بغض النظر عن درجة حرارة الجو, أو نسبة الرطوبة أو وطأة الزحام, أو حدة المشاكل, يبقي رمضان في مصر هو رمضان. صحيح طرأت عليه العديد من التغيرات, وبهت عليه الكثير من السلوكيات والأخلاقيات القاهرية غير المحمودة إلا أن ذلك العبق يبقي عالقا في مكان ما في الجو. قد تجد صعوبة بالغة في شرح هذا العبق, أو لمسه, أو حتي تعريفه, لكننا جميعا نشعر به ونتوق إليه مهما كانت مشاكلنا, ومهما كان عدد الأيام التي أمضيناها والمياه مقطوعة في بيوتنا, أو عدد الساعات التي يأبي فيها التيار الكهربائي من أن يقترب منا. وكعادتنا كل عام نحب أن نضفي جديدا علي الأجواء الرمضانية, أو علي الأقل نحدث ونطور ونجود من بعض المظاهر أو الظواهر التي نعيشها ونعايشها. صراع الجبابرة وهل هناك ما هو أعنف وأكثر اثارة من متابعة حركة سير السيارات في نهار رمضان أو ليله؟ طبعا مسألة أن يضع الصائم همه في مقود السيارة, وينفس من خلالها عن كل ما يجول في خاطره, وينوء به كاهله من ضغوط وعقد وكلاكيع ليست جديدة, بل صارت أقرب ما تكون إلي النظريات الكلاسيكية المترجمة علي أرض الواقع بطريقة واضحة وضوح الشمس. وقد أبي المصريون أن يمضي رمضان العام العاشر من الألفية الثالثة) أو العام التاسع حسبما تود أن تحسب بداية الألفية( دون أن يزيدوا وجودوا في ظاهرة رمضانية شارعية قاهرية باتت تعرف باسم صراع الجبابرة. فهل جربت مرة أن تلاحظ الطريقة التي تقود بها الغالبية سياراتها, لا سيما في نهار رمضان؟! ورغم اختلاف أسلوب القيادة, وسرعة السير, ودرجة الازدحام, وحجم العرقلة المرورية, ومعدل مرور مواكب الكبار والمهمين ومن ثم عدد الدقائق الإضافية التي ستمضيها محبوسا رغما عنك في داخل السيارة, حتي وإن كانت درجة الحرارة في الداخل قد حولت العرق المتصبب منك إلي مرقة مشبعة بالدهون, رغم كل ذلك تبقي مشاهد قيادة السيارات في طرقات القاهرة الكبري شبه متطابقة. وكنا قد ابتدعنا قبل سنوات فكرة عبقرية, ألا وهي تحويل شوارعنا ومياديننا إلي ساحة ضخمة لممارسة لعبة السيارات المتصادمة التي نلعبها في الملاهي. وكانت قواعد اللعبة متطابقة سواء في الملاهي أو في شوارع القاهرة, فالفكرة الأساسية تكمن في المتعة والإثارة من خلال أن تطلق العنان لكل ما لديك من طاقة شر وكراهية, ومشاعر سلبية قد تشعر بالحرج في حال عبرت عنها علي الملأ, فكلنا يعلم أن في داخل كل منا قدرا غير قليل من الميول الحيوانية والرغبة الكامنة في التصرف كإنسان الغابة دون رادع أو حاكم, ولولا الكسوف حينا والخوف سواء من العقاب أو الشكل الاجتماعي أي البرستيج لأطلق كثيرون منا العنان لمثل هذه المشاعر والتصرفات. وقد نجحنا فيما فشل فيه أخرون غيرنا, ففي الوقت الذي تقيد فيه ثقافات وحضارات ودول أخري رغبات مواطنيها, وتقف حجر عثرة بينهم وبين تحقيق رغباتهم وميولهم, ننفرد نحن باعطاء الجميع حريات غير محدودة في