رئيس الأعلى للإعلام يشارك في مناقشة التوصيات النهائية للجنة التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي    35% من جرائم القتل التي يرتكبها الأطفال نتيجة استغلال الآخرين.. دراسة جديدة    قناة ON تنقل قداس عيد الميلاد من مصر وبيت لحم والفاتيكان    الاحتياطي النقدي الأجنبي لمصر.. خط الدفاع الأول    «جرام من الطن».. كيفية استخراج الذهب من الصخور بمنجم السكري    مصر تودع استيراد إطارات السيارات وتتجه للتصدير..«تفاؤل» بخطة التسعير الجديدة |خاص    بارزانى: نقدر دور القاهرة فى استعادة السلام والاستقرار بالمنطقة    وزير خارجية أنجولا: علاقات التعاون مع مصر في مسار إيجابي    أمم أفريقيا 2025.. محمد صلاح يهدف لاقتحام صدارة هدافي مصر في الكان    كرة سلة - تتويج سيدات سبورتنج بلقب السوبر بعد الفوز على الأهلي    تأجيل محاكمة المنتجة سارة خليفة والتشكيل العصابي في قضية المخدرات الكبرى    المعهد القومي للاتصالات يفتح التقديم ببرنامج سفراء الذكاء الاصطناعي    أحمد القرملاوى عن روايته « الأحد عشر»:«داينا» ألهمتنى إعادة بناء قصة «يوسف» وإخوته    التراث الصعيدى فى ليلة افتتاح مهرجان التحطيب بالأقصر    تعليق مفاجئ من محمد إمام على أزمة محمد صبحي وهجوم الإعلاميين عليه    نواف سلام: نزع سلاح حزب الله جنوب نهر الليطاني بات على بعد أيام    وزير الإسكان يتابع موقف مشروعات وحدات المبادرة الرئاسية" سكن لكل المصريين" بعددٍ من المدن الجديدة    مركز الميزان يدين بشدة استمرار جرائم قتل وتجويع وتهجير المدنيين الفلسطينيين    هايدينهايم ضد بايرن ميونخ.. البافاري بطل الشتاء في الدوري الألماني    زوج ريهام عبد الغفور يساندها فى عرض فيلم خريطة رأس السنة    مهرجان غزة الدولي لسينما المرأة ينظم عرضا خاصا لفيلم فلسطين 36    حفل توقيع كتاب "وجوه شعبية مصرية" بمتحف المركز القومي للمسرح.. صور    أسباب قلة الوزن عند الأطفال الرياضيين    تعليم الغربية: عقد لجنة القيادات لتدريب 1000 معلم لقيادة المدارس كمديرين    سيسكو يقود هجوم مانشستر يونايتد أمام أستون فيلا في البريميرليج    ضبط طرفي مشاجرة بعد تداول فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي    الأهلي يفوز على إنبي بثلاثية في دوري السيدات    رئيس الوزراء يشهد توقيع عقد تشغيل فندق الكونتيننتال التاريخي وسط القاهرة بعلامة تاج العالمية    جامعة عين شمس تحقق إنجازًا جديدًا وتتصدر تصنيف "جرين متريك 2025"    وكيل الأزهر يلقي محاضرة لعلماء ماليزيا حول "منهج التعامل مع الشبهات"| صور    مفتي الجمهورية: المؤسسة الدينية خَطُّ الدفاع الأول في مواجهة الحروب الفكرية التي تستهدف الدين واللغة والوطن    الجيزة توضح حقيقة نزع ملكية عقارات بطريق الإخلاص    القيمة السوقية لمنتخبات أفريقيا في كان 2025    محافظ كفرالشيخ يتفقد الأعمال الإنشائية لربط طريق دسوق المزدوج والطريق القديم    رئيس الإمارات يبحث مع نظيره الفرنسي تعزيز العلاقات    رئيس الوزراء يتابع مع وزير الكهرباء الموقف التنفيذى لمشروعات الطاقة المتجددة    "أنهي حياة زوجته".. أوراق قضية كهربائي البحيرة لمفتي الجمهورية    نصيحة للأمهات، احذري من تأثير ضغط الدراسة على علاقتك مع أبنائك    انطلاق المسح الصحي لرصد الأمراض غير السارية بمحافظة قنا    فيديو | الجمهور يتجمع حول محمد إمام إثناء تصوير "الكينج"    لماذا نشتهى الطعام أكثر في الشتاء؟    