زقاق المدق هو أحد الأزقة المتفرعة من منطقة الحسين بحى الأزهر بالقاهرة، وهو زقاق صغير شعبى يتفرع من شارع الصناديقية الموازى لشارع الأزهر، وقد سمى بهذا الاسم حيث كانت تطحن فيه التوابل قبل نقلها إلى سوريا. وزقاق المدق هو رائعة من روائع نجيب محفوظ ترصد الواقع المصرى خلال الحرب العالمية الثانية، ولقد بدأ محفوظ أحداث الرواية بوصفه للزقاق فيقول: "تنطبق شواهد كثيرة بأن "زقاق المدق" كان من تحف العهود الغابرة، وأنه تألق يوماً فى تاريخ القاهرة المعزية كالكوكب الدرى. أى قاهرة أعنى؟ الفاطمية؟.. المماليك؟.. السلاطين؟.. علم ذلك عند الله وعند علماء الآثار، ولكنه على أية حال أثر، وأثر نفيس.. كيف لا وطريقه المبلط بصفائح الحجارة ينحدر مباشرة إلى الصناديقية، تلك العطفة التاريخية، وقهوته المعروفة بقهوة "كرشة" تزدان جدرانها بتهاويل الأرابيسك، هذا القدم باد، وتهدم وتخلخل، وروائح قوية من طب الزمان القديم الذى صار مع مرور الزمن عطارة اليوم والغد". كل هذا الوصف الدقيق للزقاق جعل لدينا رغبة شديدة فى الذهاب للزقاق لمحاولة مطابقة الأحداث وشخصيات الرواية على واقع المكان، وفى الحقيقة عند دخولى لزقاق المدق شعرت وكأننى رأيته من قبل، فتجد الزقاق الضيق والحوانيت على جوانبه كما بالرواية، والفيلم بالضبط حتى مكان القهوة الشهيرة التى كان يجلس عليها الأبطال بالفيلم، لم يكن ينقصنا إلا أن نرى "حميدة" بطلة الرواية وهى تطل علينا من النافذة. أول ما بدأنا توجهت لشارع المعز قرب منطقة الحسين ومنه دخلت لشارع الصناديقية، والذى عرفت من أهل المنطقة وهم ناس بسطاء الحال أن سبب تسميته بهذا الاسم أنه كانت تصنع به الصناديق الخاصة بالعروس.. وشارع الصناديقية هو شارع على جنباته توجد محلات العطارة وهو متوسط الطول على بعد خطوات قليلة من بداية الشارع على يساره دخلت لزقاق المدق، وأول ما دخلت إليه تذكرت وصف أديبنا الكبير نجيب محفوظ وهو يقول: "وروائح قوية من طب الزمان القديم الذى صار مع مرور الزمن عطارة اليوم والغد"، فبالفعل أول ما تدخل زقاق المدق بل من شارع الصناديقية نفسه تبدأ فى استنشاق هذه الرائحة الذكية.. ولقد وجدت الزقاق على نفس وصف الرواية حيث جاء بالرواية "آذنت الشمس بالمغيب، والتف زقاق المدق فى غلالة سمراء من شفق الغروب، زاد من سمرتها عمقاً أنه منحصر بين جدران ثلاثة كالمصيدة، له باب على الصناديقية، ثم يصعد صعوداً فى غير انتظام، تحف بجانب منه دكان وقهوة وفرن ويحف بالجانب الآخر دكان ووكالة، ثم ينتهى سريعاً كما انتهى مجده الغابر ببيتين متلاصقين يتكون كلاهما من طوابق ثلاثة".. وبالفعل هذا ما وجدته، فالزقاق عبارة عن طريق ضيق على يمينه مقهى كرشة وهو مازال مفتوحا إلى الآن، ولكن اسمه الحقيقى "قهوة زقاق المدق" ويليه الفرن ولكنه مغلق وأمام القهوة يوجد بيت قديم من ثلاثة طوابق وهو البيت الذى كانت حميدة أو الفنانة "شادية" تطل من نافذته على القهوة، وعلى يسار الزقاق نجد "صالون الحلو" وهو دكان صغير كما بالرواية، ولكنه أيضاً مغلق وقد تحول لمخزن وأمامه توجد "دكة خشبية"، ولقد سارع أهل الزقاق بقولهم عنها "هنا كان بيقعد الأستاذ نجيب محفوظ"، أما فى واجهة الزقاق فتوجد الوكالة وهى مازالت مفتوحة تباع فيها العطارة..