واحدة من الإشكاليات التى واجهت جماعات الإسلام السياسى وبالأخص السلفيون وجماعة الإخوان المسلمين، وهم بصدد الخروج من صف المعارضة، إلى مواقع السلطة لأول مرة فى تاريخهم، هى تأكيد الاتهام الموجه إليهم بالانفصال عن حركة التاريخ السياسى والاجتماعى. ومن أبرز تجليات هذا الانفصال بروز تناقض فى الخطاب السياسى فيما يتعلق بشكل الكيان السياسى، ومرجعية نظام الحكم، وطبيعة النظام السياسى، فتلك الجماعات تنازعتها رؤيتان: إحداهما، موجهة لأنصارها ومحبيها وعموم التيار الإسلامى، مضمونها استعادة الخلافة كإطار جامع وبالطبع الشورى وتطبيق الشريعة وتحقيق وحدة الأمة أى التمكين، والآخر، لمخاطبة المجتمع والدولة ومؤسساتها والمحيط الإقليمى والعالمى، ومضمونها مختلف، حيث يختفى طرح الخلافة أمام التأكيد على احترام الدولة الوطنية، ومقتضياتها من أركان مادية ومعنوية وقيم كالمواطنة والديمقراطية وغيرها. الخ. ويكشف هذا الطرح المتناقض عن عمق الفجوة بين الممارسة العملية من جانب والقناعات الذاتية من جانب آخر، مما استدعى التشكيك فى صدق النوايا، هذا فضلا عن إشكالية الطرح ذاته من حيث المحدودية فى تنوع الروافد التى يقوم عليها، حيث يظل مستندا على التجربة التاريخية السابقة للخلافة كمسوغ وحيد وغاية أبدية وتعبدية، دون اكتراث بعديد الاجتهادات الفقهية فى هذا الصدد كإسهامات الأئمة: الافغانى ومحمد عبده. وغيرهم، ودون انتباه لتفاعلات المجتمعات الإنسانية ومنتجاتها وتطور العلوم لاسيّما فى مجال علم الاجتماع السياسى ونظرياته التى شهدت تطورا مهما خلال القرنين الماضيين. هذا الواقع يوضح كيف أن النخب الدينية والسياسية والفكرية فى مجتمعاتنا الإسلامية خلال القرن الماضى عجزت عن كسر الفجوة بين: الخبرة الإسلامية فى السياسة والحكم (الخلافة)، والتى امتدت لأكثر من 31 قرنا، وانقطعت خبرتها بعد سقوط الخلافة العثمانية بعيد الحرب العالمية الأولى، والتى هى بدورها جزء من الإسهام الاسلامى والتراث الإنسانى فى هذا المجال، وليست بأى حال من الأحوال نمطا إلهيا محددا للحكم والإدارة، وبين الخبرة الإنسانية والحضارية، التى تطورت بعد ذلك واستفادت من تراكمات التفاعلات الإنسانية بما فيها الأديان الثلاثة وفى مقدمتها الإسلام، وانتهت إلى طرح أنماط متعددة وخبرات كثيفة، تبدو جميعها تراكما إنسانيا متصلا، ولا يضير الإسلام كدين وكدولة وكفكرة وكحضارة وكثقافة الاستفادة من هذا التراكم والعودة للبناء عليه. ولا يخفى أن عمق أزمة الإسلاميين اتسعت مع تهميش الرؤى والروح التجديدية وأصحابها فى أوساط الإسلاميين أنفسهم، بجانب اقتصار هذا الحراك الدينى والفكرى والعلمى على مستوى النخب الإسلامية والمثقفة، مع الخوف من طرحه على نطاق أوسع بين عموم المسلمين، ومن هنا برز التناقض، حيث يُصدر للمجتمع والعالم خطابا يبدو متفقا مع روح العصر، ويُستدعى خطاب غيره للأنصار وذلك من أجل تجيش وحشد جمهور الإسلاميين، وتحقيق مكاسب انتخابية وسياسية آنية فائقة، ومن ثم يبقى هذا الاستدعاء الذى لم يراع حتى بعض من الاجتهادات الفقهية، والأطروحات الفكرية مبتسرا وأنانيا لأبعد الحدود. كما كشفت بوضوح على الجانب الآخر عن مدى الضعف البنيوى والتنظيمى بين الكوادر والنخب التقليدية وطرائق عملها التنظيمية التى اعتمدت فى حراكها الداخلى على الثقة بديلا عن الكفاءة، وكانت النتيجة أن قدمت تلك الجماعات لخصومها الأيديولوجيين فرصة للنيل منها، والكشف عن مدى ضحالة فكر قادتها ورموزها، وامتد القدح للنيل من الإسلام، وإن كان لا يضار دين من انحراف منهج أو رجعية فكر بعض أنصاره. بالقطع إن أعظم ما فى الإسلام هو متسع الحركة ومتاح الاجتهاد، ومن ثم الجهوزية الدائمة للتفاعل مع كل المتغيرات وتقديم الحلول، لاسيّما فيما هو مجال لذلك، فنمط الحكم وشكل الكيان وطبيعة النظام ليس تنزيلا أو وحيا، فالخلافة الإسلامية ذاتها استفادت من التجارب الحضارية المتزامنة لها، ونقلت عنها بعض أدواتها وآلياتها، وذلك فى إطار تحقيق المقاصد، لأن ما أهمية وجدوى أى كيان سياسى - حتى ولو كانت الخلافة ما دام لا يحقق المقصد من وجود هذا الكيان، هذا المقصد الذى اختصره الخليفة عمر بن عبدالعزيز لأحد ولاته يوم اشتكى خراب مدينته بمقولته الشهيرة "حصنها بالعدل".