"كنت أجلس إلي صندوق الدنيا وأنظر ما فيه، فصرت أحمله علي ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسي أن يستوقفني أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق علي قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا" إبراهيم عبد القادر المازني- صندوق الدنيا كانت تلك المرة الأولي التي أري فيها صندوق الدنيا، وأجلس علي الدكة الخشبية لأستمع لإحدي الحكايات، لكن الحكاية هذه المرة قدمتها الفنانة الشابة سحر عبد الله التي تغرق في تفاصيل عالم الأطفال من خلال تخصصها في رسومات كتب الأطفال، والتي قررت في معرضها الأخير الذي استضافته جمعية النهضة العلمية والثقافية (جيزويت القاهرة) واستمر لمدة شهر تحت عنوان "خربشات" أن تقدم نموذجا فعليا لصندوق الدنيا، نفذته بالخشب.. وتركت الفرصة للزوار من الكبار والصغار للاستماع لحكاية "توت البرغوث" من خلال صندوق الدنيا .. فمزجت الأصالة بالمعاصرة وأحيت بذلك فنا من فنون الحكي التراثية. وخربشات كما تقول سحر أو scribbles)) مستوحي من تلك الخطوط التي يرسمها الطفل علي سطح اللوحة، بمعني آخر شخبطة الأطفال علي اللوحة. وتعتبر سحر واحدة من القلائل المهتمين بعمل معارض فنية للأطفال، ولكنها لا تكتفي بالعرض وإنما تقوم فكرتها بالأساس علي التفاعل مع الأطفال الزائرين. وقد قام مشروع "خربشات" علي معرض تفاعلي لأطفال المرحلة الابتدائية، فيصبح الطفل داخل رحلة مشهدية بين مكونات المعرض، ويشاهد الأطفال 24 لوحة يصاحبها نص أدبي - عن كتاب" وجدت بيتا ..توت البرغوت " والمرشح لجائزة الشيخ زايد لهذا العام. وتحكي القصة عن برغوث يبحث عن بيت، فينتقل من مكان إلي مكان، لكنه دائما مطارد، وكلما أعجبه منزل يدخل إليه دون استئذان، ويبذل محاولات كثيرة ليجد بيتا، وهذا البرغوث يعيش في جسد قط ويقوم بتسجيل مغامراته اليومية الذي لا يجعله يهنأ ولو ليوم واحد، ولكن البرغوث لا ييأس أبدا في البحث عن بيت لتستمر حياته، فهل يقبل القط بوجوده؟؟ وهل من حقه أن يكون لديه بيت؟ وهل هو بذلك يستولي علي شيء ليس من حقه، وهنا يحكم الطفل علي القصة بنفسه ويقرر ما إذا كان علي البرغوث أن يرحل أم يستمر في الحياة في جسد القط ..أو غير ذلك ويرتبط النص بالرسوم التوضيحية الناتجة عن "خربشات" أقلام الرصاص والفحم تجاورها ألوان الاكريليك مع إضافة بعض الأوراق والأقمشة الملونة بأسلوب مبسط للأطفال فيكونون أمام كتاب مصور يطل فيه البرغوث علي الأطفال متحركا ومنتقلا في أجزاء اللوحة، إذ يستطيع الأطفال تحريكه في بعض اللوحات من خلال اللوحات المطوية، فينتقل معهم ليكون العرض أكثر مرحا للطفل، غير مقيد بحدود فاتحا أبواب الحرية في التعبير وكذلك التلقي، لترسيخ فكرة البيت والانتماء له والحفاظ عليه من كل من يفكر بالاستيلاء عليه كالبرغوث. وقد قامت سحر فعليا بتنفيذ نموذج حقيقي لصندوق الدنيا، حيث قامت بزيارة للمتحف الزراعي بالدقي وتعرفت علي نموذج فعلي لصندوق الدنيا، وقامت بتنفيذ ماكيت صغير بمقاسات محددة قبل أن يقوم النجار بتكبيرها، ثم قامت بالرسم عليه وغيرت الألوان حتي يتماشي مع الروح العصرية. وقد تجول معرض سحر بين عدة أماكن حيث استضافه المركز الثقافي البريطاني لمدة يومين، بعدها انتقل إلي جاليري المشربية ليوم واحد ، وأخيرا إلي جمعية النهضة العلمية والثقافية ، وقد أضيف إلي المعرض الحكي علي الربابة، حيث قام بتحويل النص " وجدت بيتا ..