخول أعداد من اليهود الذين يعيشون في »‬إسرائيل» بجوازات سفر أوروبية وأمريكية وطلب الأمن مراعاة ذلك عند منح تأشيرات الدخول لهم فقمت في عفوية ومع قلة خبرة ابن السابعة والعشرين بإعداد استمارات جديدة لطلب التأشيرة المصرية وأضفت إليها خانة للسؤال عن الديانة، ولسوء حظي أن القنصل العام والقنصل لم يكونا موجودين فكنت أنا رئيس البعثة بالإنابة وأمرت بوضع الاستمارات الجديدة لطالبي التأشيرة، وماهي إلا ساعات قليلة حتي وجدت السفير المصري يستدعيني علي عجل قائلاً أن الخارجية البريطانية قد احتجت رسميًا علي وجود »‬سؤال غير مألوف» عن »‬الديانة» باعتبارها مسألة شخصية لايجوز السؤال عنها فذلك ضد الأعراف البريطانية، وطلب مسؤول الخارجية سحب تلك الاستمارات علي الفور وفعلت ذلك وتعلمت منذ ذلك الحين كيف تلمس معرفة ديانة شخصٍ عند اللزوم دون سؤالٍ مباشر لأن فيه معني الإقصاء أحيانًا والاستبعاد أحيانًا أخري، ولست أنسي ما حييت أنني كنت أتصفح صحيفة بريطانية »‬خاصة باليهود الإنجليز» فوجدت في الصفحة الأولي اسمي تحت عنوان »‬القنصل المصري» يمهد لاتصالات بين اتحاد الطلاب الإسرائيلي واتحاد الطلاب العرب في العاصمة البريطانية وذكروني بالاسم في الخبر، فشعرت بحالة من الذعر لأن مثل تلك الأخبار لو صحت كان يمكن أن تودي بمستقبلي كله، وقد تتبع أمن السفارة الخبر ليعرف أن شخصًا قد جاء إلي القنصلية يبدو إنجليزيًا عاديًا وقابلني علي عجل وطلب مني عنوان الملحق الثقافي فأعطيته له بحسن نية متصورًا أنه يريد الحصول علي بعض الوثائق أو زيارة المكتبة، فإذا به يقوم بعملية »‬فبركة» لذلك الخبر في وقتِ كانت فيه »‬إسرائيل» تلهث من أجل التطبيع علي أي مستوي، ولولا أن الأجهزة المصرية كانت تعرف توجهاتي الحقيقية وموقفي الثابت من »‬إسرائيل» لكان رد الفعل مختلفًا، والآن أتذكر موقفًا مشابهًا عندما كنت »‬حامل حقيبة دبلوماسية» في »‬شرق أفريقيا» عام 1970، وبينما أنا في »‬الطائرة» من »‬دار السلام» إلي »‬نيروبي» جاءتني المضيفة وقالت لي إن »‬ابن عمك» علي ذات الطائرة يرسل لك هذه التفاحة ومعها »‬كارت» باسمه ووظيفته كمستشار للسفارة الإسرائيلية في »‬دار السلام» وكدت أقفز من الطائرة رعبًا فلقد كانت لدينا مخاوف ومحاذير في ذلك الوقت تصور لنا أن »‬الإسرائيلي» رجل بأربعة عيون وستة آذان وأن مجرد النظر إليه جريمة قومية، ولقد استمتعت كثيرًا بفترة عملي في »‬القنصلية العامة» بلندن وتعرف علي الآلاف من المصريين والعرب والأجانب ورأيت الشخصيات الكبيرة وهي تسعي من أجل طلباتٍ صغيرة، وأدركت أن المصري في الخارج يتحرر من قيود المنصب وهالة الوظيفة ويصبح شخصًا عاديًا، وقد قابلت السيدة »‬جيهان السادات» علي مائدة غداء في منزل القنصل العام »‬محب السمرة» في الدور العلوي بمبني السفارة وبهرني تواضعها الشديد وبساطتها الزائدة وذكاؤها الاجتماعي الحاد، كما رافقت الأديب »‬يوسف إدريس» في محنة مرضه، وودعت السيدة »‬أم كلثوم» في مطار »‬لندن» هي وزوجها »‬د.