دخل الفصل في هدوء دون أن ينظر له احد, هاله أعداد التلاميذ البائسين المتكدسين علي المقاعد البالية وفي حالة من الانسجام تلاقت نظراتهم البريئة لتغطي علي البؤس الطافح في ملابسهم المهترئة, وراحوا يتبادلون كلمات التعارف فاليوم هو الاول في السنة الدراسية. تحرك وسط المقاعد المرصوفة متأملا المكان في اقتضاب, يجول بصره فيما حوله متلمسا لنفسة مقعدا خاليا, وفي حركة وئيدة يتجة نحو مقعد حديدي بدون مسند خشبي. يضع حقيبته جانبه, ويستند بظهرة إلي الحائط يلاحظ بعض النظرات التائهة التي تمرق نحوه من بعض التلاميذ الذين لم ينخرطوا في الرغي اليومي لا لأنهم لايهوون الرغي ولكن لان الوقت لم يجود عليهم بمؤانسة الاصدقاء. حالة من الضجيج والحركة الدائمة في ارجاء الفصل فهناك من ينظف السبورة بعد ان اصابها غيره بالكتابة, وهناك من يختبر عضلاته في التنكيل بزملائه وهناك من يغازل فتاة من شرفة الفصل المطلة علي احدي العمائر السكنية, فالكل بما يهوي يفعل. يتابع كل ذلك في صمت. ولم يطل الصمت فأخرج من حقيبته لعبة تسمي المتاهة داخل إطار من البلاستيك وخلف شاشة من الزجاج تقف عربة في أول الطريق وطرق كثيرة متداخلة يجب اختراقها وصولا إلي جراج في آخر الطريق. يضغط علي زر التشغيل, تتحرك السيارة في محاولة لحل لغز المتاهة, وفي لحظات التف حولة التلاميذ واحدا تلو الاخر في شكل يستحيل معه رؤية صاحب اللعبة. ومني كل واحد نفسة بأن يجود علية بفرصة للعب. مر الوقت.. وانقضت بعض الحصص اليومية, وتحول صاحب اللعبة لمركز جتاذبية تلاميذ الفصل, وامسي مقعده محل عراك من حوله, واشتدت المنافسة بينهم في محاولة للوصول إلي آخر المتاهة وحل لغزه, واعلن هو في لهجة ناعمة ممزوجة بشيء من التحفيز والابهار: لماذا يكون اقصي طموحكم محاولة للعب اذا كان بالامكان ان يمتلك كل واحد منكم لعبة. اصاب حديثه الجميع بالدهشة, فمنهم من لم يقتنع ونعتوه بالجنون واطلقوا عليه صاحب البوق الفارغ ومنهم من أمن علي حديثه باعتبار ان في لغزه ولعبته واسلوبة مايجعله قادرا علي الابهار وصنع الجديد ولم يطل عليهم حالة اللغط والهمس الجانبي فأخرج من حافظة جلدية انيقة جذبت ابصارهم ورقة من فئة المائة جنيه, ظهر بريقها في عيونهم ثم تحدث في نفس لهجته الناعمة: وهذه أول مساعدة نحو شراء لعبة لكل فرد: ثم وضعها داخل صندوق خشبي محكم الغلق فيما عدا فتحة شقت في اعلاه واندفعت علي اثار حديثة الحمية في صدورهم, وتصارعوا نحو اخراج ما في جيوبهم ليضعوه داخل الصندوق الخشبي بعد ان استغشت الورقة النقدية عقولهم. واحتدم العراك من جديد ولم يبرح التلاميذ مكانهم حوله إلا تحت ضغط حضور المدرسين لإلقاء الدروس اليومية. مر الوقت.. وتحول الطالب إلي مطلوب وأمل يتطلب السعي. وأمسي كعصا سحرية قادرة علي سحرهم والتحكم في مصائرهم, فقد استغرق عقولهم وأموالهم داخل متاهته وزاد من تعلقهم بها. دخلت سيدة عجوز الفصل تتلفع بملابس مهلهلة تبيع الحلوي والسندوتشات التي تفوح رائحتها فتذهب رائحة كل واقع مليء بالفقر ويبقي أثرها في النفس, ومقبلات بأسعار فوق احتمال التلاميذ, فابتاع كل ماتملك فلمعت الدهشة في حدقاتهم, وفي التو قرر أن يجود عليهم بما ابتاع, فانغمسوا أكثر فأكثر داخل لعبته وتساءل بعض الناقمين عن منبع عطاياه وحاولوا لفت أنظارهم إلي أموالهم التي بداخل الصندوق فلم يجدوا سوي النهر والسباب, فتقرب إليه من تقرب, فأغدق عليه ما يستحق بقدر ما كيل له من بديع الكلام والافعال, وأحجم عطاياه عن كل من كان سببا في حنقة وتعاسته, واتخذ أكثرهم راحة لنفسه وطاعة لامره سكرتيرا له ينظم