برلمانية المؤتمر: تعديلات قانون الكهرباء خطوة ضرورية لحماية المرفق    ضبط 3 محطات وقود بالبحيرة لتجميع وبيع 47 ألف لتر مواد بترولية    وزير الخارجية يلتقي نائبة وزير خارجية جنوب إفريقيا لبحث سبل تعزيز العلاقات الثنائية    محافظ أسيوط: استمرار تدريبات المشروع القومي للموهبة الحركية لاكتشاف المواهب الرياضية    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 21ديسمبر 2025 فى المنيا    حملة للمتابعة الطبية المنزلية لأصحاب الأمراض المزمنة وكبار السن وذوي الهمم.. مجانًا    مصرع 3 أشخاص وإصابة آخرين في بورسعيد إثر حادث تصادم بين سيارتين    حقيقة تأثر رؤية شهر رمضان باكتمال أو نقص الشهور السابقة.. القومي يوضح    فضل العمرة فى شهر رجب.. دار الإفتاء توضح    فى مباحثاته مع مسرور بارزانى.. الرئيس السيسى يؤكد دعم مصر الكامل للعراق الشقيق ولوحدة وسلامة أراضيه ومساندته فى مواجهة التحديات والإرهاب.. ويدعو حكومة كردستان للاستفادة من الشركات المصرية فى تنفيذ المشروعات    شهر رجب .. مركز الأزهر العالمى للفتوى يوضح خصائص الأشهر الحرم    محافظ القاهرة جدول امتحانات الفصل الدراسي الأول للعام الدراسي    أمم إفريقيا – المغرب.. هل يتكرر إنجاز بابا؟    حبس المتهم بقتل زميله وتقطيع جثمانه إلى أربعة أجزاء وإخفائها داخل صندوق قمامة بالإسكندرية    بعد رؤية هلال رجب.. ما هو موعد شهر شعبان ؟    كورتوا: حمل شارة قيادة ريال مدريد كان حلما.. ومن الصعب إيقاف مبابي    الإفتاء: الدعاء في أول ليلة من رجب مستحب ومرجو القبول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نجيب محفوظ.. رفقة عمر

في دروس شيكاجو، حرصت علي التعبير عن رؤيتي من خلال الخاص والعام، الدرس الثاني كان عن نجيب محفوظ، شهادة عن صديق قريب وكاتب عظيم تأثرت به.
مازلت أذكر هذا اليوم البعيد، ربما كان في عام 1960 أو عام 1961، لا أدري موقعه بالضبط بين الايام، لكنه بالتأكيد يوم جمعة، كنت أقف في شارع عبدالخالق ثروت، في مواجهة المدخل الجانبي للأوبرا التي احترقت، كنت أنتظر أحد الأصدقاء، عندما وقعت عيناي علي نجيب محفوظ لأول مرة، كان قادما من ناحية ميدان العتبة، متجها إلي ندوة الاوبرا الاسبوعية، كيف تعرفت عليه، ربما صوره التي علقت بذهني، تلك الصور التي كانت تنشرها الصحف والمجلات، لم أكن أعرفه، غير أن راحة غمرتني، فهذا عظيم ممن قرأت لهم. الروائي العربي الوحيد الذي تعلقت بأعماله، تلك الاعمال التي كانت تحمل عناوين المنطقة التي أحيا فيها، القاهرة القديمة، والذي وجدت قامته تطاول قامة الروائيين الكبار الذين قرأت أعمالهم في هذا العمر البعيد: تولستوي، دستويفسكي، توماس مان، وغيرهم. دعاني الي ندوة الاوبرا الاسبوعية والتي أنتهت عام 1961 بسبب الأمن .
