تنسيق الجامعات 2025.. أماكن اختبارات القدرات للالتحاق بكليات التربية الفنية    محافظ الإسماعيلية يعتمد درجات القبول بالمدارس الثانوية    رئيس مجلس الدولة يستقبل مفتي الجمهورية لتهنئته بمنصبه    لليوم الثالث.. استمرار تلقي طلبات الترشح لانتخابات مجلس الشيوخ    إيمان كريم: نُشجع الأشخاص ذوي الإعاقة على المشاركة في متابعة انتخابات الشيوخ 2025    مجلس النواب يوافق على إضافة الصيادلة لبند صرف بدل السهر والمبيت    طلاب القاهرة يحصدون المركز الأول جمهوريًا في معرض الصحف العامة والتربية الخاصة 2025/2024    تداول 48 ألف طن و460 شاحنة بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    صرف 100 ألف جنيه لكل متوفي بحادث الطريق الإقليمي    عبدالغفار: نستهدف تعظيم المخزون الاستراتيجي وتوطين الصناعة الطبية بمصر    وزير الري يلتقي الممثل المقيم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي بمصر UNDP    طفرة في تحاليل المنتجات الزراعية.. 33% زيادة في عدد عينات معمل متبقيات المبيدات.. وتدشين دورات تدريبية للأرفارقة    الرئيس السيسي: زيارة رئيس الصومال لمصر تجسد عمق الروابط الأخوية بين البلدين    المبعوث الأمريكي توماس باراك: ترامب التزم باحترام لبنان وتعهد بالوقوف خلفه    عراقجي: الهجمات الإسرائيلية والأمريكية انتهاكا لميثاق الأمم المتحدة    وزير الخارجية الروسي: إصلاح منظمة التجارة العالمية بات ضرورة ملحة    الأهلي ينهي إجراءات سفر ياسين مرعي إلى معسكر تونس بعد ضمه رسميًا من فاركو    أبرزهم هرقل ومارتينيلي.. فلومينينسي يحشد أسلحته أمام تشيلسي للعبور لنهائي مونديال الأندية    مصطفى محمد يرد على عرض الأهلي.. أحمد حسن يكشف التفاصيل    فرحات يلتقي بالخبير الهولندي لقيادة خطة تطوير منتخب مصر للهوكي    ناىب يرفض مشروع تعديل قانون التعليم    ضبط موظف عرّض حياة الأطفال للخطر بالشرقية| فيديو    مساعد وزير التموين: حملات رقابية مكثفة لضبط الأسواق وحماية المستهلك    نتيجة الدبلومات الفنية 2025 فور اعتمادها رسميًا (رابط رسمي)    تعرف على المسارات البديلة بعد إغلاق الطريق الدائرى الإقليمى لمدة أسبوع    «قصور الثقافة» تختتم فعاليات مهرجان فرق الأقاليم المسرحية ال47    من 3 إلى 13 يوليو 2025 |مصر ضيف شرف معرض فنزويلا للكتاب    ياسين السقا يدعم والده بعد أزمة والدته: "هتفضل سندي وضهري في الدنيا"    نائب وزير الصحة يتفقد الخدمات الطبية بالإسماعيلية ويوجه بمكافآت وعقوبات    إدوارد يكشف معركته مع السرطان: «كنت بضحك وأنا من جوّا منهار»    بسبب ارتفاع درجات الحرارة.. متحدث الصحة يصدر تحذيرات وقائية    يوم الشوكولاتة العالمي 2025.. ما الكمية المناسبة لطفلك؟    محافظ الدقهلية يضبط واقعة بيع خبز مدعم بالسعر الحر في بلقاس    البنك المركزي: أرصدة الذهب بالاحتياطي الأجنبي تسجل 13.59 مليار دولار بنهاية يونيو 2025    البنك المركزى يوجه البنوك بدعم العملاء المصدرين والتوافق بيئيا مع المعايير الدولية    قبول استقالة 8 أعضاء بمجلس النواب.. ما السبب؟    جمال عبدالحميد يتحدث عن علاقته ب فيفي عبده ونزوله أرض الملعب بطائرة خلال اعتزاله (تفاصيل)    فيلم أحمد وأحمد يحصد 2 مليون و700 ألف جنيه في شباك تذاكر أمس الأحد    «الغموض سر الجاذبية»: 4 أبراج تحب الغموض وتكره الوضوح المفرط ..