زفراتها الحادة تكاد تنسج سحابة خانقة من ملل الانتظار, في سأم ترقب ساعتها, تجوب عيناها المكان حولها. تتفرس الوجوه دون ان تستقر عيناها علي تلك الملامح التي تودها, تعرف أنها أخطأت حيت قررت القدوم بمفردها, عليها الآن ان تحكم أعصابها وألا تفلت منها, نعم عرض عليها ان يصطحبها ولكنها اختارت ان تلحق به. طالت وقفتها... الالسنة الضالة بدأت في الكلام, تقترب خطوات خلفها, في سرعة تلتفت لم يكن هو. ترقبها الأعين في فضول مصحوب بالرغبة( فتاة بمفردها أمام السينما ماذا عساهم ان يفكروا!) هكذا حدثتها نفسها: هل تعود الآن تعاود النظر في ساعتها, لم يبق الكثير علي بدء الفيلم, تعاود الاتصال علي هاتفه( غير متاح) تلك الجملة الخانقة جعلتها تلقي بهاتفها في الحقيبة في عصبية( إيه مش بيرد, ماقلنالك إحنا في الخدمة) يرد آخر عليه( والله حرام الجمال ده يستني كده) اي مأزق هذا الذي وضعت نفسها فيه, واقترب احدهم نحوها, كانت جرعات الأدرينالين في دمها قد فاقت الحد جرت نحو باب الدخول( ربما علي الدخول, هذا أفضل من همساتهم الضالة) فكرت في الرجوع ولكن هل تأتمن نفسها بداخل عربة بمفردها وماذا عن التذكرة التي حجزها لها, نفضت الفكرة وأقدمت علي الدخول. في الصالة تجلس تعرف ان العرض بدأ وهاتفه اللعين يردد نفس إجابته الصامتة نظرة أخيرة للمقاعد الخاوية حولها أقنعتها بدخول صالة العرض لحين وصوله, تعلم أنها لن تتمالك نفسها حين تراه وانها ستصب وابل غضبها عليه ولكن فقط حين يأتي. صحبها الموظف المسئول الي مقعدها تحت إضاءة كشافه الخافت في هدوء مصطنع عدلت المقعد وجلست: للحظة شعرت بوخزة خفية تحتها, وقفت لتعرف ما السبب ولكن طلب بنبرة حادة من ذلك الجالس خلفها أقنعها بأن تجلس وتؤجل ذلك لما بعد وان سرح فكرها قليلا في تلك الوخزة: هل يمكن ان تكون دبوس غرس من احدهم أم أنها حشرة, لا ولكنها لم تشعر بها ثانية. تاهت من أفكارها حين شعرت بيد تحسس الظلام حولها حتي وصلت إليها, كادت تصرخ من الفزع لو لا أنها تبينت ملامحه تحت إضاءة الفيلم الباهتة: في هدوء سألها ان كانت قد انتظرت طويلا, في البداية لم تجب ولكن بركان الغضب داخلها رفض ان تخمده أكثر من ذلك, في حدة أخبرته أنها انتظرته طويلا وانه غير مسئول ولولا أنها دخلت لما عرفت ماكان يحدث وان... نفس النبرة الحادة ألزمتها الصمت, حينها أدركت ان صوتها كان عاليا.. حاولت تجاهله بعد ذلك الاحراج الذي لاقته والذي كان هو السبب فيه. حاول تهدئتها ولكنها سحبت يدها في حدة, تناولها ثانية في لطف وقبلها, اصطنعت اللامبالاة وأطلقت زفرة حادة طويلة نفثت بها بعضا من غضبها, هدأت قليلا حين شعرت بيده تلتف حول كتفها وتربته في حنان وأنفاسه الهادئة تبعث الدفء والأمان بعد ذلك التوتر الذي عانته.. تحول غضبها الي عتاب هامس, اخبرها بانه تأخر في تسليم التصميمات. منذ خطبتنا ولم تلتزم بموعد واحد لقد سئمت من تصرفاتك تلك, أنت.. وضع يده في فمها ليسكتها وأشار لذلك الجالس خلفها, نظرة واحدة إليه اجبرتها علي الضحك وذلك الانهماك اللامتناهي المرتسم علي وجهه يجعلك تظن انه ربما احد أبطال الفيلم. مر الوقت في هدوء وقفت بعد ان همست له أنها ستذهب الي الحمام, حاول اصطحابها ولكنها رفضت وأخبرته بأنها لن تتأخر. وقفت فسمعت شيئا يرتطم بالأرض, لم تميزه في ظلام القاعة, التقطته في عجلة ظنا منها انه ربما وقع من حقيبتها. طال الوقت وهو ينتظرها, في البداية بدأ القلق يتسرب إليه ولكنه يعرف عندها, هل ترد إليه فعلته؟ ربما أثارت قلقه وخوفه وانتظاره... ابتسم حين راوده ذلك الهاجس تمطي في كرسيه قرر تجاهلها وتصنع البرود ليفوت عليها الفرصة. رمقها بنظره جانبيه حين عادت دون اي اهتمام وكأنه حتي لم يلاحظ تأخرها.. جلست في هدوء علي مقعدها, مد يده إليها وتناول يدها وجدها مجمدة, احتضنها بين يده محاولا تدفئتا, اردت اخافتي بتأخرك أليس كذلك؟! آه من عنادك. * لم تجبه, مال قليلا الي الأمام ناظرا الي وجهها, كان خاليا من اي تعبيرات فقط عيناها مثبتتان علي الشاشة الكبيرة إمامها, ضحك, ربما تضايقت لم يبال بتأخرها. اشتدت الاحداث وازداد انفعاله وترقبه. * أرأيت هي من زورت الأوراق, اخر مايمكن ان أتوقعه انت... نظر إليها فوجد وجهها شاحبا وعيناها يملؤها الخوف, مابك؟ قبل ان تجيبه أضاءت الصالة وكانت الاستراحة, سحبها من يدها ليخرجا ليشربا شيئا, في لاوعي قامت معه, حانت منها التفاته الي مقعدها الذي تركته للتو, نظر معها لم ير شيئا.. سألها ان كانت فقدت شيئا فهزت رأسها بالنفي خرجت معه دون ان تحيد بنظرها عن المقعد. في تلك الاستراحة جلسا, سألها عما تريد ان تشرب, لم تجبه فقط نظرة ساهمة علي وجهها جعلت القلق يشتعل بداخله, اقترب منها يسألها عما بها, رفع وجهها إليه فرأي الدموع تتسارع في مقلتها. هل ضايقك احد؟ ماذا حدث, تاهت عيناها في وجهه قليلا وفجأة جرت نحو صالة عرض الفيلم, لحق بها دون ان يفهم شيئا من تصرفاتها, أخذت تقلب وتعدل في مقعدها وتنظر خلفه وتحته وهو لايعرف عما تبحث, حاول ان يرفعها ليمنعها, نزعت ذراعها من يده واستمرت في بحثها والكل يرمقها في فضول وعدم فهم وأخيرا وجدت ورقة صغيرة مطوية بعناية, فتحتها في نفاد صبر, ثوان ولم تتمالك قواها وألقت بجسدها علي ذلك المقعد, جلس الي جوارها محاولا فهم تصرفتها العجيبة تلك العديد من الأسئلة لم تلق اي جواب, لحظات وأظلمت القاعة وعاد الكل الي مقاعده وذاب الفضول في الظالم ولكن قلقه وحده لم يزل, قبل ان يتفوه بأي شر, انطلقت تجري.. بالكاد لحق بها علي باب السينما. امسكها في عنف تلك المرة مصر ان يفهم تصرفاتها, وسط دموعها, أصرت علي ان يعيدها الي البيت, توسلت إليه وكادت تركع تحت قدميه لو لا انه رفعها في ذهول تام وعدم فهم. اشار الي أول تاكسي وانطلق بهما, طوال الطريق وهو يحاول تهدئتها دون جدوي في البيت كانت والدتها في عجب فموعد الفيلم لم ينته ولكن نظرةالي وجه ابنتها زرعت القلق في عينيها, لم يملك اجابة يطفئ بها نيران خوفها, في هدوء طلب منها ان تحضر لهما كوبين من الشاي وانه ربما يستطيع تهدئتها. ظلت في نحيبها دون ان يستطيع احد ان يوقفها, حاول ان يخمن اي دوامة من الخوف اجتذبتها: ثقي بي, جربي ربما لدي حل للمشكلة, انني احبك, اخبريني فقط ما بك ودعي الباقي لي, فقط اعطيني فرصة لأفهم. اقترب منها وجفف دموعها... بدأ نحيبها في الهدوء وتمالكت بعضا من نفسها التائهة, في خوف فتحت حقيبتها وأعطته الورقة التي وجدتها تحت المقعد وهي تنظر إليه مترقبة( الإبرة كانت ملوثة.. أهلا بك في عالم الايدز مع تحياتي) وضع الورق جانبا ناظرا إليها مستفهما, في البداية ظن انها مزحة ثقيلة فقط لإخافتها ولكنها فتحت حقيبتها ثانية وبيد مرتجفة التقطت إبرة صغيرة ووضعتها أمامه وأخبرته عن تلك الوخزة التي شعرت بها وتجاهلتها في بادئ الأمر حتي ذهبت الي الحمام ورأت الابرة التي وقعت مع وقوفها وأحدثت ذلك الصوت. انتبها الي ارتطام أكواب الشاي علي الأرض, كانت والدتها علي الباب... تناولت الورقة, في خوف تعثرت كلماتها وارتطمت أفكرها, حاول تهدئتها, اخبرها بانه ربما احد أراد إخافتها, فألقي بالابرة والورقة, ارتاحت والدتها الي هذ التفسير ولكنها لم تقتنع, إها حقا شهرت بالوخزة.. لم يكن هو اقل خوفا منها ولكنه لم يملك سوي ان يقنعها برأيه وان كان عقله يبحث شيئا آخر. أصرت علي ان تذهب لإجراء التحاليل. حاول منعها ولكن إصرارها كان منطقيا فالصراع النفسي الذي تعانيه كان فوق احتمالها. ساد صمت قاتل بينهما طوال الطريق, تتلاعب به أفكار عدة, كان مخططا أن يتزوجا بعد عدة شهور, ماذا سيحدث لمصيرهما الآن!! بدا التوتر يبدو في حركة رجليه التي لاحظتها.. امل واحد كانت تنتظره في اللحظات القادمة لتنتهي كل آلامها وتفيق من هذا الكابوس. رغم ان الطبيب اخبرهم بان فترة حضانة المرض من ستة أشهر الي عدة أعوام الا انه لم يمض سوي ثلاث أشهر وبدا الكابوس يتجسد ويحارب جسدها الهزيل واختفي آخر أمالها في النجاة.