مضي عام، وكان مقر عملي الجديد في الدقي، كنت أمشي من الجمالية في الصباح الباكر إلي الحي الأنيق، وأعبر كوبري قصر النيل، وفوق الكوبري التقيت بنجيب محفوظ أذكر أن خطواته كانت أسرع، وكان بنيان جسده في ضعف جسده الحالي، وشعره أسود تماما، كان في الحادية والخمسين، وكان يعمل مستشارا ثقافيا لمؤسسة السينما، مقر مكتبه في مبني التليفزيون، يمشي يوميا من منزله إلي المبني، فوق الرصيف ذاته، يعبر من نفس المكان، وكالعادة يحمل في يده اليمني صحف الصباح، تعرفت به، وبدأت أصحبه مسافة قليلة من الطريق قبل ان أنثني معاودا سيري في الاتجاه المعاكس، في أحد هذه الاصباح النائية، أعطيته نسخة من مجلة «الأديب» البيروتية التي كان يصدرها الراحل الكبير البير أديب، حيث نشرت أول قصة لي ، قصة عنوانها «زيارة» كان ذلك في عدد يوليو 1963.
في اليوم التالي قال لي إنه قرأ القصة، وأنها جيدة ، وأنه أعجب بها، وبدا علي وجهه ذلك التعبير الذي خبرته جيدا فيما بعد كلما أعجبته قصة أو رواية قرأها، لاحظت اهتمامه بكل انتاج أدبي جديد يصل إليه من أي أديب ناشئ أو مجهول، يقرأه بعناية، ويبدي رأيه شفاهة إذا كان الأديب يلتقي به، أو كتابة إذا كان يقيم بعيدا عنه، أيضا لا يهمل كتابة رد علي أي رسالة تصل إليه، برغم تعدد هذه الرسائل، سواء كانت قادمة من باحث في أدبه بإحدي الجامعات الاوروبية أو أديب مجهول يعيش في قرية نائية، وهذا ما لم أستطع أن أتعلمه منه للأسف، فلكم أضيق بكتابة الرسائل، فلا أخط خطابا إلا إذا كان الباعث دفقة شعورية، أو رغبة حادة في التواصل، تعلمت منه أن الأدب مجاهدة، وأنه يقتضي الدأب الشديد، والمثابرة، وأنه ليس وسيلة للنجومية، أو للظهور في أبواب أخبار المجتمع بالصحف، أو برامج التليفزيون، لقد كتب أشهر أعماله وهو في الظل، تعلمت منه أيضا هذا التنظيم الحديدي للوقت، أدرك أن العمر ضيق، أن العمر قصير والعلم كثير، وما أريد البوح به أدبا أكثر، وأن السنوات تمضي مسرعة، والأدب ليس نزوة ، وأنه في حاجة إلي جهد كبير، هائل، إلي المعايشة العميقة لحياة الناس، إلي التحصيل المستمر.
قال لي نجيب محفوظ :
«نعم أنا منظم، والسبب في ذلك بسيط، إذ عشت عمري كموظف، وأديب، ولو لم أكن موظفا لما كنت اتخذت النظام بعين الاعتبار، كنت فعلت ما أشاء وفي أي ساعة أشاء، لكنني في هذه الحالة، كان علي أن أستيقظ في ساعة معينة، وأكون في الوظيفة في ساعة معينة، ويبقي لي من اليوم ساعات معينة، فإن لم أنظم هذا اليوم فسأفقد السيطرة عليه، لقد عودت نفسي علي ساعات معينة للكتابة، وفي البداية كانت روحي تستجيب أحيانا، لكنني مع الزمن اعتدت ذلك، انني اكتب عادة عند الغروب، ولا أذكر أنني كتبت أكثر من ثلاث ساعات، وفي المتوسط لمدة ساعتين، أشرب في اليوم الواحد خمسة فناجين قهوة وأسهر حتي الثانية عشرة ليلا، واكتفي بخمس ساعات نوم».
