إن استقراء المشهد السياسي في مصر الآن، ليوحي لنا بأننا في حالة تخبط واحتقان واستقطاب سياسي، ما قلص من فعالية عملية صنع القرار وعمق من المشاكل السياسية، وألقى بظلاله على الاقتصاد المصري، حيث عودة التراجع في رصيد الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي، ليفقد هذا الاحتياطي نحو 500 مليون دولار خلال نوفمبر 2012 م ويصل عند حدود 15.035 مليار دولار لا تغطي واردات أكثر من ثلاثة أشهر قادمة. هذا علاوة علي معاناة مصر مبدئيا في العام المالي 2012 – 2013 م بنحو 27,5 مليار دولار، مع تراجع التصنيف الائتماني لمصر إلي (( B – من B )) وذلك وفقا لتقديرات وكالة ستاندرد أندربورز للتصنيف الائتماني, مع احتمالات لتدهورات اقتصادية آخري مثل انخفاض الاحتياطيات الأجنبية وتدهور سعر الجنية المصري أمام الدولار الأمريكي و عجز الميزانية. و من هنا فلا عجب أن نرى المؤسسات الدولية المالية وفي مقدمتها البنك المركزي الأوربي وصندوق النقد الدولي والبنك الألماني للإنشاء والتعمير ومؤسسة المساعدات الخارجية اليابانية ( الجايكا )، تربط إتمام مساعداتها وقروضها لمساعدة الاقتصاد المصري، بحدوث استقرار سياسي بالبلاد، وإتمام عملية التحول الديمقراطي. وأيضا وقف انتهاكات حقوق الإنسان ودعم التعددية وإلغاء القيود على الحريات في مشروع الدستور الجديد، علاوة علي ربط بعض البلدان مساعداتها لمصر على إتمام الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وإقراض مصر ب 4,8 مليار دولار و هو الذي تم تأجيله لمدة شهر بعد جولات الحوار الأخيرة مع وفد صندوق النقد الدولي. وهنا تكمن أهمية استكمال الخطوات السياسية، وإتمام عملية التحول الديمقراطي والقضاء على حالة الانقسام الحادة في الشارع المصري إزاء الدستور الجديد، وخلق حالة من التوافق الوطني والمصالحة الحقيقية بين كافة الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، للقضاء على حدة التوترات السياسية والاجتماعية في المجتمع المصري، وتزكية القدرة السيادية للدولة على الوفاء بالتزاماتها المالية على نحو مستديم، وتحصين الاقتصاد المصري ضد الصدمات الاقتصادية و السياسية. لأن ذلك سيؤدى إلي كسب ثقة الجهات المانحة والمؤسسات المالية الدولية المقرضة، ومواصلة دعم الحكومة وأولها الحصول علي قرض صندوق النقد الدولي، والبالغ قيمته 4.8 مليار دولار للخروج من الأزمة الراهنة، واستعادة التعافي الاقتصادي ولتكن البداية هي المبادرة من جانب السلطة الحاكمة، بتهيئة الأجواء المناسبة للحوار الوطني، وطمأنة المعارضة الذي تثير بداخلهم مخاوف و هواجس سياسية لاسيما فيما يتعلق بالدستور الجديد وقانون الانتخابات و تمكين المرأة و احترام واستقلال القضاء والمواطنة، لإسقاط الحجج و المبررات لكل من يرفضون الحوار الوطني، وإقامة حالة من التوافق تمهيدا لحراك سياسي فاعل، لاستكمال مؤسسات الدولة وهيئاتها وتحقيق نهضة شاملة. إن أسلم السيناريوهات وأكثرها أمنا و اقلها تكلفة لوضع حد للانهيار المستمر، هو الحوار الوطني الجاد و الفاعل، مع توفير ضمانات قانونية وقضائية وسياسية للانتخابات النيابية القادمة، والاعتراف بحرية الإعلام ووقف حملات الإرهاب الفكري و الشحن الطائفي، مع تهذيب الدور التشريعي لمجلس الشورى لحين انتخابات مجلس النواب القادم والكف عن نظر بعض القوانين المتعلقة بحق التظاهر والتعبير، والتي قد تمثل عقبة أمام الحوار الوطني والمصالحة الوطنية. فبالحوار الوطني الفاعل ومرونة المعارضة وعقلنة السلطة الحاكمة واحترام استقلال القضاء باعتباره ضمانه لاستمرار الدولة وهيبتها والاعتراف بحرية الإعلام، وتحقيق مبدأ المواطنة والوحدة الوطنية وإصدار قانون انتخابات متزن ورشيد، وتقييد الدور التشريعي لمجلس الشورى. وتعتبر هذه صكوكا سياسية لتفعيل الدور الاقتصادي و الاجتماعي لمصر تحظى بقبول شعبي و تأييد دولي وثقة المؤسسات الدولية المانحة لمساعدة مصر على التعافي اقتصاديا، ولاستعادة مصر لدورها الإقليمي والدولي الذي يليق بمكانتها و حضارتها المرموقة و المتفردة. وفي النهاية لابد من التأكيد على أنه لا يوجد تغيير أو نهضة بلا ثمن، ولا إنجاز بلا أسباب وتضحيات على الجميع أن يدفع فاتوراتها من أجل أن تحيا مصر للأبد وللجميع.