الحفناوي» بعد رحلة علاج عام 1973، واستقبلت الأديب الكبير »‬توفيق الحكيم» في مكتبي عدة مرات مرافقًا لزوجته التي جاءت للعلاج في »‬لندن»، كما التقيت السيدة »‬ناهد رشاد» وصيفة الملك حيث أرسلها الرئيس »‬السادات» للعلاج في »‬لندن» ببدل سفر مضاعف اعترافًا بفضلها فهي التي وضعت منشورات ثوار 23 يوليو علي مكتب الملك عن طريق زوجها الطبيب الضابط »‬يوسف رشاد» صديق البكباشي »‬أنور السادات» الضابط الثائر المعزول من الخدمة، كما ازداد احتكاكي بحكم طبيعة العمل برجال المخابرات المصرية واكتشفت براعتهم الفائقة وخبراتهم الواسعة واتصالاتهم الكبيرة في الخارج واستلامهم لبعض الجواسيس الهاربين نتيجة الذكاء الحاد للعاملين في ذلك الجهاز الوطني الجاد، وكان ذلك في الفترة السابقة مباشرةً علي حرب العبور عام 1973، كما تعرفت علي شخصياتٍ قريبة من الرئيس الراحل »‬السادات» مثل صهره البرلماني الراحل »‬محمود أبو وافية» والمهندس »‬سيد مرعي» رحمه الله وغيرهما ممن كانوا يمتون بصلة لقصر الرئاسة المصرية، كما اقتربت كثيرًا من نجلي الزعيم الراحل »‬جمال عبد الناصر» وبهرني الدكتور »‬خالد» بأدبه الجم وبساطته الزائدة وهو الذي رحل عن عالمنا بجنازة شعبية تلقائية، كذلك زاملت السيد »‬عبد الحميد عبد الناصر» بعد ذلك حين انتقلت من »‬القنصلية» إلي »‬السفارة» بناءً علي طلبي، ولكن كان من أهم أحداث وجودي في »‬لندن» أن أتاح لي الكاتب الراحل »‬أحمد بهاء الدين» التعرف من خلاله علي شخصية الفيلسوف المصري الساخر»محمود السعدني» الذي رافقته في »‬لندن» لعدة سنوات وفهمت منه وعنه الملامح الحقيقية للشخصية المصرية، كما التقيت بالدكتور »‬أحمد المقدم» الذي كان معيدًا في كلية الاقتصاد قبل تخرجي منها ثم أصبح أستاذًا جامعيًا ورجل أعمال في »‬إنجلترا» وتعرفت من خلاله علي صديقٍ عزيز هو الراحل الدكتور »‬فكري سويلم» الذي تمثل قصة حياته أسطورة من نوعٍ خاص حكيتها من قبل في مناسباتٍ مختلفة، ولقد انخرطت بعد ذلك في موضوع الدراسة للدكتوراة في العاصمة البريطانية التي ارتبطت بها كثيرًا ولا أزال.. إنه زمن جميل لأحلي سنوات العمر!
فخرجت إليه فإذا هو »عبد الفتاح باشا عمرو»‬ سفير الملك »‬فاروق» في »‬لندن» وبطل »‬الاسكواش» العالمي الذي يأتي إلي قنصلية بلاده بعد مضي عشرين عامًا علي قيام الثورة يريد استخراج »‬جواز سفر» حتي يعيد ارتباطه بالوطن.
كان تعييني في القنصلية المصرية العامة في »‬لندن» عام 1971 نقطة تحوَّلٍ كبيرة في حياتي إذ طلبني السفير الراحل »‬كمال رفعت» للعمل معه في العاصمة البريطانية ولمَّا لم يكن هناك مكان لدرجتي في »‬السفارة» فقد تسلمت عملي »‬نائبًا للقنصل» بالمبني التاريخي الذي فقدناه منذ سنوات في الشارع الخاص الذي كانت تقيم فيه الأميرة »‬مارجريت» ثم الراحلة »‬ديانا» وأمير ويلز »‬تشارلز» فضلاً عن وجود السفارة الإسرائيلية أيضًا فيه، فقد اشتري سلطان »‬بروناي» حق الانتفاع بمبني القنصلية المصرية عند انتهائه بالنسبة لنا بعد أن تركتها بسنوات طويلة، ولي في ذلك المكان ذكريات كثيرة هي مكون أساس في تشكيل شخصيتي الدبلوماسية والثقافية والاجتماعية، فلقد رأيت »‬مصر» الحقيقية هناك حيث تؤمه الشخوص البارزة القادمة بمشكلاتها تطلب حلاً أو أمراضها تطلب علاجًا، فلقد كانت »‬القنصلية المصرية» تحت رئاسة القنصل العام الرائع »‬محب السمرة» بمثابة خلية نحل ومكتبًا خارجيًا لرئاسة الجمهورية المصرية، فتري »‬د.أشرف مروان» خارجًا، ووزراء قادمون، ومحافظون ذاهبون، و»د.