ما خشيناه وقع. فشلت هجمتنا وتراجعنا وصرنا بين قصف وقصف محصورين. النيران والأدخنة تحيط بنا وتعلونا. ما من منفذ. دباباتهم تقصف ومدفعيتنا ترد. مدفعيتنا في الخلف البعيد وفي مقدمة المقدمة نحن أما هم ففي الأمام. في الأمام تماما نراهم ويروننا وننشن وينشنون وبيننا الجثث. جثثنا وجثثهم. حسني وعبد الحفيظ ومغاوري وعبدون الأقرب إلي خندقنا, ولا نستطيع سحبهم ولا نفكر. الدخان مازال ينبعث من ثقوب أفرول حسني. وفوق صدر مغاوري انطرحت ذراع عبد الحفيظ, وجمعت بين عبدون وواحدة من جثثهم أمعاء تنبض وكومات من شظايا وحصي ورمل.جهازي سقط علي أمتار منهم هو جهازنا الوحيد أسفل دروة الخندق الذي أخليناه واحتلوه أراه الإيريال يهتز وهو ثابت لو استعدناه لأمكننا الاتصال بقيادة الكتيبة. نحن الآن رقم في تقرير خسائرها بالحتم نحن مجرد رقم في قائمة الخسائر وإشارة أزيلت من خريطة العمليات بالتأكيد شطبت وأزيلت لا نستطيع الانسحاب من الخندق بعدما ارتمينا فيه خروجنا يجعلنا هدفا سهلا لنيرانهم نحن تسعة. تسعة فقط السرية أبيدت ولم يتبق منها سوانا. ألفة الموت تخطت بنا أسلاك الخوف الشائكة, وقلبتنا وحوش تسعة وحوش يستفزها القصف وتتمسك بأهداب الحياة. معي في ركن حاتم وبشندي وحنفي والبصراطي. ببقية الأركان يربض الملازم فهمي ومحروس وأبو سليمة وأرمانيوس الملازم فهمي هو الوحيد صاحب الرتبة فينا لا ضباط غيره ولا صف ضباط كلنا جنود مؤهلون وغير مؤهلين. مسكين الملازم فهمي, كسرت أنفه شظية فتورم وجهه واحتقن بألوان غلب عليها البني والأزرق, ومست إحدي كتفيه رصاصة خلعت الاسبلايت وجرحته فكتم حاتم الدم بحشوة من مزقة أفرول مع هذا يتصرف الملازم فهمي تصرف الأصحاء, ولا ينسي أنه قائدنا منذ احتوانا الخندق وهو يوزع أوامره ويطلق عليهم من رشاش كارل جوستاف, التقطه وذخائره من الخندق مؤثرا الاحتفاظ بمسدسه البربيللوم في جرابه. معنا أسلحتنا وذخائرنا, وعثرنا بالخندق علي صندوقي قنابل36 ميلز.. ولفات ديناميت جاهزة وتيل أمان كاف, وعدد من قنابل الدخان جثث حمدي والسكري ويوسف وأبو سعدة مكومة في تعريجة قريبة أسفل جثة يوسف قاذف لهب فردي, وعلي مخلاة تناثرت منها معلبات التعيين الجاف ارتكزت رأس حمدي المفدوغ بعد لحظات ربما تكومنا إلي جوارهم. لا نهتم, ولا ينبغي أن نهتم فخطأ من مدفعيتنا قد يبيدنا دانة أو دانتان وننتهي. ربما لا ينقذنا كلنا أو بعضنا سوي الجهاز الجهاز القريب العصي, وما من فرصة لالتقاطه. قال لي البصراطي وهو يغير خزانة بندقيته. أنا لسه ما دخلتش دنيا.. يمكن لو رجعنا الجهاز أعيش واتجوز واخلف عيال. ثم التفت إلي خندقنا القديم واتخذ وضع التنشين. أنبني ضميري, فلو تمسكت بالجهاز كما ينبغي لما تأرجح البصراطي هكذا بين يأس ورجاء مسحت الآخرين بعيني فوجدتهم مثله ومثلي يائسين من الحياة وآملين فيها وإن لم يتكلموا. مع أرمانيوس مدفع آر بي جي. ذخيرته مرمية إلي جواره وأبو سليمة يناوله ويعمر له لولا جرينوف بشندي ما التقطنا أنفاسنا