هل برجك من بينهم؟    فات الميعاد الحلقة 18.. التحقيق مع أحمد مجدى بتهمة تهريب أدوية خام    الحرس الثوري: مدن الصواريخ التي نمتلكها تحت الأرض «شاسعة» ولم نستعرض بعد صواريخنا الفعالة    «فيفا» يعلن حكم مباراة ريال مدريد وباريس سان جيرمان في نصف نهائي مونديال الأندية    السكة الحديد: تشغيل حركة القطارات اتجاه القاهرة- الإسكندرية في الاتجاهين    ضبط 3 أشخاص بالقاهرة لقيامهم بأعمال الحفر والتنقيب غير المشروع عن الآثار    بيراميدز يكشف حقيقة إبرام صفقات تبادلية مع الزمالك    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : الفساد صناعة ?!    الهلال يستعد لثورة تغييرات في قائمة الأجانب بقرار من إنزاجي    رئيس الوزراء يلتقي رئيس جمهورية الأوروجواي على هامش مشاركته في قمة بريكس بالبرازيل    (( أصل السياسة))… بقلم : د / عمر عبد الجواد عبد العزيز    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : حالة شكر.""؟!    ماذا قدم محمد أوناجم في الدوري المصري قبل رحلته مع كهرباء الإسماعيلية؟    انخفاض الأسمنت.. أسعار مواد البناء اليوم بالأسواق (موقع رسمي)    بريكس تطالب بإصلاح صندوق النقد وكسر احتكار إدارته الغربية    إعلام عبري: ذباب مصري يغزو حيفا ويثير الذعر في الأحياء الراقية (تفاصيل)    نشرة التوك شو| الحكومة تعلق على نظام البكالوريا وخبير يكشف أسباب الأمطار المفاجئة صيفًا    فرسان مدرسة الديوان!    حكومة غزة: نرفض الاتهامات الأمريكية بضلوع حماس في الهجوم على موقع الإغاثة    «لها حدود وضوابط».. أمين الفتوى: لا يجوز الوصية بكل المال إذا كان للموصي ورثة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحيق الحياة ورائحة الزمن (5)
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 26 - 08 - 2014

فخرجت إليه فإذا هو »عبد الفتاح باشا عمرو»‬ سفير الملك »‬فاروق» في »‬لندن» وبطل »‬الاسكواش» العالمي الذي يأتي إلي قنصلية بلاده بعد مضي عشرين عامًا علي قيام الثورة يريد استخراج »‬جواز سفر» حتي يعيد ارتباطه بالوطن.
كان تعييني في القنصلية المصرية العامة في »‬لندن» عام 1971 نقطة تحوَّلٍ كبيرة في حياتي إذ طلبني السفير الراحل »‬كمال رفعت» للعمل معه في العاصمة البريطانية ولمَّا لم يكن هناك مكان لدرجتي في »‬السفارة» فقد تسلمت عملي »‬نائبًا للقنصل» بالمبني التاريخي الذي فقدناه منذ سنوات في الشارع الخاص الذي كانت تقيم فيه الأميرة »‬مارجريت» ثم الراحلة »‬ديانا» وأمير ويلز »‬تشارلز» فضلاً عن وجود السفارة الإسرائيلية أيضًا فيه، فقد اشتري سلطان »‬بروناي» حق الانتفاع بمبني القنصلية المصرية عند انتهائه بالنسبة لنا بعد أن تركتها بسنوات طويلة، ولي في ذلك المكان ذكريات كثيرة هي مكون أساس في تشكيل شخصيتي الدبلوماسية والثقافية والاجتماعية، فلقد رأيت »‬مصر» الحقيقية هناك حيث تؤمه الشخوص البارزة القادمة بمشكلاتها تطلب حلاً أو أمراضها تطلب علاجًا، فلقد كانت »‬القنصلية المصرية» تحت رئاسة القنصل العام الرائع »‬محب السمرة» بمثابة خلية نحل ومكتبًا خارجيًا لرئاسة الجمهورية المصرية، فتري »‬د.