توت البرغوت " إلي كلمات شعرية محمود فهمي ، وقام بالحكي روني برسوم ، وبمصاحبة عزف علي الربابة سمير سعد . التقينا بسحر عبد الله وسألناها عن علاقة الفن بلعب الأطفال وعن الألعاب في حياتها، وكان لنا معها هذا الحوار : قدمتي معرضك الأخير صندوق الدنيا وحولته لنموذج يستخدمه الأطفال في الاستماع إلي الحكاية ؟ فهل تنوين تعميم الفكرة؟ -قصدت بذلك الربط بين وسائل الحكي المختلفة للأطفال من خلال "صندوق الدنيا" وبمصاحبة الحكواتي علي الربابة وكذلك القصة التفاعلية المصورة علي حوائط المعرض، لنعيد للطفل علاقته بالفنون المصرية الفلكولورية والتي نكاد ننساها، من خلال "صندوق الدنيا" الذي يتحول إلي رسم متحرك منميا الخيال لديه فيستمتع بالحكي للنص الأدبي بمصاحبة عزف علي آلة الربابة، فيكون للموسيقي أيضا دور مصاحب لسرد الحكاية ، وتشترك الفنون جميعها للتأكيد علي فكرة المعرض. أما " صندوق الدنيا " فيصبح بمثابة تحد للتطور التقني وعودة إلي عالم الفطرة ، فيمثل " صندوق الدنيا " استعادة البيت الذي إذا تركناه وحيدا يصبح مطمعا للآخرين- اعتمادا علي ما ذكر بنص كتاب "وجدت بيت .. توت البرغوت".. فإذا نسينا تلك الفنون حلت مكانها أشياء أخري لا تنتمي بالأصل إلينا، فقد اجتاحتنا تلك الوسائل الاستهلاكية، مما أفقدنا جزءا كبيرا من الخيال وفقدنا ما يميزنا عن الآخرين. لذا فقط جاءت الفكرة مترابطة. لكنني في بعض الأحيان أجدني منجذبة لتعميمها . ما رأيك إذا في ربط التراث بلعب الأطفال ؟ - ربما يكون ذلك هو ما يميزنا عن الآخرين بالفعل، بل ويؤكد علي هويتنا. فالألعاب وليدة البيئة .. بقصد التسلية وهي أيضا تأكيد علي الروح الجماعية في الأداء والتنافس. كما تتعدي أيضا فكرة كونها لعبة يلهو بها الأطفال إلي كونها امتدادا لموروث، فهي إحدي مفرادت الحياة بالنسبة للطفل، وتسهم في تكوين شخصيته وتبرز الطاقات الكامنة فيه ..بل هي عادات وتقاليد متوارثة من خلال أجيال قابلة لإحداث التغيير ..لذا لنرتبط بالتراث لنكون متميزين.. ولنحدث أيضا بعض التغيير. كيف أثرت الألعاب عليك في فترة الطفولة؟ هي رفيقة أيامي.. أتذكر الآن أيام الطفولة .. وكيف كانت تسافر الألعاب معي إلي مصر في إجازتنا الصيفية .. أري الصور لا تخلو من وجودها .. أحكي لها .. وأعالجها ، فأضع لها" القطرة " بأن أرسم حول عينيها بالأقلام الملونة ..ظلت رفيقتي لوقت قريب، فكانت مصدر السرور. أتذكر أيضا أن أغلب اللعب كانت لحيوانات ربما لذلك كانت إحدي أمنيات الطفولة هي أن أصبح "دكتور بيطري" .. كنت طفلة وحيدة فكانوا رفاقي تكتظ بهم غرفة نومي ومعهم كانت الحياة. من وجهة نظرك ما علاقة اللعبة بالفن التشكيلي؟ ومن هم الفنانون المتميزون في هذا المجال من وجهة نظرك؟ يري الأطفال في اللعبة مصدرا للبهجة، فاللعب نشاط عفوي حر يقوم به الطفل مستخدما طاقات جسده الذهنية والحركية وهو ما قد يشبه ممارسة الفن التشكيلي، فهو أيضا نشاط حر يبعث البهجة في المبدع قبل المتلقي وأقصد هنا الموقف وليس نوع النشاط أو ما ينتج عنه. واللعبة ارتبطت بتاريخ الإنسانية منذ المصري القديم وما ورث للفلاحين المصريين، إذ يضعون عروسة تشبه وليد الجاموسة بجوارها لتستمر في إدرار اللبن ويصنعون خيال المآتة ليخيفوا الطيور. وتمتد ألعاب شعبية استخدموا فيها سعف النخيل وأغصان الأشجار وثمار الفاكهة "كالحكشة " و" السيجة ". ثم نجد الفتيات يصنعن العرائس لينمو حب الفن لديهن ويلعب الأطفال الحجلة ، الاستغماية ، الطائرة الورقية لتخلق لديهم بشكل ما