شرائط الطلقات لفها حول عنقه. صندوقها مفتوح وتتدلي منه نهايات بعضها, خندقنا طويل, عميق, وزجزاجي, مكتظ وخانق الذخائر فيه كثيرة, وهذا مصدر خطر عظيم علينا به أيضا مدفع معطوب ومهمات وتوافه كثيرة سواتره تحمينا نحن والجثث الأربع ردمنا السواتر بالرمل لئلا تنفجر وتدمرنا إن نالتها شظية او مستها شرارة نار. أكثر من قنبلة تلقتها السواتر ولن ينالنا منها سوي الرمل وخيش الشكائر وبعض الشظايا فاقدة القوة. أكثر من قذيفة أطلقتها علينا دباباتهم. تقدمت دبابتان صوبنا, أوقف تقدمهما مدفع أرمانيوس وقنبلتان خارقتان للدروع ألقاهما محروس علي برج وجنزير إحداهما, بعد أن طرقهما وهو فاقد الأمل في شاسيه المدفع المعطوب, وياللعجب انفجرتا في الدبابتين مع محروس عدد من هذه القنابل حشره في قايش الوسط وقال: اللي ما تنفعش معاه طلقات الآر بي جي تنفع معاه دي. أرسلت له بتحية. ما فعله معجزة. رد بصرخة: يااااه يا جدعااااا ان. بتغطية من رشاشاتهم تقدم ثلاثة منهم فحصدهم جرينوف بشندي, مع هذا لم يكفوا عن الإطلاق. جاءنا صياحهم مضفورا بصفير الرصاص ودوي القنابل سقطت واحدة من قنابلهم في الركن الذي نتمركز فيه فالتقطها حنفي وردها إليهم بعد الدوي تتابعت فوقنا شظايا أطاح بعضها بخوذة البصراطي فاندفع بعد لحيظة صوب جثة السكري وانتزع خوذته وألصقها بما فيها من ثقوب وما عليها من دم ورمل برأسه ارتكن بعدها إلي جدار الخندق وهتف مبهور الأنفاس: حانموت لحظتها قذف أرمانيوس بطلقة من مدفعه فأطار منهم اثنين ومدفعا وعددا من شكائر الرمل وحصي وأشياء تلاطمت بالجثتين في الفضاء ثم اسقطت واحدة منهما علي حافة خندقنا. تدلي رأسها وذراعاها بالداخل وانثني باقي الجسم فوق شكائر الرمل, وعبر أصابع الكفين المتأرجحين انسال الدم علي المخلاة وعلب التعيين الجاف ورأس حمدي المفدوغ. رفع حنفي الذراعين وحاول زحزحتهما والرأس إلي الخارج, لكن زخة من الطلقات أرعشته وأسقطته إلي قاع الخندق وأسقطت جثة العدو إلي جواره. وثبنا إليه كانت الثقوف ترقش وجهه ورقبته وصدره, وإلي كتفه استراح رأس جندي العدو أزاحه البصراطي بدبشك بندقيته في لحظة وثوب بشندي إلي جرينوفه واندفاعه بإطلاق الرصاص باتجاههم آزره أرمانيوس بكثير من الطلقات لدرجة لم ينقطع معها اللهب الخارج من فوهة مدفعه الخلفية, في حين طفق محروس يلتقط حزم الديناميت ويشعل الفتائل ويلقيها باتجاه خندقنا القديم الأسود والأحمر والأزرق, وكل ألوان الطيف والرمل والحصي والشظايا والصراخ عباءة تسيطر علي كل شئ. مغمورا بالعفار والهباب انحني حاتم فوق حنفي وراح ينفخ في فمه, وكلما رفع رأسه ناداه: قوم يا حنفي.. قوم ولما كان حنفي لا يمكنه أن يقوم, فقد كف حاتم عن النفخ واحتضن جثته وانخرط في بكاء مر. لمت نفسي, فلولا سقوط الجهاز عن ظهري لما ساءت أحوالنا إلي هذا الحد, ولما فقدنا حنفي. وسكت كل شئ فجأة, إلا من قعقعة خوذة ساقطة من الفضاء أو دحرجة كوز أو قروانة فوق الحصي. رفع حاتم إلي وجها مخضبا بدم حنفي وقال