التصرف كيفما يشاءون دون أن يقال لأي منا ثلث الثلاثة كام؟!. ورغم أن بعض الخبثاء يلوحون إلي أن هذه الحرية غير المحدودة ربما تمثل ستارا أو تنويما مغناطيسيا للمواطنين المسلوبين من حريات أخري, إلا أن الحقيقة تبقي واحدة, وهي إن الشارع لنا, احنا لوحدنا. وما حدش يقدر يقول لنا بتعلموا إيه؟!. والفكرة من السيارات المتصادمة هي أن مهمة كل قائد أن يقود سيارته في اتجاه السيارات الأخري محاولا الاصطدام بها, وكلما كان الاصطدام أشد وأعنف, كلما كانت الإثارة أكبر والمتعة أعمق, وكلما كان ذلك دليلا علي أن القائد شاطر وذكي. تعميم اللعبة وقد تمكنا من أن ننقل هذه اللعبة ونعممها في شوارعنا, مع فارق واحد فقط لا غير, وهو أن السيارات المتصادمة في الملاهي لها كبير, أي أن هناك شخصا مسئوليته التأكد من أن أحدا من المتسابقين لا يخل بقواعد اللعبة, فهناك من قد يغلس أو يرذل أو يسخف علي زميل أو زميلة له من قادة السيارات, فإن ثبت ذلك تكون مهمته اقناع اللاعب بأن يكف عن رذالته وسخافته وسماجته. كما أن مسئوليته تكون التدخل في حال حدوث أمر طاريء, كاصابة أو توقف سيارة تعيق حركة بقية السيارات. أما اللعبة في شوارعنا فلا تستعين بمثل هذا الشخص, بل تترك الأمر كلية بين أيادي المتسابقين والمتسابقات. وكما أسلفت, فقد نجحنا هذا العام في اضافة جديد إلي اللعبة التي نمارسها كل يوم في شوارعنا منذ قررت الحكومة أن وجود موظف الملاهي لتنظيم عملية اصطدام السيارات أمر غير ضروري, فلم تعد مجرد لعبة للسيارات المتصادمة لا تهدف إلا إلي الاصطدام بما حولها من سيارات, بل ابتكرنا وجودنا فأبدعنا, وصارت اللعبة أشبه ب صراع الجبابرة. هل جربت مرة أن تتفرغ بينما تجلس بجانب سائق تاكسي مثلا لمشاهدة طريقة سير السيارات؟! أغلب الظن أنك ستجد كل سيارتين أو ثلاث وأحيانا أربع قد توصلت إلي قواعد للعبة فيما بينها. الجميع يصارع بعضه بعضا. فإذا سبق الأول بضع سنتيمترات, سارع الثاني ليزيد من سرعته حتي يؤكد له أنه أرجل منه وأشرس من عشرة مثله, ويسبقه, وإن لزم الأمر, فقد يضطر إلي أن يحك في سيارته, أو يخبط مرآته الجانبية) إن وجدت(. أما الثالث, فإذا شعر بأنه خارج حلبة السباق, فإنه قد يلجأ إما إلي السب وتكييل الشتائم لكليهما, ويعدهما بأن يقطعهما إربا. ميكروباص مجنونة وهنا تنبري من بين الصفوف سيارة ميكروباص عاتية مجنونة, يقرر قائدها أن يصعد من حدة اللعبة. وهنا تتحول اللعبة من سيارات متصادمة إلي سيارات متقاتلة. وهذا الأخير بالطبع عدي مرحلة السباب والشتائم بكثير. وتعدي القائد الذي أمامه مسألة حياة أو موت, يعني يا قاتل يا مقتول. المثير هو بما أننا شعب شديد التدين, مفرط في الالتزام بتعاليم الله سبحانه وتعالي, ولا نطبق إلا روح الدين, فقد وجد بعضنا لنفسه ما يجيز له الاحتفاظ بوضعه الصائم المتقرب إلي الله, المنفذ لتعاليمه, والملتزم بالسلوك