عندما يكتب نجيب محفوظ يدير ظهره للعالم، لا يعبأ بشيء، ربما يبدو في حياته الخاصة واليومية محافظا، متزنا، لكنه عندما يبدأ إبداعه ينطلق بلا تردد بلا خوف، بلا أدني هاجس، أو حذر، هكذا بدا في قصصه القصيرة خلال الستينيات التي كانت تبدو كأحد مظاهر المقاومة لمصادرة الحريات، كذا في «ثرثرة فوق النيل»، و«ميرامار» و «اللص والكلاب»، في هذه الاعمال حذر من السلبيات الكامنة في المجتمع والتي أدت فيما بعد إلي هزيمة يونيو.
قال نجيب محفوظ :
«الثورة عند الأديب تبدأ في قلبه أولا، وفي تفاعله مع الناس ثانيا، تبدأ في إحساسه التنبؤ الطبيعي الذي لا أعتقد أن فنانا يستحق هذا الاسم خال منه، لان الفنان الأصيل كالحيوان، كالعصافير والفيلة والنسور التي عندما تحس بخطر محدق تصدر بالغريزة أصواتا خاصة معلنة للملأ أن خطرا ما آت، والفنان إذا لم يكن عنده هذا القدر من الاحساس العام الذي يجعله ويجعل أدبه في مستوي النبوءة متضمنا دعوة إلي هذا الاتجاه أو ذلك، تكون أجهزته كلها معطلة أو مختلة، إن الفنان في الواقع لا يتنبأ، وإنما يحس الرؤيا، رؤيا الواقع.
وقال نجيب محفوظ :
«أحيانا يجد الفنان صعوبة في التعبير عن نفسه، خاصة لموقف الدولة منه، وهذا وضع عام في العالم العربي، أننا لا نستطيع أن نفصل عمل الأديب عن الدولة إطلاقا، وصوت الأديب صوت لابد أن يهز الدولة بالرضي أو السخط، وبالنسبة إلي موقفها من حرية الرأي تكون معاناته، وإذا تجاهلت الدولة صوت الأديب، فإن الدولة تكون هي الخاسرة، لأن صوت الأديب صوت كاشف عن الحقيقة، وإذا كانت الدولة تريد أن تعرف واقعها وتعرف مستقبلها فالأديب يعرف ويعطي مالا تستطيع أن تعرفه أو تعطيه جميع أجهزة المخابرات، بينما إذا كتمت الدولة هذا الصوت فلن يعود عليها إلا بالخسارة، وهي هنا كالذي يضع عصابة علي عينيه برضاه كي لا يري أنه حر، لكنه هو الخسران أولا وأخيرا، حرية الرأي شيء ضروري جدا للأديب، وللأديب وللصديق وللعدو، للعاقل، وللحكيم، ولا يخشي من هذه الحرية إلا واحد فقط هو غير الحكيم.
وأسأل نجيب محفوظ :
«أحيانا أجد تناقضا بين بعض ما تقوله في أحاديثك وبين ما أقرأه في انتاجك الفني».
أجابني باختصار :
«صدق إذن العمل الفني».
المكان.....
لم أر إنسانا ارتبط بمكان نشأته الأولي مثل نجيب محفوظ، عاش في الجمالية اثني عشر عاما، هي الأعوام الأولي من عمره، ثم انتقل إلي العباسية، لكنه ظل مشدودا إلي الحواري والأزقة والأقبية.. إلي الحسين إلي الجمالية، إن الناس الذين عرفهم وعرفوه، ثم كان المكان محورا لأهم وأعظم أعماله الأدبية، ومع بداية الصيف يتوقف نجيب محفوظ عن الكتابة طوال العطلة وحتي بداية الخريف، وذلك بسبب مرض عينيه بالحساسية وفي الأسبوع الأول لعطلته، ذهب إلي الحسين، إلي الجمالية وكنت معه، لقد صحبته كثيرا إلي الحسين، وهناك راقبت انفعالاته، وتجولت معه في الحواري والشوارع التي عشت فيها ثلاثين عاما.