كأنما يحدث نفسه. بالذمة مش دي موتة عبيطة ؟. وجاءني صوت الملازم فهمي غاصا بدموعه: الجهاز فهمت أنه يطلب استعادته صوته فيه خنفة سببها أنفه المكسور بالفعل لابد من استعادة الجهاز. حياتنا علي المحك, وهو ماثل أمامنا, شديد القرب, بعيد المنال. ليتني ما أسقطته. الإيريال ينادينا أن انقذوني, والمسافة دانية لكن يا لبعدها السحيق. ما إن أمسكت بحافة الخندق حتي انهالت زخات الرصاص باتجاهي وغمرني رمل كثيف. قذائف مدفعيتنا عادت انفجاراتها تتري بعد توقف خلف خطوط العدو, هناك في العمق البعيد. لو انتهي قوس النيران إليهم لدمرهم, ولربما دمرنا ألقيت ثلاث قنابل يدوية وألقي حاتم قنبلتي دخان, ومستترا بالعجاج والأشلاء وبتغطية من جرينوف بشندي وثبت من الخندق وزحفت باتجاه الجهاز, إلا أن رصاصهم همي بغزارة وسد طريقي إليه. تقنفذت محتميا بجثث مغاوري وعبد الحفيظ وحسني, فاخترمها الرصاص وقلقلها, ونالت من زندي رصاصة أسقطتني بظهري فوق جثة عبدون. حمدت الله لأنه زند ذراعي اليسري, ومستمسكا بالحياة تمكنت من النهوض والجري منثنيا صوب المكان الذي خرجت منه لكن شيئا شعرت به, والرصاص يلاحقني, يشدني من ظهري ويعطلني عن الجري.. شئ ملتصق بالقايش, مددت يدي وانتزعته, فإذا به شريط من أمعاء عبدون, قئت وألقيته من فوري ومرتعدا ارتميت بالخندق. هتف بي البصراطي وأنا أمسح لزوجة الأمعاء بجدار الخندق وأكشط آثار القيء من سترة أفرولي: جبان وبوثبة خرج من الخندق. كاتما ألمي وتقززي مما لصق بيدي صرخت فيه وأحماض القيء تلسع حلقي: ارجع يامجنون لكنه كان قد تجاوز الجثث ووصل الي الجهاز بدون ستار من دخان أو قنابل لتشتيت الانتباه. بعينين غائمتين رأيته ممسكا بندقيته بيد والجهاز بالأخري. يالشجاعتك يابصراطي. انتبه بشندي فغطاه في عودته,لكن فوهة من مزغل اقتنصته وأمطرته برصاص غزير أرقصه وأداره فارتفع ذراعاه بالبندقية والجهاز وانبسطا وارتخيا. جميعنا أطلق النيران علي المزغل, لكن رصاص المزغل لم يتوقف إلا بسقوط البصراطي بين جثتين لهم. عمنا وجوم. صمتوا وصمتنا, بينما أخذ إيريال الجهاز يتأرجح فوق الجثث الثلاث. قطع صمتنا صراخ الملازم فهمي: مدفعك ساكت ليه ياأرمانيوس؟ مش عارف جري له إيه ياافندم شوف وقوللي. فاجأنا أبو سليمة بوجوده خارج الخندق وبزحفه تجاه جثة البصراطي.أبو سليمة جن. مامن شك جن. البصراطي صديقه الصدوق. أطلقنا نيراننا باتجاه الخندق والمزغل ومكناه من الإمساك بالجهاز. ظنناه سيبادر بالعودة, لكنه انثني باتجاه البصراطي. جميعنا صرخنا فيه: سيبه ياأبو سليمة. تعالي ياأبو سليمة. كفاية الجهاز ياأبو سليمة. لكنه كان قد جذب البصراطي من البيادة ودار ليعود به, خطوة واحدة وسقطت قنبلة من الخندق المعادي فتوقف هو وجثة البصراطي والجهاز. الجنون تلبسنا, وسخنت أسلحتنا. لم يوقفنا سوي الصياح الملتاث للملازم فهمي: إيه اللي جري لكم؟.. اتجننتم؟.. محدش يخرج من الخندق إلا بأمري.. أنا القائد هنا.. سامعين؟... أنا القائد هنا.. أنا