القويم, لكن في الوقت نفسه فإن الضرورات تبيح المحظورات, فطبعا الواحد منا حين يقود سيارته في نهار رمضان, وهو محروم من أن ينفث دخان القرف في سيجارة سوبر, أو يتوقف في عز نقرة الشمس ليرتشف الماء, فيكون من حقه أن يفش غله في كل من حوله, وأن يترجم أعصابه المشدودة ورغباته المكبوتة في صورة تطليع عين كل من حوله. وقد ساعدت الحكومة مشكورة علي استخدام هذا الاسلوب في التخفيف عن المواطنين, فجعلت من الشوارع والطرقات منطقة حرة يمكن للجميع ان يفعل فيها ما يشاء, وذلك بالطبع في حال مرور موكب, أو ما شابه, إذ يستلزم ذلك تطبيق قواعد مرورية صارمة حتي يمر الموكب بأمان. لذا فعلي كل مواطن مضغوط أن يتوجه الي الشارع ليفش غله في زميله مستخدما سيارته المتصادمة أو المتقاتلة, والمبدأ الوحيد المتبع في القيادة في شوارعنا هو العين بالعين, والسن بالسن والبادي أظلم. أين يذهبون؟ وقد استمعت في بداية شهر رمضان المبارك إلي أحد ضباط المرور وهو يتحدث في برنامج نهارك سعيد الذي يذاع علي قناة نايل لايف, وهو يعد المشاهدين بوجود مكثف لرجال المرور لتحقيق أكبر قدر ممكن من السيولة المرورية, وقد تمنيت أن أسأله عن طبيعة الأنشطة التي يقوم بها رجال المرور في بقية شهور السنة, فنحن نكاد لانراهم إلا في هذا الشهر الكريم, لكنهم سرعان ما يختفون بقية أشهر السنة, ولا يظهرون إلا في المواسم. ونحن في الحقيقة نحن إليهم كثيرا, لاسيما في بعض الميادين والشوارع التي قرر اللاعبون فيها تحويلها إلي غابة مرورية, ومنها علي سبيل المثال لا الحصر, إشارة ميدان روكسي حيث كثيرا ما يترك للاعبين حرية التحرك في اللحظة التي يرونها مناسبة, رغم ان ما لايقل عن أربعة تقاطعات مختلفة تصب فيه, وهناك بالطبع شارع الثورة في مصر الجديدة, هذا الشارع الطويل جدا الواسع جدا السريع جدا والذي ضن عليه الزمان بإشارة مرور واحدة, وهو ما يجعل مسألة عبوره بالنسبة الي المشاة بالغة الإثارة, صحيح انها قد تنتهي بالانتقال إلي العالم الاخر, لكنها لا تحرم أحدا متعة التشويق. ظاهرة رمضانية كتبت الاسبوع الماضي عن ذكاء المتسولين وحنكتهم الشديدة في تنظيم أمور تسولهم واختيار الأماكن الاستراتيجية التي يتمركزون فيها, ودراستهم المتأنية لمراكز الضعف وبؤر الإحساس لدي الناس, فتجدهم بارعين في الابتزاز العاطفي لهم, لا سيما في أحد أشهر مواسم العمل لديهم, ألا وهو شهر رمضان المعظم. حول التسول وقد وصلني عدد من الرسائل الالكترونية, أغلبها يحكي قصصا وحكايات عن متسولين ومتسولات يتفننون في الضحك علي ذقون الناس, أو عن اخرين ينافسون يوسف بك وهبي والراحلة العظيمة أمينة رزق في القدرات الدرامية علي تمثيل أدوار التراجيديا, وأشكرهم جميعا, وبينهم الاستاذة حسنة نعيم, والاساتذة ميدو ومصطفي وملك الفراولة!! لكن في الوقت نفسه, لامني عدد من الأصدقاء من القراء علي قسوتي الشديدة علي أولئك