وكما جاء فى الرواية، فإن الزقاق يصعد صعوداً فى غير انتظام بدرجات من السلالم، ثم ينتهى سريعاً ببيتين متلاصقين من ثلاثة طوابق قد تحولا الآن لمخازن ومحال. بعد تجولى بالزقاق كان لابد من الحديث مع أهله لنعيش أكثر حياة ذلك المكان، كان أول حديثنا مع الحاج "محمد على إبراهيم"- 16 سنة- وهو من أهل الزقاق يرتدى جلبابا وعمامة وهو صاحب الوكالة حيث يقول: "الزقاق ده زمان كانت أرضيته من الحجارة القديمة مش بلاط زى دلوقتى، وفى الحقيقة هو زى ما وصفه نجيب محفوظ". وعن شخصيات الرواية ومدى مطابقتها للواقع يقول: "هو فعلاً كان فيه صاحب قهوة وفران وصالون حلاقة وبتاع بسبوسة اللى كان بيعمل الكوبيبة الشامى والبسبوسة، أصلاً هو كان من بلد فى الشام اسمها "حماه" علشان كده كان بيعمل الأكلات والحلويات الشامية، بس هو كان بيصنعها فى البيت ده اللى كان ساكن فيه- ويشير لأحد بيوت الزقاق- وبعد كده يطلع يفرش فى شارع الصناديقية ولسه حفيده موجود لحد دلوقتى". زقاق المدق بالمكسيكى بعد حديثى مع الحاج "محمد" دخلت للقهوة وهى مقهى صغير معلق فى واجهته صورة صاحب المقهى الحاج "على يوسف" وعن يمينها نجد صورة الأديب "نجيب محفوظ" وإلى جوارها برواز يحتوى على تصريح إنشاء المقهى باللغتين العربية والإنجليزية والذى يرجع تاريخه لعام 4091م أى فى عهد الخديو "عباس حلمى الثانى"، وبالمقهى نجد بقايا الأرابيسك الذى تحدثت عنه متمثلا فى صندوقين من الأرابيسك المرصع بالعاج معلقين واحد إلى اليمين والآخر إلى اليسار. بدخولى للمقهى تحدثت إلى صاحب المقهى "عبدالجليل عبده على يوسف"- 94 سنة- وهو رجل بسيط يرتدى قميصا وبنطلونا يحرص على وجود الرواية بالمقهى يقول "القهوة دى مفتوحة من زمان، وأنا أصلاً شغلتى مش قهوجى أنا تاجر رخام وأخويا عضو مجلس شعب عن منطقة الدرب الأحمر، وأخويا التانى مهندس ديكور، بس بيصعب عليا أشوف القهوة مقفولة كل ما أقفلها أرجع أفتحها تانى، وعلى فكرة القهوة ديه غير أنها طلعت فى فيلم زقاق المدق طلعت فى فيلم أجنبى بردو بيتكلم عن الزقاق - وهو بالطبع يشير للفيلم المكسيكى "زقاق المعجزات" المقتبس عن رواية "زقاق المدق" والذى قامت ببطولته "سلمى حايك"، ويعد هذا الدور بالنسبة لها بوابة دخولها للسينما العالمية. حميدة وزقاق العدم وعلى الرغم من أن "زقاق المدق" المكان هو البطل الحقيقى للرواية إلا أن شخصية "حميدة" هى الحدث الرئيسى للرواية، فيها تبدأ الأحداث فى النمو والتصاعد الدرامى وبها انتهت الرواية. وشخصية "حميدة" فى زقاق المدق والتى جسدتها الفنانة المعتزلة "شادية" فى فيلم يحمل نفس عنوان الرواية، تمثل فتاة لقيطة تعيش فى الزقاق مع "خاطبة الحارة" أم حميدة كابنتها بالتبنى، وهى فتاة جميلة ولكنها متمردة على واقعها الذى تعيشه تنظر للزقاق نظرة دونية وتطلق عليه "زقاق العدم" فهى تطمح للمال والمكانة الاجتماعية مما يجعلها تضحى بخطيبها "عباس الحلو" طمعاً فى مال صاحب الوكالة وعن شخصية "حميدة" يذكر الكاتب "حسين على محمد حسنين" فى نقده للرواية أنها شخصية تتطلع إلى الدنيا بعين الحرمان وتندفع إليها بقوة بقلب يفيض بالرغبة فى الحياة والثراء دون قيود داخلية، ولقد تركت الزقاق "كما فعل حسين كرشة" لتنحدر إلى هاوية الشهوات من أجل المال والرغبة فى الثراء . حميدة تجسيد حى لواقع كانت تعيشه مصر أما الدكتورة "فوزية العشماوى" فى كتابها "المرأة فى أدب نجيب محفوظ" فتقول إن شخصية "حميدة" تمثل المرأة الوحيدة الخارجة عن تقاليد الزقاق وتشرد بعيداً عن قطاع كل النساء العاملات وقد جعل محفوظ من "حميدة" المرأة التى تعكس الصراع الدائر داخل نفوس أهل الزقاق داخل حميدة نفسها، فنجد حميدة تبحث خارج الزقاق عما يحقق لها ما تصبو إليه من معيشة ميسرة وعيشة هنية وملابس جميلة غالية وزوج يرتدى البدلة الأوروبية وليس الجلباب البلدى مثل أهل الزقاق وتسقط "حميدة" فى براثن ذئب بشرى، استدرجها بكلامه المعسول، فانحرفت بذلك حميدة عن الطريق القويم، عن مبادئ وأخلاقيات الزقاق.