أشرف مروان» خارجًا، ووزراء قادمون، ومحافظون ذاهبون، و»د.مجدي يعقوب» يطلب تأشيرة لزوجته الألمانية مع بدايته علي سلم الشهرة، ولقد دخل علي حاجب القنصلية ذات يوم وقال لي إن هناك رجلاً كبيرًا يجلس في الاستراحة ويحمل »‬جواز سفر» باسم المملكة المصرية ويريد أن يري القنصل، فخرجت إليه فإذا هو »‬عبد الفتاح باشا عمرو» سفير الملك »‬فاروق» في »‬لندن» وبطل »‬الاسكواش» العالمي الذي يأتي إلي قنصلية بلاده بعد مضي عشرين عامًا علي قيام الثورة يريد استخراج »‬جواز سفر» حتي يعيد ارتباطه بالوطن وتواصله مع الأرض الطيبة التي خرج منها، فرحبت به ترحيبًا شديدًا وأنا أشهد أمامي شخصية تمثل »‬مصر» في العصر الملكي، خصوصًا وأنني قرأت عنه وعرفت من تاريخه الكثير، فاستخرجت له يومها جواز سفر جديد علي مسؤوليتي وعندما عبر لي عن رغبته في الاحتفاظ بجواز سفره الملكي وافقته علي ذلك خصوصًا أنه كان جوازًا فاقد الصلاحية بحكم الزمن لكنه يمثل وثيقة من تاريخ وطنٍ نعتز به، وما أكثر الشخصيات الهامة التي رأيتها في ذلك المكان الذي كان يعتبر ملتقي للمصريين والعرب حيث كان مقرًا للسفارة السورية قبل الوحدة وعندما جرت مقايضة المباني بعد الانفصال أصبح ذلك هو مقر القنصلية المصرية العامة في »‬لندن»، ومن النوادر التي لا أنساها أيضًا أن »‬الخارجية المصرية» أرسلت إلينا تلفت النظر إلي دخول أعداد من اليهود الذين يعيشون في »‬إسرائيل» بجوازات سفر أوروبية وأمريكية وطلب الأمن مراعاة ذلك عند منح تأشيرات الدخول لهم فقمت في عفوية ومع قلة خبرة ابن السابعة والعشرين بإعداد استمارات جديدة لطلب التأشيرة المصرية وأضفت إليها خانة للسؤال عن الديانة، ولسوء حظي أن القنصل العام والقنصل لم يكونا موجودين فكنت أنا رئيس البعثة بالإنابة وأمرت بوضع الاستمارات الجديدة لطالبي التأشيرة، وماهي إلا ساعات قليلة حتي وجدت السفير المصري يستدعيني علي عجل قائلاً أن الخارجية البريطانية قد احتجت رسميًا علي وجود »‬سؤال غير مألوف» عن »‬الديانة» باعتبارها مسألة شخصية لايجوز السؤال عنها فذلك ضد الأعراف البريطانية، وطلب مسؤول الخارجية سحب تلك الاستمارات علي الفور وفعلت ذلك وتعلمت منذ ذلك الحين كيف تلمس معرفة ديانة شخصٍ عند اللزوم دون سؤالٍ مباشر لأن فيه معني الإقصاء أحيانًا والاستبعاد أحيانًا أخري، ولست أنسي ما حييت أنني كنت أتصفح صحيفة بريطانية »‬خاصة باليهود الإنجليز» فوجدت في الصفحة الأولي اسمي تحت عنوان »‬القنصل المصري» يمهد لاتصالات بين اتحاد الطلاب الإسرائيلي واتحاد الطلاب العرب في العاصمة البريطانية وذكروني بالاسم في الخبر، فشعرت بحالة من الذعر لأن مثل تلك الأخبار لو صحت كان يمكن أن تودي بمستقبلي كله، وقد تتبع أمن السفارة الخبر ليعرف أن شخصًا قد جاء إلي القنصلية يبدو إنجليزيًا عاديًا وقابلني علي عجل وطلب مني عنوان الملحق الثقافي فأعطيته له بحسن نية متصورًا أنه يريد الحصول علي بعض الوثائق أو زيارة المكتبة، فإذا به يقوم بعملية »‬فبركة» لذلك الخبر في وقتِ كانت فيه »‬إسرائيل» تلهث من أجل التطبيع علي أي مستوي، ولولا أن الأجهزة المصرية كانت تعرف توجهاتي الحقيقية وموقفي الثابت من »‬إسرائيل» لكان رد الفعل مختلفًا، والآن أتذكر موقفًا مشابهًا عندما كنت »‬حامل حقيبة دبلوماسية» في »‬شرق أفريقيا» عام 1970، وبينما أنا في »‬الطائرة» من »‬دار السلام» إلي »‬نيروبي» جاءتني المضيفة وقالت لي إن »‬ابن عمك» علي ذات الطائرة يرسل لك هذه التفاحة ومعها »‬كارت» باسمه ووظيفته كمستشار للسفارة الإسرائيلية في »‬دار السلام» وكدت أقفز من الطائرة رعبًا فلقد كانت لدينا مخاوف ومحاذير في ذلك الوقت تصور لنا أن »‬الإسرائيلي» رجل بأربعة عيون وستة آذان وأن مجرد النظر إليه جريمة قومية، ولقد استمتعت كثيرًا بفترة عملي في »‬القنصلية العامة» بلندن وتعرف علي الآلاف من المصريين والعرب والأجانب ورأيت الشخصيات الكبيرة وهي تسعي من أجل طلباتٍ صغيرة، وأدركت أن المصري في الخارج يتحرر من قيود المنصب وهالة الوظيفة ويصبح شخصًا عاديًا، وقد قابلت السيدة »‬جيهان السادات» علي مائدة غداء في منزل القنصل العام »‬محب السمرة» في الدور العلوي بمبني السفارة وبهرني تواضعها الشديد وبساطتها الزائدة وذكاؤها الاجتماعي الحاد، كما رافقت الأديب »‬يوسف إدريس» في محنة مرضه، وودعت السيدة »‬أم كلثوم» في مطار »‬لندن» هي وزوجها »‬د.الحفناوي» بعد رحلة علاج عام 1973، واستقبلت الأديب الكبير »‬توفيق الحكيم» في مكتبي عدة مرات مرافقًا لزوجته التي جاءت للعلاج في »‬لندن»، كما التقيت السيدة »‬ناهد رشاد» وصيفة الملك حيث أرسلها الرئيس »‬السادات» للعلاج في »‬لندن» ببدل سفر مضاعف اعترافًا بفضلها فهي التي وضعت منشورات ثوار 23 يوليو علي مكتب الملك عن طريق زوجها الطبيب الضابط »‬يوسف رشاد» صديق البكباشي »‬أنور السادات» الضابط الثائر المعزول من الخدمة، كما ازداد احتكاكي بحكم طبيعة العمل برجال المخابرات المصرية واكتشفت براعتهم الفائقة وخبراتهم الواسعة واتصالاتهم الكبيرة في الخارج واستلامهم لبعض الجواسيس الهاربين نتيجة الذكاء الحاد للعاملين في ذلك الجهاز الوطني الجاد، وكان ذلك في الفترة السابقة مباشرةً علي حرب العبور عام 1973، كما تعرفت علي شخصياتٍ قريبة من الرئيس الراحل »‬السادات» مثل صهره البرلماني الراحل »‬محمود أبو وافية» والمهندس »‬سيد مرعي» رحمه الله وغيرهما ممن كانوا يمتون بصلة لقصر الرئاسة المصرية، كما اقتربت كثيرًا من نجلي الزعيم الراحل »‬جمال عبد الناصر» وبهرني الدكتور »‬خالد» بأدبه الجم وبساطته الزائدة وهو الذي رحل عن عالمنا بجنازة شعبية تلقائية، كذلك زاملت السيد »‬عبد الحميد عبد الناصر» بعد ذلك حين انتقلت من »‬القنصلية» إلي »‬السفارة» بناءً علي طلبي، ولكن كان من أهم أحداث وجودي في »‬لندن» أن أتاح لي الكاتب الراحل »‬أحمد بهاء الدين» التعرف من خلاله علي شخصية الفيلسوف المصري الساخر»محمود السعدني» الذي رافقته في »‬لندن» لعدة سنوات وفهمت منه وعنه الملامح الحقيقية للشخصية المصرية، كما التقيت بالدكتور »‬أحمد المقدم» الذي كان معيدًا في كلية الاقتصاد قبل تخرجي منها ثم أصبح أستاذًا جامعيًا ورجل أعمال في »‬إنجلترا» وتعرفت من خلاله علي صديقٍ عزيز هو الراحل الدكتور »‬فكري سويلم» الذي تمثل قصة حياته أسطورة من نوعٍ خاص حكيتها من قبل في مناسباتٍ مختلفة، ولقد انخرطت بعد ذلك في موضوع الدراسة للدكتوراة في العاصمة البريطانية التي ارتبطت بها كثيرًا ولا أزال.. إنه زمن جميل لأحلي سنوات العمر!