له عطاياه اليومية من الحلوي والجنيهات علي قدر أسلوبهم في التعامل معه. ولم تقل شدة المنافسة في التودد إليه بتلفيق التهم للآخرين, وزادت الضغائن والمكائد بينهم اعتقادا بأن في ذلك خير سبل التقرب, فاختلط اللعب بالواقع وتبدلت النفوس داخل المتاهة. مر الوقت والأيام ولم يزالوا علي حالهم فلا يشغل بالهم سوي لعبته ومتاهته التي طرأت عليهم وازداد أملهم في امتلاك لعبة كما وعدهم صاحب المتاهة أو فرصة للعب بلعبته. وشاطرهم أستاذ قد نزع اللعبة من بين أيديهم في شيء من التوبيخ, وحين فرغ من القاء الدرس قرر أن يمارس قدرته الذهنية علي حل لغز اللعبة. فأعجبته وأثني علي الطالب ولعبته, فاثابه الطالب بأكثر مما أثني. وأعطي الضوء الأخضر إلي سكرتيره وتحول الفصل بفرمان من صاحب المتاهة لقاعة عامة تعرض فيها جميع أنواع الحلوي الغربية والشرقية, وتحول التلاميذ بذات الفرمان إلي فرقة موسيقية تعزف أحلي الالحان احتفالا بيوم ميلاد أستاذهم الذي دخل لعبة المتاهة, وحضر بعض زملاء المدرس احتفاله, فعرض عليهم لعبة الطالب, فانغمسوا في حل لغزها, وتناولوا جميعهم قطع الجاتوه دون أن يسألوا عن مصاريف الاحتفال, وتبادلوا النكات في صحبة صاحب المتاهة والتلاميذ, واشتدت المعركة هذه المرة بين المدرسين في محاولة اغتنام فرصة للعب, وانقسموا إلي أنفسهم واختلفت آراؤهم كما اختلفت آراء التلاميذ, وكادوا المكائد وسعي كل واحد سعيه تقربا لصاحب المتاهة, وكثر الكارهين له لافتتانهم به وحاولوا اثارة زملائه عليه ولكن دون جدوي. وانحسرت أصواتهم في صحراء واسعة حتي تلاشت تحت الرمال, وظل الحال كما هو عليه حتي تناسي الجميع اللعبة بعد أن أصبحوا جزءا من متاهتها, مر الوقت والأيام والشهور وربما بعض السنين, ولم يزل الكل علي حاله ولم تنته الفترة الدراسية, وتجرأ أحدهم بسؤال عابر ولكنه أحدث صدي داخل مجموعة من الزملاء يمكث اليهم وقرروا علي إثر سؤاله أن يسألوا صاحب المتاهة عن أموالهم داخل الصندوق الخشبي فانتظروا مجيئه ولكنه لم يأت اليوم.. فانتظروا الغد ولكنه لم يأت.. فبحثوا عن الصندوق ولم يجدوه.. وسادت حالة من التفكير والهمس. فقد مرت الايام والشهور ولم يعثر له علي أثر. واتحد الجميع تحت بند وفكرة واحدة, فتم الاتفاق علي أن يدلي كل واحد بمعلومة عنه في دفتره حتي يتوصلوا إلي مكان يقطنه, فتعددت المعلومات والطرق والبيوت وزاد الامر تعقيدا, فاختصروا المعلومات أمامهم وانحسرت في بعض الطرق والاماكن التي نالت أكثر الأصوات في استفتاء الإدلاء بالمعلومات, فقسموا أنفسهم فرقا, واستعدوا وعرف كل واحد ما عليه فعله, وتحركت كل فرقة في طريق مختلف كان يسلكه, وحامت أخري بمنزل اعتقدوا انه يقطنه, فطرقوا الابواب والنوافذ وسألوا أصحاب الحوانيت ولكن دون جدوي. وانكب فريق آخر علي الدفاتر المدرسية المليئة بعناوين التلاميذ وأسمائهم علهم يجدون أي شيء أو حتي صورة تعينهم علي تقصي أثره. ولكن لا جديد.. حتي ذلك المقعد الحديدي بدون المسند الخشبي الذي كان محل جلوسه ومنبع متاهته لم يكن موجودا. ساورهم الشك وأصابتهم الريبة تجاه صاحب المتاهة, فتحسسوا أنفسهم فأدروكوا انهم يطأون أرض الواقع بساق تندفع بداخلها الدماء, فتملكتهم الحيرة لبعض الوقت ووقف العقل عن التفكير ولم يعلم أحد طول المدة.. ومرت الأيام والشهور والسنون,.. وغمر بحر النسيان كل شيء, وعادوا إلي سابق عهدهم, فهناك من ينظف السبورة بعد أن أصابها غيره بالكتابة, وهناك من يختبر عضلاته في التنكيل بزملائه وهناك من يغازل فتاة في شرفة احدي العمائر السكنية وهناك من يبحث عن متاهة جديدة.