البداية من ميدان الحسين.. في قلب الميدان توقفنا للحظات، بدا وجه نجيب محفوظ هادئا، مستكينا لتأثير الذكريات التي كانت تتوالي عليه، تطلع إلي مبني إدارة جامع الازهر، قال :
هنا كانت مدرسة خليل أغا الثانوية..
قلت له : إن معالم الميدان تغيرت عدة مرات خلال السنوات القريبة، منذ أن أقدم أحد المحافظين علي استصدار قرار بهدم الفيشاوي ومجموعة المباني القديمة التي كانت تجاوره، في وسط الميدان كانت ساعة ميدان، ثم أقيمت نافورة، عدلت، ثم أحيطت بحديقة، وفي نفس هذا المكان منذ حوالي ثلاثين عاما، كان موقف عربات سوارس التي تجرها الخيول، وتتجه إلي الدرب الأحمر، إلي الحسينية.
أشار نجيب محفوظ إلي عمارات الأوقاف القائمة في الجهة الغربية من المسجد، قال :
كان هنا الباب الأخضر، فهو قبو كبير يؤدي إلي حارة ضيقة وكانت حياته، محورها الجمالية، والحسين، وهذه المنطقة، وعلي الرغم من سكنه في مناطق أخري من القاهرة، العباسية، وشارع النيل، إلا أنه لم يعكس هذه المناطق بنفس القوة التي صور بها الجمالية، وما تزال الحارة محور عالمه.
مرة واقعية، ومرة رمزية «أولاد حارتنا» ثم أسطورية في روايته الرائعة «الحرافيش» .
غاصت الأعوام الاثنا عشر التي قضاها نجيب محفوظ في الجمالية إلي أعماقه، وانعكست بقوة في عالمه الروائي، ولم تظهر ضاحية العباسية التي عاش فيها شبابه كله وصدر رجولته إلا كمكان ثانوي، يكون الذهاب إليه انطلاقا من الجمالية، كما نجد في الثلاثية عندما كان يسعي كمال أحد أبطال الثلاثية لزيارة قصر آل شداد، أما منطقة العجوزة، أو شارع النيل، فلم تنعكسا في أعماله قط، لم تشده الشوارع الحديثة، والمباني الشاهقة، وأعتقد أنه مجرد مكان للإقامة، للنوم، وللعمل، ونفس الأمر بالنسبة لي، فقد عشت في حواري الجمالية لمدة ثلاثين عاما متصلة، وعندما تزوجت، اضطرتني ظروف أزمة الاسكان إلي السكن في حلوان، وابتعدت عن الجمالية جسدا لكنني لم أبتعد عنها روحا وقلبا، واعترف انني مازلت عاجزا عن التواصل مع ضاحية حلوان، فلا أنا قادر علي إقامة علاقات بها، ولا أنا قادر علي الشعور بها، ولا أكلف نفسي عناء استكشافها، ويخاطبني احساس دائم أن إقامتي فيها مؤقتة، وانني يوما ما سأعود مع أسرتي إلي الجمالية...