القائد. ولما انتبه الي الصمت الذي يلفنا, وأدرك أنه الوحيد الذي يصرخ, سكت وبإشارة جمعنا الي الركن الذي يلبد فيه. جئناه بأجساد تنتفض من فورات الغضب والحماس. أسلحتنا في أيدينا وأرمانيوس يتفحص مدفعه. قال الملازم فهمي وتركناه يقول: بقينا ستة.. الموت مش بس محاوطنا.. الموت جوانا.. إحنا الموت.. والموت مابيمتش.. يبقي مش لازم نموت. وتفرسنا واحدا واحدا, وبعد لمسة إصبع لأنفه المكسور أكمل بلهجة وهيئة القائد مالك كل الأزمة: .. مش علشان لازم نعيش.. لأ.. علشان شرف سريتنا. ثم أعقب بسؤال: نسوي إيه لما يتقال إن سريتنا أبيدت بالكامل؟ وإذ أتعجب في سريرتي من هذا الذي يتكلم عن شرف السرية, فاجأني بإمساكه لذراعي المصابة: ساكت ليه علي ذراعك؟ وأمر حاتما: اربطهوله. فنهض حاتم وعاد بمزقة من أفرول أبي سعدة وربط ذراعي بلا مطهر أو غسيل بماء, فلا توجد بالخندق علي ازدحامه مطهرات أو حتي شربة ماء. بعد أن سحب أرمانيوس مطرقة الاربي جي, ضغط بإصبعه علي كتلة الإبرة ونظر من الفوهة ثم أعطي التمام للملازم فهمي: الإبرة مكسورة ياافندم ومفيش إبر معانا. ازداد وجه الملازم فهمي دكنة وصمت لحظة ثم قال: الجهاز لازم نجيبه.. لكن إزاي؟.. لازم نفكر. عندئذ دوت رصاصاتهم باتجاهنا فأشار الي بشندي: قوم رد عليهم. فقام بشندي وأعمل جرينوفه. قال: طيرانهم مش ممكن يضربنا لأنهم ملزوقين فينا, لكن دبابة من دباباتهم ممكن تيجي وتهرسنا, خصوصا إنهم عارفين إن مفيش قدامنا ألغام.. هم مش خايفين إلا من الآربي جي بتاعك ياأرمانيوس, والقنابل المضادة للدروع بتاعة محروس, لكن لأن مدفعك ياأرمانيوس معدش بيضرب يمكن يتشجعوا ويهجموا علينا بدبابة أو اتنين ووراهم أفراد المشاه.. ثم أشار باتجاه جثة يوسف وقال لمحروس: هات قاذف اللهب واتأكد من خزانه. وأشار ناحية صندوقي القنابل اليدوية, وقال لحاتم: ابعت لهم اتنين تلاتة. ففعل وبعد الدوي عاد. فهمت من أوامر الملازم فهمي أنه إنما يريد إعلامهم بأن شوكتنا لم تنكسر. لم ينتظروا. إرسلوا قنابلهم وانفجرت قنبلة لهم داخل خندقنا, لكن في ركن لسنا فيه وليست فيه جثث أو ذخائر. تحت نافورة الرمال والأشياء والمزق المنهالة علينا أكمل الملازم فهمي كلامه, وكان واضحا علي الرغم من أن الخنفة ازدادت وأكلت مخارج الحروف: حانتسلل من الجنبين ونستولي علي خندقنا القديم.. بكده بس حانقدر نرجع الجهاز ونتصل بالقيادة.. بعدها تفرس فينا, وصدورنا تعطس طاردة العفار, ثم سأل: تقدروا؟ أجبنا: نقدر. وما كنا لنستطيع أن نجيب بغير هذه الإجابة. بعدما استوثق من ملامحنا قال: بشندي يفضل هنا.. يأمنا ويغطينا انهمكنا في تعليق القنابل وخزائن الرصاص في قوايشنا, وحشو جيوبنا وبعض الجربنديات بقدر ماتسع من ذخائر. قال محروس بعدما انتزع قاذف اللهب ومتعلقاته من تحت جثة يوسف: القاذف سليم وخزانه مليان, لكن الخرطوم مخروم. وبدون أن ينتظر تعليمات الملازم فهمي عكف علي إصلاحه, وفي الوقت الذي انتزع فيه الملازم فهمي بندقية وثلاث خزانات رصاص من جثة