مجدي يعقوب» يطلب تأشيرة لزوجته الألمانية مع بدايته علي سلم الشهرة، ولقد دخل علي حاجب القنصلية ذات يوم وقال لي إن هناك رجلاً كبيرًا يجلس في الاستراحة ويحمل »‬جواز سفر» باسم المملكة المصرية ويريد أن يري القنصل، فخرجت إليه فإذا هو »‬عبد الفتاح باشا عمرو» سفير الملك »‬فاروق» في »‬لندن» وبطل »‬الاسكواش» العالمي الذي يأتي إلي قنصلية بلاده بعد مضي عشرين عامًا علي قيام الثورة يريد استخراج »‬جواز سفر» حتي يعيد ارتباطه بالوطن وتواصله مع الأرض الطيبة التي خرج منها، فرحبت به ترحيبًا شديدًا وأنا أشهد أمامي شخصية تمثل »‬مصر» في العصر الملكي، خصوصًا وأنني قرأت عنه وعرفت من تاريخه الكثير، فاستخرجت له يومها جواز سفر جديد علي مسؤوليتي وعندما عبر لي عن رغبته في الاحتفاظ بجواز سفره الملكي وافقته علي ذلك خصوصًا أنه كان جوازًا فاقد الصلاحية بحكم الزمن لكنه يمثل وثيقة من تاريخ وطنٍ نعتز به، وما أكثر الشخصيات الهامة التي رأيتها في ذلك المكان الذي كان يعتبر ملتقي للمصريين والعرب حيث كان مقرًا للسفارة السورية قبل الوحدة وعندما جرت مقايضة المباني بعد الانفصال أصبح ذلك هو مقر القنصلية المصرية العامة في »‬لندن»، ومن النوادر التي لا أنساها أيضًا أن »‬الخارجية المصرية» أرسلت إلينا تلفت النظر إلي دخول أعداد من اليهود الذين يعيشون في »‬إسرائيل» بجوازات سفر أوروبية وأمريكية وطلب الأمن مراعاة ذلك عند منح تأشيرات الدخول لهم فقمت في عفوية ومع قلة خبرة ابن السابعة والعشرين بإعداد استمارات جديدة لطلب التأشيرة المصرية وأضفت إليها خانة للسؤال عن الديانة، ولسوء حظي أن القنصل العام والقنصل لم يكونا موجودين فكنت أنا رئيس البعثة بالإنابة وأمرت بوضع الاستمارات الجديدة لطالبي التأشيرة، وماهي إلا ساعات قليلة حتي وجدت السفير المصري يستدعيني علي عجل قائلاً أن الخارجية البريطانية قد احتجت رسميًا علي وجود »‬سؤال غير مألوف» عن »‬الديانة» باعتبارها مسألة شخصية لايجوز السؤال عنها فذلك ضد الأعراف البريطانية، وطلب مسؤول الخارجية سحب تلك الاستمارات علي الفور وفعلت ذلك وتعلمت منذ ذلك الحين كيف تلمس معرفة ديانة شخصٍ عند اللزوم دون سؤالٍ مباشر لأن فيه معني الإقصاء أحيانًا والاستبعاد أحيانًا أخري، ولست أنسي ما حييت أنني كنت أتصفح صحيفة بريطانية »‬خاصة باليهود الإنجليز» فوجدت في الصفحة الأولي اسمي تحت عنوان »‬القنصل المصري» يمهد لاتصالات بين اتحاد الطلاب الإسرائيلي واتحاد الطلاب العرب في العاصمة البريطانية وذكروني بالاسم في الخبر، فشعرت بحالة من الذعر لأن مثل تلك الأخبار لو صحت كان يمكن أن تودي بمستقبلي كله، وقد تتبع أمن السفارة الخبر ليعرف أن شخصًا قد جاء إلي القنصلية يبدو إنجليزيًا عاديًا وقابلني علي عجل وطلب مني عنوان الملحق الثقافي فأعطيته له بحسن نية متصورًا أنه يريد الحصول علي بعض الوثائق أو زيارة المكتبة، فإذا به يقوم بعملية »‬فبركة» لذلك الخبر في وقتِ كانت فيه »‬إسرائيل» تلهث من أجل التطبيع علي أي مستوي، ولولا أن الأجهزة المصرية كانت تعرف توجهاتي الحقيقية وموقفي الثابت من »‬إسرائيل» لكان رد الفعل مختلفًا، والآن أتذكر موقفًا مشابهًا عندما كنت »‬حامل حقيبة دبلوماسية» في »‬شرق أفريقيا» عام 1970، وبينما