حالة من الإبداع . ونجد الفنانين المعاصرين يستلهمون من تلك الألعاب الشعبية لوحاتهم فتجمع " جاذبية سري " بين العنصر العضوي " الإنسان " والأشكال الهندسية في مجموعة لوحات اهتمت فيها بالألعاب الشعبية ، و"زينب السجيني" لا تخلو لوحاتها من تلك الفتيات التي تلعب ويصاحبهن بعض الحيوانات الأليفة في عالم من المحبة والألفة . بينما نجد البهجة والألوان الصريحة والخطوط السوداء تحدد الأشكال في عالم " خالد سرور " لتكون الحياة هي اللعب . كيف ترين التأثير السيكولوجي للعبة علي الأطفال ؟ وهل تضعين ذلك في حسبانك عندما ترسمين ؟ - إضافة إلي ما تدخله اللعبة من بهجة لنفس الطفل واكتشاف للقدرات وتدريب علي الحياة الجماعية . فبلا شك لها تأثير سيكولوجي عليه، فقد تظهر فيه جوانب سلبية وميولا للعنف في بعض الأحيان . لكنها قد تعمل علي احترام وتقبل الآخر عبر الالتزام بقواعد اللعبة . في حين أخر قد تقود الطفل للعزلة عن واقعه مقابل حياة أخري بديلة . وقد تنمي خياله وتقوده إلي الإبداع. لذا أفكر دائما في أن أخلق البهجة علي صفحات الكتاب وأن أري قبل الأطفال ذلك البريق في عيون الشخصيات، فليكونوا أذكياء مختلفين وحالمين.. يكتشفون العالم من حولهم لذلك فالرسم ليس توضيحا بل عالماً خيالياً له تفاصيله التي تقود لنص آخر مدهش . لماذا اخترت مجال الكتابة والرسم للأطفال ؟ - لأنها مصدر سعادتي .. فلا أتوقف علي تدريب حواسي علي اكتشاف الأشياء .. فاستمتع بدهشة لقائها لأول مرة . ففي كلية التربية الفنية بقسم "التصميم " طلب منا أن نقدم فكرة لكتاب وقتها اخترت أن يكون كتاب للطفل .. فكانت البداية .. ثم أنهي دراستي وأتوجه لمجلة قطر الندي" وأبدأ من هناك ، حيث كان الشاعر الراحل أحمد زرزور يترأس المجلة.. ولازلت أتذكر بهجة أول يوم ينشر رسم لي بالمجلة . لك رسومات في كتاب بعنوان لعبة الخيال ؟ فهل هو يتحدث عن الخيال أم عن اللعبة ؟ -بالفعل وقد صدر مؤخرا عن دار أصالة- بمعرض بيروت الدولي العربي للكتاب - للمؤلف السوري عبادة تقلا .. يتحدث الكتاب عن "رامي " الصبي الغارق في الخيال، الذي يدعو أخته "راما" إلي رحلة علي متن زورق متخيل وعلي الشاطئ يستنشق هواء البحر ويذهب بزورقه للعمق مجدفا بمسطرة! فيستمتعان بمنظر الغروب ويقتربان من صخور فيخبرها بأنهما سوف يعودنان في الغد لاصطياد السمك في لعبة الخيال. وهل تظهر اللعبة في أعمالك كثيرا ؟ بالطبع، ففي كتاب "ماما نائمة" تأليف سمر براج ، هناك حديث مباشر عن اللعب، الذي عبرت عنه بالرسومات ونجد كيف تحاول " تالا" أن تشغل أخوها باللعب المختلفة حتي تستيقظ الأم من النوم ، وإن تالا قامت بارتداء القفازات الملونة صانعة حركات مختلفة بتحريك يديها وغنت لأخيها ، وهو ما فضله من اللعب جميعها. وأنا أري أنه لا يمكن فصل الألعاب عن كتب الأطفال فكلها تقع في مساحة خيال الطفل ، وأنا أتمني أن يتجه صناع الألعاب في مصر إلي تحويل بعض الشخصيات التي تظهر في كتب الأطفال المصرية وتحرك الخيال وتخلق في الطفل ميل لمحبة الفن والاكتشاف والإبداع إلي ألعاب وعرائس وبازل (أحاجي الصور المقطوعة) وغير ذلك ، حتي يرتبط الطفل بتلك الشخصيات بدلا من الاعتماد علي النماذج الغربية، وهي بالفعل فكرة تم تطبيقها بالخارج مع الفنانين التشكيليين الذين يرسمون للأطفال حيث تم تحويل أعمالهم إلي ألعاب، فمثلا الرسام إيرك كارل »Eric Carle « تم تحويل كثير من أعماله إلي لعب أطفال، وكذلك الفنان، نيكولاس جاوني »Nicolas Goun