المحتاجين, ونصحوني بعدم التحامل عليهم أو ظلمهم, إذ ان الظروف قد تكون دفعتهم الي التسول والشحاذة. ومع كل الاحترام لوجهة النظر تلك, إلا انني أؤمن ايمانا شديدا بأن المحتاجين الحقيقيين لن تجدهم بين صفوف المتسولين, إبحث عنهم وستجدهم حتما, لكنهم لن يكونوا متمركزين عند مطلع كوبري6 اكتوبر من جهة ميدان عبد المنعم رياض, ولا في اشارة المرور المواجهة لدار الأوبرا المصرية, ولا أولئك الذين يظهرون في الشهر الفضيل أمام محلات الحلويات الشرقية الكبيرة. ثم ان المجهود الذي يستغرقه الجلوس في عز نقرة الشمس, والتجول بين السيارات, والجري بين اشارات المرور أكثر بكثير من ذلك الذي يستوجبه أي عمل اخر يدر دخلا ولكن دون المهانة وقلة القيمة. وعموما أنا أحترم كل الاراء, وأشكر كل من تكبد عناء القراءة وكتابة التعليق. كلمة أخيرة قليلون جدا من نقابلهم في حياتنا مقابلات وجيزة, أو بحكم العمل, أو مناسبات سريعة, ولكن يحفون لأنفسهم مكانة ما في قلوبنا وعقولنا, أحد أولئك الذين قابلتهم, وعرفتهم بحكم اقامتي في لندن في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينيات كان الشاعر والمثقف غازي القصيبي, ورغم أنه يحمل درجة الدكتوراة في العلاقات الدولية, ورغم انتمائه للحقل الدبلوماسي, ورغم انه كان حتي وفاته قبل أيام وزيرا, ورغم أنه برع وتميز في كل ذلك, إلا انه شاعر بامتياز مع مرتبة الشرف. هو أحد أبرز الشخصيات السعودية المتنورة المثقفة خفيفة الظل كثيرة التواضع. وبالاضافة لكل ذلك كان شخصية مثيرة للجدل, فهو سعودي, متفتح متنور, دبلوماسي. له رأي ومواقف فيما يحدث, له قفشاته ونظرياته.. حتي ان لم تتفق معها, فلا يسعك الا ان تحترمها, بل وتحبه لأجلها. وفيما يلي أبيات من قصيدة كتبها وقت كان سفيرا لبلاده في لندن, وقيل انها كانت السبب وراء انهاء مدة خدمته هناك, اقرأوها لتعرفوا السبب: يشهد الله انكم شهداء يشهد الأنبياء والأولياء متم كي تعز كلمة ربي في ربوع أعزها الإسراء انتحرتم؟ نحن الذين انتحرنا بحياة أمواتها أحياء أيها القوم نحن متنا فهيا نستمع ما يقول فينا الرثاء قد عجزنا حتي شكي العجز منا وبكينا حتي ازدرانا البكاء وركعنا حتي اشمأز ركوع ورجونا حتي استغاث الرجاء ... وارتمينا علي طواغيت بيت أبيض ملء قلبه الظلماء ولعقنا حذاء شارون حتي صاح.. مهلا.. قطعتموني الحذاء أيها القوم نحن متنا ولكن أنفت أن تضمنا الغبراء قل) لآيات( ياعروس العوالي كل حسن لمقلتيك الفداء حين يخصي الفحول صفوة قومي تتصدي.. للمجرم الحسناء تلثم الموت وهي تضحك بشرا ومن الموت يهرب الزعماء فتحت بابها الجنان وهشت وتلقتك فاطم الزهراء ملحوظة آيات هي آيات الأخرس الفتاة الفلسطينية التي نفذت عملية انتحارية أو استشهادية أو ارهابية) حسب وجهة نظر كل منا( في إحدي اسواق القدسالغربية في مارس عام2002 وكانت حينئذ طالبة في الصف الثاني الثانوي.