ثمة تحديات اقتصادية هائلة تتربص حاليا بصناعة الصحافة في الدول المتقدمة علي وجه الخصوص يأتي في مقدمتها: الارتفاع الصاروخي في أسعار الصحف. وركود المبيعات, وتهاوي عائدات الإعلانات خاصة الإعلانات المبوبة منها, ناهيك عن تقلص هائل في توزيع الصحف. وفي البلدان الغربية علي وجه التحديد ارتفع عدد الصحف التي قررت التوقف عن الصدور أو أفلست أو منيت بنكسات حادة ارتفاعا لافتا خاصة في الولاياتالمتحدة, حيث خسر عشرون في المائة من الصحفيين وظائفهم في الصحف والمجلات في هذه الدولة الي تعد أحد أكبر معاقل الصحف العالمية الكبري في العالم ان لم يكن أكبرها علي الاطلاق, وذلك منذ عام2001 حتي الآن. كما هوت عائدات المؤسسات الصحفية, جراء المنافسة الشرسة التي تواجهها الصحف من جانب ما يعرف ب النيو ميديا أو الإعلام الجديد. ثم جاءت الأزمة المالية العالمية لتنال أكثر فأكثر من عائدات الصحف, بما في ذلك عائداتها من مواقعها علي شبكة الإنترنت. ثم من قال إن الأمر برمته لا يعدو أن يكون مجرد دورة اقتصادية تمر بها صناعة الصحف, لأن تاريخ وسائل الإعلام حسبما يقول كثيرون يؤكد دوما أن وسائل الإعلام الجماهيري يكمل بعضها البعض ولا يمكن لواحدة منها أن تحل محل أخري. فالراديو عندما ظهر لم يقض علي الصحف, كما أن ظهور التليفزيون لم يقض علي الراديو أو الصحافة المكتوبة. لكن في المقابل, هناك من يتساءل عما إذا كان ما يعرف ب الإعلام الجديد قد جعل الصحافة المكتوبة أمرا عتيق الطراز, قد يطويه التاريخ عما قريب جدا( البعض يعتقد أن أكثر من نصف الصحف اليومية البالغ عددها نحو1440 صحيفة في الولاياتالمتحدة سيختفي خلال فترة ما بين خمس وثماني سنوات). أمثلة علي الأزمة فمنذ عام2009 شهدت الولاياتالمتحدة ما يمكن وصفه بمأساة كبري في عالم صناعة الصحافة, جرت خلالها تصفية أو بيع أو توقف العديد من الصحف عن الصدور أو اضطرار صحفيين إلي تقديم تنازلات كبيرة كي يتواصل صدور صحفهم أو التوقف عن إصدار أعداد يومية أو قيام صحف بطرح نفسها للبيع بأسعار بدت بخسة في بعض الأحيان ومن بين الصحف التي تعرضت لهذه النوعية من المآسي المالية: TheRockyMountainNews TheSeattlePost-Intelligencer TheSanFranciscoChronicle,TheDetroitFreePress TheDetroitNews TucsonCitizen TheSanDiegoUnion-Tribune ( وتجدر الإشارة إلي أن هذه الصحيفة بيعت بنحو خمسين ميلون دولار فقط برغم أن ثمة من كان يقدر قيمتها بنحو مليار دولار), SunTimesMediaGroup ومن بين الصحف الكبري التي رفعت دعوي من أجل إشهار أفلاسها منذ عام2008 في أمريكا صحف: TribuneCompany JournalRegisterCompany MinneapolisStarTribune PhiladelphiaNewspapersLLC SUn-TimesMediaGroup FreedomCommunications حتي بعض الصحف الكبري التي اشترت صحفا من باب الرغبة في الاندماج معها شهدت تراجعا في قيمة اسهمها في البورصة. فعلي سبيل المثال اشترت شركةMcClatchyCompany وهي ثالث أكبر شركة نشر صحفي في الولاياتالمتحدة سلسلة صحفKnight-Ridder وذلك في عام ألفين وخمسة بمبلغ فلكي بلغ ستة مليارات ونصف المليار دولار إلا أن الذي حدث بعد ذلك هو أن اسهم شركةMcClatchy هوي بنسبة ثمانية وتسعين في المائة وبالطبع فقد دفع هذا الأمر شركةMcClatchy إلي ان تقوم بعملية تسريح هائلة للصحفيين وإلي تخفيض رواتب مديريها التنفيذيين. وبرغم أنه يجري شطب أسهم هذه الشركة الصحفية من تعاملات بورصة نيويورك إلا أنه خلال عامي ألفين وثمانية وألفين وتسعة جري شطب أسهم ثلاث سلاسل صحف في هذه البورصة العملاقة. الصمود لكن هذا لا يمنع أن هناك صحفا كبري في الولاياتالمتحدة وبريطانيا استطاعت الصمود في وجه هذه العاصفة. فعلي سبيل المثال تمكنت الشركة المالكة لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية من الحفاظ بشكل أفضل علي قيمة اسهمها بفضل تنويع انشطتها بعيدا عن النشر, وفي مجالات مثل التدريب والتعليم, وهو نفس الشيء الذي فعلته شركة النشر البريطانية. PearsonPLC المالكة لصحيفةTheFINANCIALTIMES حتي صحيفة نيويورك تايمز التي تأسست في منتصف القرن التاسع عشر التي تعد من أرقي صحف الصفوة في العالم بأسره لم تفلت من هذه العاصفة. فقد عانت هذه