والحارة التي عاشها نجيب محفوظ في عشرينيات هذا القرن، تختلف عن الحارة التي عشتها حتي منتصف السبعينيات، كانت القاهرة القديمة في زمن نجيب محفوظ مركزا لسكني الطبقة المتوسطة والتجار الكبار، وكبار الموظفين، وكانت حواري الجمالية ذات تركيبة اجتماعية غريبة، في الحارة الواحدة نجد قصرا به حديقة غناء وإلي جواره نجد بيتا متوسطا تسكنه أسرة تاجر، وإلي جواره نجد ربعا ضخما، تسكنه عشرات الأسر الفقيرة كانت الحارة تضم مختلف المستويات الاجتماعية، ولا تزال هناك بقايا هذا النظام في حارة درب الطبلاوي بقصر الشوق التي كنت أسكنها، يوجد قصر المسافر خانة الشهير، أو قصر الضيافة الخاص بأسرة محمد علي باشا والذي ولد في إحدي حجراته الخديو إسماعيل، مازال هذا القصر باقيا حتي الآن، ولكن كمتحف، ومقر لبعض الفنانين التشكيليين، ومن الدور الكبيرة الباقية حتي الأن في الحارة، منزل آل شمس الدين، وفيهم شيخ الطريقة الأحمدية المرزوقية، ويقع إلي جوار سيدي مرزوق، وفي نفس الحارة توجد عمارات حديثة يسكنها بعض أبناء الطبقة المتوسطة وتوجد بيوت قديمة تسكنها عائلات فقيرة، في حارة الدرب الأصفر، كان يوجد حتي مطلع الخمسينيات عدد من الدور الكبيرة التي تحيطها الحدائق، أقدمها بيت السحيمي القائم حتي الآن باعتباره متحفا، وبيت مصطفي جعفر، الذي تتخذه هيئة الآثار كمقرلمكاتبها، أما بقية البيوت فقد اندثرت، منذ الثلاثينات بدأت البيوت ذات الحدائق في الاندثار، وبدأت هجرة العائلات الكبيرة من الجمالية إلي الاحياء المستحدثة في القاهرة، تحولت بعض الحواري الآن إلي وعاء للحضيض الاجتماعي، كما أن يد الاهمال بسطت أصابعها فوق المكان كله، وأذكر أن حارتنا «درب الطبلاوي» كانت تكنس وترش في اليوم الواحد مرتين، كان الكناس يأتي في الصباح، وعند الظهيرة، يجمع البقايا إلي جوار الجدران، ثم تأتي عربة الزبالة فتزيلها ثم تجيء عربة الرش، أماالآن فلكم أشعر بالحزن، والأسي عندما أري مياه المجاري طافحة، بحيث تجعل دخول المساجد القديمة والبيوت الأثرية والتجول أمرا صعبا، ومعظم حواري الجمالية كانت مبلطة بالحجارة، تماما كشوارع باريس القديمة، لآن قصر النظر الحضاري أصاب موظفي محافظة القاهرة، فقد استبدلوا بهذه الحجارة الأسفلت، حدث ذك عام 1969 وسرعان ما دبت الحفر، والمطبات، هذا ما حدث في حارة درب الطبلاوي علي سبيل المثال، ناهيك عن تغيير بعض معالم المنطقة، وكان من أبرزها هدم مقهي الفيشاوي القديم، هذا القرارالغبي الذي أجهز علي واحد من أرقي و أعرق مقاهي القاهرة القديمة، ولم يتبق منه إلا شظايا مكان، أعماله الروائية مرجع لتطور المدينة خلال القرن العشرين علي المستويين الظاهر والباطن.
الواقع والرمز
في أعمال نجيب محفوظ الأدبية نجد الحارة علي مستويين.. الأول واقعي والثاني رمزي، نجد المستوي الأول في أعمال نجيب محفوظ الواقعية، في زقاق المدق وخان الخليلي ثم الثلاثية، بين القصرين، قصرالشوق، والسكرية، في هذه الأعمال نلتقي بحارة محدودة الملامح والسمات، خاصة اذا طابقناها بالواقع، في هذه الروايات تتحرك الشخصيات في حارات محدودة، التزم نجيب محفوظ بتضاريس الواقع في منطقة الجمالية، والمتتبع لحركة الشخصيات في الروايات اذا طابقها بالمكان الواقعي سيجد أنه التزام مدهش بطوبغرافية المكان، ومعالمه، حتي يمكن بحق اعتبارالثلاثية وخان الخليلي وزقاق المدق، مراجع دقيقة لمعالم المكان خلال الزمن الذي دارت فيه الاحداث، يعكس هذه المعالم المندثرة مثل مقهي سي عبده الذي كان يقع تحت الارض، وكانت تتوسطه نافورة مياه تحيط بها المقاصير، وكان يجتمع فيه بطل الثلاثية كمال عبدالجواد بصديقه فؤاد الحمزاوي، لقد تتبعت علي الواقع حركة الشخصيات التي رسمها نجيب محفوظ فوجدت تطابقا دقيقا بين الوصف وبين معالم المكان، واذا ذهبنا اليوم إلي زقاق المدق فسنجد المقهي ودكان الحلاق، ودكانا آخر مغلقا ويقول أبناء الزقاق إنه كان هناك رجل بدين يبيع البسبوسة بالزقاق وهو الذي ظهرفي الرواية باسم عم كامل، أما المدق نفسه فمازال موجودا،كذلك الفرن.