فخرجت إليه فإذا هو »عبد الفتاح باشا عمرو»‬ سفير الملك »‬فاروق» في »‬لندن» وبطل »‬الاسكواش» العالمي الذي يأتي إلي قنصلية بلاده بعد مضي عشرين عامًا علي قيام الثورة يريد استخراج »‬جواز سفر» حتي يعيد ارتباطه بالوطن.
كان تعييني في القنصلية المصرية العامة في »‬لندن» عام 1971 نقطة تحوَّلٍ كبيرة في حياتي إذ طلبني السفير الراحل »‬كمال رفعت» للعمل معه في العاصمة البريطانية ولمَّا لم يكن هناك مكان لدرجتي في »‬السفارة» فقد تسلمت عملي »‬نائبًا للقنصل» بالمبني التاريخي الذي فقدناه منذ سنوات في الشارع الخاص الذي كانت تقيم فيه الأميرة »‬مارجريت» ثم الراحلة »‬ديانا» وأمير ويلز »‬تشارلز» فضلاً عن وجود السفارة الإسرائيلية أيضًا فيه، فقد اشتري سلطان »‬بروناي» حق الانتفاع بمبني القنصلية المصرية عند انتهائه بالنسبة لنا بعد أن تركتها بسنوات طويلة، ولي في ذلك المكان ذكريات كثيرة هي مكون أساس في تشكيل شخصيتي الدبلوماسية والثقافية والاجتماعية، فلقد رأيت »‬مصر» الحقيقية هناك حيث تؤمه الشخوص البارزة القادمة بمشكلاتها تطلب حلاً أو أمراضها تطلب علاجًا، فلقد كانت »‬القنصلية المصرية» تحت رئاسة القنصل العام الرائع »‬محب السمرة» بمثابة خلية نحل ومكتبًا خارجيًا لرئاسة الجمهورية المصرية، فتري »‬د.أشرف مروان» خارجًا، ووزراء قادمون، ومحافظون ذاهبون، و»د.مجدي يعقوب» يطلب تأشيرة لزوجته الألمانية مع بدايته علي سلم الشهرة، ولقد دخل علي حاجب القنصلية ذات يوم وقال لي إن هناك رجلاً كبيرًا يجلس في الاستراحة ويحمل »‬جواز سفر» باسم المملكة المصرية ويريد أن يري القنصل، فخرجت إليه فإذا هو »‬عبد الفتاح باشا عمرو» سفير الملك »‬فاروق» في »‬لندن» وبطل »‬الاسكواش» العالمي الذي يأتي إلي قنصلية بلاده بعد مضي عشرين عامًا علي قيام الثورة يريد استخراج »‬جواز سفر» حتي يعيد ارتباطه بالوطن وتواصله مع الأرض الطيبة التي خرج منها، فرحبت به ترحيبًا شديدًا وأنا أشهد أمامي شخصية تمثل »‬مصر» في العصر الملكي، خصوصًا وأنني قرأت عنه وعرفت من تاريخه الكثير، فاستخرجت له يومها جواز سفر جديد علي مسؤوليتي وعندما عبر لي عن رغبته في الاحتفاظ بجواز سفره الملكي وافقته علي ذلك خصوصًا أنه كان جوازًا فاقد الصلاحية بحكم الزمن لكنه يمثل وثيقة من تاريخ وطنٍ نعتز به، وما أكثر الشخصيات الهامة التي رأيتها في ذلك المكان الذي كان يعتبر ملتقي للمصريين والعرب حيث كان مقرًا للسفارة السورية قبل الوحدة وعندما جرت مقايضة المباني بعد الانفصال أصبح ذلك هو مقر القنصلية المصرية العامة في »‬لندن»، ومن النوادر التي لا أنساها أيضًا أن »‬الخارجية المصرية» أرسلت إلينا تلفت النظر إلي دخول أعداد من اليهود الذين يعيشون في »‬إسرائيل» بجوازات سفر أوروبية وأمريكية وطلب الأمن مراعاة ذلك عند منح تأشيرات الدخول لهم فقمت في عفوية ومع قلة خبرة ابن السابعة والعشرين بإعداد استمارات جديدة لطلب التأشيرة المصرية وأضفت إليها خانة للسؤال عن الديانة، ولسوء حظي أن القنصل العام والقنصل لم يكونا موجودين فكنت أنا رئيس البعثة بالإنابة وأمرت بوضع الاستمارات الجديدة لطالبي التأشيرة، وماهي إلا ساعات قليلة حتي وجدت السفير المصري يستدعيني علي عجل قائلاً أن الخارجية البريطانية قد احتجت رسميًا علي وجود »‬سؤال غير مألوف» عن »‬الديانة» باعتبارها مسألة شخصية لايجوز السؤال عنها فذلك ضد الأعراف البريطانية، وطلب مسؤول الخارجية سحب تلك الاستمارات علي الفور وفعلت ذلك وتعلمت منذ ذلك الحين كيف تلمس معرفة ديانة شخصٍ عند اللزوم دون سؤالٍ مباشر لأن فيه معني الإقصاء أحيانًا والاستبعاد أحيانًا أخري، ولست أنسي ما حييت أنني كنت أتصفح صحيفة بريطانية »‬خاصة باليهود الإنجليز» فوجدت في الصفحة الأولي اسمي تحت عنوان »‬القنصل المصري» يمهد لاتصالات بين اتحاد الطلاب الإسرائيلي واتحاد الطلاب العرب في العاصمة البريطانية وذكروني بالاسم في الخبر، فشعرت بحالة من الذعر لأن مثل تلك الأخبار لو صحت كان يمكن أن تودي بمستقبلي كله، وقد تتبع أمن السفارة الخبر ليعرف أن شخصًا قد جاء إلي القنصلية يبدو إنجليزيًا عاديًا وقابلني علي عجل وطلب مني عنوان الملحق الثقافي فأعطيته له بحسن نية متصورًا أنه يريد الحصول علي بعض الوثائق أو زيارة المكتبة، فإذا به يقوم بعملية »‬فبركة» لذلك الخبر في وقتِ كانت فيه »‬إسرائيل» تلهث من أجل التطبيع علي أي مستوي، ولولا أن الأجهزة المصرية كانت تعرف توجهاتي الحقيقية وموقفي الثابت من »‬إسرائيل» لكان رد الفعل مختلفًا، والآن أتذكر موقفًا مشابهًا عندما كنت »‬حامل حقيبة دبلوماسية» في »‬شرق أفريقيا» عام 1970، وبينما أنا في »‬الطائرة» من »‬دار السلام» إلي »‬نيروبي» جاءتني المضيفة وقالت لي إن »‬ابن عمك» علي ذات الطائرة يرسل لك هذه التفاحة ومعها »‬كارت» باسمه ووظيفته كمستشار للسفارة الإسرائيلية في »‬دار السلام» وكدت أقفز من الطائرة رعبًا فلقد كانت لدينا مخاوف ومحاذير في ذلك الوقت تصور لنا أن »‬الإسرائيلي» رجل بأربعة عيون وستة آذان وأن مجرد النظر إليه جريمة قومية، ولقد استمتعت كثيرًا بفترة عملي في »‬القنصلية العامة» بلندن وتعرف علي الآلاف من المصريين والعرب والأجانب ورأيت الشخصيات الكبيرة وهي تسعي من أجل طلباتٍ صغيرة، وأدركت