الصحيفة الذائعة الصيت من أزمة سيولة حادة, وهوت أسعار أسهمها إلي ما دون خمسة دولارات للسهم الواحد, واضطرت إلي بيع جزء من مقرها الرئيسي وباعت اسهمها الممتازة إلي الملياردير كارلوس سليم حلو اللبناني الأصل, ومازالت الصحيفة تعاني من متاعب مالية حتي الآن. ونفس الكلام ينسحب بشكل أو بآخر علي مؤسسةNewsCorp الإعلامية التي يمتلكها قطب الإعلام العالمي روبرت ميردوخ. تدخل النخبة لكن النخبة السياسية الأمريكية لم تقف عاجزة وهي تري بأم عينها السلطة الرابعة وهي تتدهور سريعا بهذا الشكل, إذ تقدم نائب في مجلس الشيوخ الأمريكي بمشروع قانون يقضي بتسهيل عمليات إعادة هيكلة الصحف والتعامل معها عند أزماتها بوصفها مؤسسات غير هادفة للربح ومنحها الكثير من الإعفاءات الضريبية تقديرا لدورها البناء في خدمة المجتمع. إلا أن ثمة مفارقة كبري في هذا الصدد تتمثل في أن كبار كتاب الصحف أصبحوا من أكبر المستفيدين من الثورة الإعلامية علي شبكة الإنترنت. فقد اتاح التقدم المذهل في برامج تصفح الشبكة العنكبوتية إمكانية البحث السريع عن مقالات هؤلاء الكتاب وهو الأمر الذي غير من عادات القراء. بمعني أن قارئ اليوم اصبح يميل بشكل مضطرد إلي البحث عن مقالات كاتب بعينه أو مدونة بعينها أكثر من رغبته في البحث أو الدخول علي موقع اخباري علي وجه التحديد. ولعل هذا مادفع البعض إلي الحديث عما يصفونه بالانتقال التدريجي لسلطة الرأي والإعلام من الصحف والمواقع الاخبارية إلي الكتاب أصحاب الرأي إلا أن هذا كله لايعني أنه لا توجد قصص نجاح صحفية البتة, فهناك صحف تمكنت من تحقيق نجاحات كبري في الغرب, وهو ما يدعونا في هذا المجال إلي التذكير بصعود نجم ظاهرة الصحف اليومية المجانية علي سبيل المثال كما هو الحال بالنسبة لصحيفةMetroInternational في السويد. ويبلغ متوسط هامش الربح في صناعة الصحف الأمريكية11 في المائة إلا أن هذا الهامش يتراجع سريعا الآن كما أن هذا الهامش صار لا يكفي لسداد مديونيات هذه الصحف مع تراجع التوزيع وهبوط العائدات بنسبة تفوق العشرين في المائة, ناهيك عن تقلص عادة قراءة الصحف لدي الاجيال الجديدة(20 في المائة فقط من الشباب في أمريكا لديهم عادة قراءة الصحف اليومية في نسخها الورقية مقارنة مقارنة مع نسبة تبلغ سبعين في المائة بالنسبة لكبار السن). أحزمة التقشف وكان من الطبيعي أن تعمد الصحف في الولاياتالمتحدة وفي غيرها من الدول المتقدمة إلي شد أحزمة التقشف وذلك بتقليص عدد مكاتبها في الخارج وتسريح جانب من قوتها الصحفية وتخفيض رواتب مدرائها. وقد كانت الصحف المالية الكبري مثل صحيفةTheWallStreetJournal هي فقط تقريبا التي حققت نجاحا لافتا في تجربة جعل الدخول علي جانب من خدماتها علي الإنترنت مقابل رسوم محددة وذلك لان نسبة هائلة من المشتركين هم من العاملين في الشركات والمؤسسات المالية الكبري الغنية, وفيما عدا ذلك فإن خطط الصحف العادية في هذا الإطار مازالت متعثرة. بل وأخذت هذه الصحف في الحد من الانفاق علي الانفرادات الصحفية الاستقصائية التي عادة ما تكلف الصحف مبالغ طائلة. ومن الطريف الذي يذكر في هذه النقطة بالذات ان بعض الصحف الكبري شرعت في الاعتماد علي منظمات غير هادفة للربح لتمويل هذه التحقيقات الصحفية الاستقصائية تحت اشرافها ليتم نشرها بعد ذلك في هذه الصحف. مواجهة الاحتكارات ولعل تفاقم هذه الأزمة دفع الاتحاد الدولي للصحفيين إلي المطالبة بحتمية التصدي لاحتكار شركات الإعلام الجديد مثل: جوجل, وياهو لنصيب الأسد من حصيلة الإعلانات علي شبكة الإنترنت برغم الاستفادة الكبري التي تحققها هذه الشركات من مواقع الجرائد علي الشبكة العنكبوتية. لكن هذا كله لم يمنع ناشر صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية من أن يعلن جهارا نهارا أنه سيضطر يوما ما للتوقف عن طباعة هذه الصحيفة التي تعد واحدة من أشهر صحف العالم. غير أن آخرين يؤكدون حتمية ألا تنظر الصحف الكبري للإنترنت علي انها عدو لها بل عليها أن تحتضن هذه الشبكة العنكبوتية وأن تستغل مصداقيتها وتاريخها واسمها الراسخ في لعبة عالم الإعلام الجديد خاصة ان المصداقية تعد احدي أهم نقاط الضعف التي يعانيها المضمون الخبري علي شكبة الإنترنت.