في هذه المرحلة الواقعية كانت الحارة انعكاسا أمينا للمكان كما عايشه نجيب محفوظ...
أما المستوي الثاني الذي نجده في أعمال كاتبنا الكبير للحارة، فيمكن اعتباره المستوي الرمزي، ونجده في أولاد حارتنا والحرافيش وحكايات حارتنا والعديد من قصصه القصيرة، هنا تصبح الحارة مزيجا من الواقع والحلم، واقع مقطر، كما نجد في «حكايات حارتنا» وهذه الحارة الخاصة لها وجود مستقل، ولها مفرداتها، ورموزها، التي تتكرر من حين إلي آخر، نجد البيوت، وشجر اللبلاب، والمقهي، والقبو والخلاء، والسكينة، حيث رجال الله القابعون، المتفرغون لذكره دائما لايسفرون، ولا يظهرون، ولكن تتردد أصداء أدعيتهم الغامضة، حينا بالتركية، وحينا بالفارسية، أما الخلاء فهو نهاية هذا كله، منطلق وفسيح حدود الدنيا، يوحي بالعدم، وعند الأفق تبدو القباب والمآذن، وفي الزوايا يقوم شجر التوت.
في حواري نجيب محفوظ تتوالي الأيام معبقة بأسرارها وتظهر شخصيات، وترحل شخصيات، ويختفي البعض إلي الأبد، وتنشب خناقات، وتشج رءوس، وينصب فتوات، ويهزم فتوات، ويحل الجيل، مكان الجيل، وتنقضي الأعمار وتبقي أسوار التكية عالية تتردد من خلفها أصوات الدراويش، تبدو حواري نجيب محفوظ هنا شفافة تلخص كل ما في الحياة وتعكس ملامح الانسان في أطواره المختلفة، إنها باختصار، صورة مقطرة لعالمنا ودنيانا، صاغها أديبنا الكبير في شاعرية وحساسية مرهفة، وحب هائل لقلب قاهرتنا القديمة، خلالها عبر عن الانسانية والكون.
في عام 1994 وقع حادث خطير قلب حياته رأسا علي عقب، عندما حاول أحد المتطرفين الاسلاميين اغتياله، كلفه شيخه بقتل نجيب محفوظ بسبب رواية «أولاد حارتنا» التي نشرت عام 1959 مسلسلة في جريدة الأهرام، وطبعت في بيروت في 1965، ولم تنشر في مصر إلا بعد رحيله، اعترف الشاب «24 عاما» أنه لم يقرأ له كلمة لكن شيخه أمره بذلك، لم يلق محفوظ حتفه لكن السكين التي غرست في عنقه أصابت ذراعه اليمني بالشلل، أمضي عامين يتدرب فيهما علي الكتابة، وفي أحد الايام مال علي هامسا : اليوم نجحت في كتابة مستقيمة، لم أنزل من السطر، كان عمره عند المحاولة 84 سنة، مريض بالسكر، فقد سمعه تقريبا، بدأ يتعلم الكتابة من جديد كالاطفال، في آخر عامين راح يملي علي سكرتيره الاحلام، العمل الأدبي الذي يقارب الشعر، أنشودة الوداع الطويلة للحياة، لم يفقد الرغبة في الكتابة، خانه جسده ولم تخنه الموهبة، وعندما رأيته للمرة الاخيرة قبل وفاته بحوالي ساعة كان يحملق إلي اللاشيء، كنت واثقا أن ذهنه يعمل، غير أنه كان غير قادر علي النطق، هكذا رحل ولم يرحل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.