حمدي وسونكيا من قايش أبي سعدة وهم بإعطائها لأرمانيوس, رآه ورأيناه معه يمسح الدم المتجلط فوق علبة تعيين جاف ويستخرج قالب فولية ويمضغه. بالتأكيد لم تحدث هذه الامتدادات في أورام وجهه إلا بتأثير من ابتسامة اعترته. مثله ابتسمنا كلنا. فطن أرمانيوس لنا فدفس بقية القالب في فمه وقال بفمه المملوء وهو يتناول البندقية والخزانات والسونكي من الملازم فهمي: عايزني يعني أموت وأنا جعان؟. كأننا اكتشفنا فجأة أهمية أن نقضم شيئا, فجاريناه وعكفنا, ومعنا الملازم فهمي, علي تنظيف قوالب الفولية والتهامها, أصبحنا في أمس الحاجة للماء, لكن من أين نأتي به, وزمزمياتنا كلها فارغة. لربما عثرنا علي الماء في الخندق الآخر, إن وصلنا إليه. قبل أن نتحرك تحركنا الأخير أرسلنا إليهم دفعات متوالية من قنابل الدخان والقنابل اليدوية وطلقات الجرينوف. أنا وأرمانيوس اخترنا التسلل من جهة اليمين, والملازم فهمي ومحروس وحاتم اتجهوا الي اليسار, وبقي بشندي بجرينوفه بعد أن عمره بشريط جديد ليناوشهم حسب الخطة. وحسب الخطة أظهرنا أنا وأرمانيوس نفسينا وأوهمناهم أننا إنما نفر ليتمكن الثلاثة من الانقضاض عليهم من جهة اليسار. أمطرونا بالرصاص كما توقعنا, لكننا كنا قد احتمينا بثنيات الرمال. انتظرنا حتي سمعنا أزيز رصاصنا ودوي قنابلنا فزحفنا باتجاه خندقنا القديم. علي بعد ليس بالسحيق لمحنا النسق الثاني من خطوطهم ومصاطب دباباتهم. هذا يعني أننا حتي بعد استيلائنا علي خندقنا القديم سنكون في خطر داهم, لعل منقذنا الوحيد هو الاتصال الذي سنجريه بالجهاز. الاشتباك كان علي أشده. باغتتهم نيران القاذف والقنابل القريبة منهم, وأرعبهم الصراخ المندفع من أفواهنا. هم أيضا كانوا يصرخون. نصرخ ويصرخون. محروس تحول الي جني من نار. المحترقون بنيران قاذفه جروا وداروا وسقطوا وتقلبوا, وغير المحترقين ألقونا بكل شيء تصل إليه أيدهم, حتي علب الفاصوليا ألقونا بها. لايختلف حالهم عن حالنا إلا في العدد والمزغل الحصين, وبعض مخابيء استحدثوها علي عجل داخل الخندق. عددهم ضعف عددنا. من طلناه منهم مات. أغلبهم مات, أو هكذا ظننت, وليتني ماظننت فما إن توجهت الي الناحية التي سأمرق منها الي مكان الجهاز حتي انقض علي أحدهم بخنجر أصابني في جنبي, ولولا سونكي أرمانيوس لأجهز علي. أصيب حاتم بطلق في ساقه. أطلقه ضابط متماوت فألصق حاتم فوهته برأسه وأطلق. قفز أحدهم علي حاتم فقفزت أنا أيضا عليه وسقطنا ثلاثتنا, حاتم بساقه المصابة وأنا بالرصاصة المستقرة في زندي والجرح في جنبي وهو الوحيد السليم بيننا. زحف حاتم ليلتقط بندقيته فيما نهض جندي العدو ليجري فنهضت في إثره وركلته فاستدار وركلني, وقبل أن ينشن عليه حاتم احتضنني ودار بي تجاه فوهة حاتم, درت به فدار بي وتشوش حاتم, يطلق أم يتوقف. فطن مصارعي الي الجرحين في زندي وجنبي, فاعتصرني بقوة حتي أنني سمعت لدمي صوتا وهو يبظ من الجرحين. دفعت بقدم الي جدار الخندق فاختل توازنه وسقط وسقطت فوقه, لنتمرغ في أرضية