أنا في »‬الطائرة» من »‬دار السلام» إلي »‬نيروبي» جاءتني المضيفة وقالت لي إن »‬ابن عمك» علي ذات الطائرة يرسل لك هذه التفاحة ومعها »‬كارت» باسمه ووظيفته كمستشار للسفارة الإسرائيلية في »‬دار السلام» وكدت أقفز من الطائرة رعبًا فلقد كانت لدينا مخاوف ومحاذير في ذلك الوقت تصور لنا أن »‬الإسرائيلي» رجل بأربعة عيون وستة آذان وأن مجرد النظر إليه جريمة قومية، ولقد استمتعت كثيرًا بفترة عملي في »‬القنصلية العامة» بلندن وتعرف علي الآلاف من المصريين والعرب والأجانب ورأيت الشخصيات الكبيرة وهي تسعي من أجل طلباتٍ صغيرة، وأدركت أن المصري في الخارج يتحرر من قيود المنصب وهالة الوظيفة ويصبح شخصًا عاديًا، وقد قابلت السيدة »‬جيهان السادات» علي مائدة غداء في منزل القنصل العام »‬محب السمرة» في الدور العلوي بمبني السفارة وبهرني تواضعها الشديد وبساطتها الزائدة وذكاؤها الاجتماعي الحاد، كما رافقت الأديب »‬يوسف إدريس» في محنة مرضه، وودعت السيدة »‬أم كلثوم» في مطار »‬لندن» هي وزوجها »‬د.الحفناوي» بعد رحلة علاج عام 1973، واستقبلت الأديب الكبير »‬توفيق الحكيم» في مكتبي عدة مرات مرافقًا لزوجته التي جاءت للعلاج في »‬لندن»، كما التقيت السيدة »‬ناهد رشاد» وصيفة الملك حيث أرسلها الرئيس »‬السادات» للعلاج في »‬لندن» ببدل سفر مضاعف اعترافًا بفضلها فهي التي وضعت منشورات ثوار 23 يوليو علي مكتب الملك عن طريق زوجها الطبيب الضابط »‬يوسف رشاد» صديق البكباشي »‬أنور السادات» الضابط الثائر المعزول من الخدمة، كما ازداد احتكاكي بحكم طبيعة العمل برجال المخابرات المصرية واكتشفت براعتهم الفائقة وخبراتهم الواسعة واتصالاتهم الكبيرة في الخارج واستلامهم لبعض الجواسيس الهاربين نتيجة الذكاء الحاد للعاملين في ذلك الجهاز الوطني الجاد، وكان ذلك في الفترة السابقة مباشرةً علي حرب العبور عام 1973، كما تعرفت علي شخصياتٍ قريبة من الرئيس الراحل »‬السادات» مثل صهره البرلماني الراحل »‬محمود أبو وافية» والمهندس »‬سيد مرعي» رحمه الله وغيرهما ممن كانوا يمتون بصلة لقصر الرئاسة المصرية، كما اقتربت كثيرًا من نجلي الزعيم الراحل »‬جمال عبد الناصر» وبهرني الدكتور »‬خالد» بأدبه الجم وبساطته الزائدة وهو الذي رحل عن عالمنا بجنازة شعبية تلقائية، كذلك زاملت السيد »‬عبد الحميد عبد الناصر» بعد ذلك حين انتقلت من »‬القنصلية» إلي »‬السفارة» بناءً علي طلبي، ولكن كان من أهم أحداث وجودي في »‬لندن» أن أتاح لي الكاتب الراحل »‬أحمد بهاء الدين» التعرف من خلاله علي شخصية الفيلسوف المصري الساخر»محمود السعدني» الذي رافقته في »‬لندن» لعدة سنوات وفهمت منه وعنه الملامح الحقيقية للشخصية المصرية، كما التقيت بالدكتور »‬أحمد المقدم» الذي كان معيدًا في كلية الاقتصاد قبل تخرجي منها ثم أصبح أستاذًا جامعيًا ورجل أعمال في »‬إنجلترا» وتعرفت من خلاله علي صديقٍ عزيز هو الراحل الدكتور »‬فكري سويلم» الذي تمثل قصة حياته أسطورة من نوعٍ خاص حكيتها من قبل في مناسباتٍ مختلفة، ولقد انخرطت بعد ذلك في موضوع الدراسة للدكتوراة في العاصمة البريطانية التي ارتبطت بها كثيرًا ولا أزال.. إنه زمن جميل لأحلي سنوات العمر!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.