أن المصري في الخارج يتحرر من قيود المنصب وهالة الوظيفة ويصبح شخصًا عاديًا، وقد قابلت السيدة »‬جيهان السادات» علي مائدة غداء في منزل القنصل العام »‬محب السمرة» في الدور العلوي بمبني السفارة وبهرني تواضعها الشديد وبساطتها الزائدة وذكاؤها الاجتماعي الحاد، كما رافقت الأديب »‬يوسف إدريس» في محنة مرضه، وودعت السيدة »‬أم كلثوم» في مطار »‬لندن» هي وزوجها »‬د.الحفناوي» بعد رحلة علاج عام 1973، واستقبلت الأديب الكبير »‬توفيق الحكيم» في مكتبي عدة مرات مرافقًا لزوجته التي جاءت للعلاج في »‬لندن»، كما التقيت السيدة »‬ناهد رشاد» وصيفة الملك حيث أرسلها الرئيس »‬السادات» للعلاج في »‬لندن» ببدل سفر مضاعف اعترافًا بفضلها فهي التي وضعت منشورات ثوار 23 يوليو علي مكتب الملك عن طريق زوجها الطبيب الضابط »‬يوسف رشاد» صديق البكباشي »‬أنور السادات» الضابط الثائر المعزول من الخدمة، كما ازداد احتكاكي بحكم طبيعة العمل برجال المخابرات المصرية واكتشفت براعتهم الفائقة وخبراتهم الواسعة واتصالاتهم الكبيرة في الخارج واستلامهم لبعض الجواسيس الهاربين نتيجة الذكاء الحاد للعاملين في ذلك الجهاز الوطني الجاد، وكان ذلك في الفترة السابقة مباشرةً علي حرب العبور عام 1973، كما تعرفت علي شخصياتٍ قريبة من الرئيس الراحل »‬السادات» مثل صهره البرلماني الراحل »‬محمود أبو وافية» والمهندس »‬سيد مرعي» رحمه الله وغيرهما ممن كانوا يمتون بصلة لقصر الرئاسة المصرية، كما اقتربت كثيرًا من نجلي الزعيم الراحل »‬جمال عبد الناصر» وبهرني الدكتور »‬خالد» بأدبه الجم وبساطته الزائدة وهو الذي رحل عن عالمنا بجنازة شعبية تلقائية، كذلك زاملت السيد »‬عبد الحميد عبد الناصر» بعد ذلك حين انتقلت من »‬القنصلية» إلي »‬السفارة» بناءً علي طلبي، ولكن كان من أهم أحداث وجودي في »‬لندن» أن أتاح لي الكاتب الراحل »‬أحمد بهاء الدين» التعرف من خلاله علي شخصية الفيلسوف المصري الساخر»محمود السعدني» الذي رافقته في »‬لندن» لعدة سنوات وفهمت منه وعنه الملامح الحقيقية للشخصية المصرية، كما التقيت بالدكتور »‬أحمد المقدم» الذي كان معيدًا في كلية الاقتصاد قبل تخرجي منها ثم أصبح أستاذًا جامعيًا ورجل أعمال في »‬إنجلترا» وتعرفت من خلاله علي صديقٍ عزيز هو الراحل الدكتور »‬فكري سويلم» الذي تمثل قصة حياته أسطورة من نوعٍ خاص حكيتها من قبل في مناسباتٍ مختلفة، ولقد انخرطت بعد ذلك في موضوع الدراسة للدكتوراة في العاصمة البريطانية التي ارتبطت بها كثيرًا ولا أزال.. إنه زمن جميل لأحلي سنوات العمر!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.