الخندق, وحاتم فوقنا لايعرف كيف يضرب. خنقني وهو تحتي وخنقته. تأوه وتأوهت. قلب كفا ومدها الي حجر رطمني به فارتججت وقمت عنه وضربته بالبيادة في محاشمه لتتلقفه بندقية حاتم. مرتجا رأيت دباباتهم تتحرك. الغبار سحابات وأعمدة تقترب. رآها معي حاتم وأرمانيوس ومحروس. الملازم فهمي ظهره لها وهو يضرب برشاشه مخبأ مستترا. حركة الدبابات تعني أننا في خطر ليس من بعده خطر. خطر لن نتخلص منه إلا باستعادة الجهاز. علي ما أنا فيه من ارتجاج دفعت بمحروس ليطهر المزغل الذي أداخنا, ووثبت.. لا.. ترنحت وأنا أهبط من فوق الشكائر صوب الجهاز. ما إن اقتربت منه حتي أوقفتني زخة من جرينوف بشندي. كنت منهكا وملوثا بالدم, ولا أعرف بالضبط هل هي زخة من بشندي حقا أم من فرد مختبيء من أفراد العدو.. لكنني رأيت خوذة بشندي.. نعم هي خوذة بشندي.. سمعت صوتي آتيا من عمق سحيق: وقف يا بشندي.. دا أنا.. أنا يا بشندي.. وقف يا بشندي.. وقف لم أصدق أن الرصاص قد توقف بالفعل, فهبطت في غلالة من دخان حارق وضباب حلمي وأمسكت بالجهاز وأنا لا أصدق.. حضنته وقبلته وبكيت وضحكت. لسعني الإيريال المهتز في وجهي فأفقت مما أنا فيه وضممته الي خدي, وفي هالة من الفرحة والتعب, فيما يشبه الغمام, رأيت فوهة جرينوف بشندي تتجه نحو السماء وتطلق دفعات إثر دفعات, وبشندي يرقص ويصيح: هيييي.. هيييي. هيي.. هييييي هييييي هيي. حاملا كنزي الذي استعدته ارتقيت الدروة وهبطت الي الخندق الذي استعدنا سيطرتنا عليه.. هتفت باتجاه الملازم فهمي, وكان جالسا مسندا ظهره الي بعض الشكائر: جبته.. جبته.. خلاص جبته.. جبته خلاص.. جبته. وتجمدت لما رأيت الدموع تترقرق في عيني أرمانيوس والهول مرتسما علي وجهي حاتم ومحروس. أعدت النظر الي الملازم فهمي. كان يجلس جلسة المستريح بعد طول تعب. ساق ممدودة والأخري مثنية. التفت الي الخوذة المائلة فوق رأسه علي غير ما اعتدت منه, وكان خيط رفيع من الدم يسيل من أسفلها الي جوار أذنه التي تواجهني, وكانت عيناه مفتوحتين ومثبتتين علي ما لا أراه. أحسست بمذاق الدموع في حلقي, بينما علا هدير دباباتهم. عندئذ استعدت نفسي والتفت الي الجهاز فاقتربت رءوس أرمانيوس وحاتم ومحروس مني وتحت أعينهم رحت أديره, لكن عبثا حاولت. التردد ضائع. قلبي سكن في قدمي, ووجوههم بما عليها من أوساخ اربدت. كررت وكررت, لاتردد. ربما اتسع المدي بيننا وبين القيادة, ربما هي وضعية الاستعمال, وربما شوشوا علي الموجة. غيرتها. مامن فائدة. ربما بالجهاز عطب. لكنه سليم, لم تنله شظية أو رصاصة انصرف عني أرمانيوس وحاتم ومحروس. اتخذوا وضع الاستعداد للخطر القادم. تخير محروس شاسيها حديديا جلس الي جواره, وأخذ يخرج الطلقات الخارقه للدروع من القايش ويرصها الي جوار الشاسيه, ولاينسي يعدل من وضع قاذف اللهب فوق ظهره, فنظرت الي الملازم فهمي المتجمد في جلسته, ومن فوري انبطحت أرضا وصوبت سلاحي صوب الخطر المقترب بعدما جعلت من الجهاز متراسا لي, ولحظتها.. لحظتها فقط تذكرت أهلي.