موضوع النهضة من الموضوعات المحورية التي دار حولها الجدل في الفكر العربي الحديث, وترد أهمية الموضوع إلي أن السؤال الجوهري الذي أثاره الجيل الأول من مفكري النهضة العربية هو لماذا التخلف الذي يسود المجتمع العربي وكيف نكتسب أسباب التقدم؟ لقد مثلت إشكالية التخلف والتقدم التحدي التاريخي للعرب. وقد جابه العالم العربي التحدي التاريخي في لحظتين حاسمتين في تاريخ الأمم: لحظة المواجهة بين التخلف والتقدم الغربي الذي برز في الغزو الاستعماري للعالم العربي في القرن التاسع عشر, ولحظة الصدام العنيف بعد استقلال الدول العربية في الخمسينيات مع الغرب الاستعماري ممثلا بإسرائيل الصهيونية. يكفي أن كتب ابن سينا في الطب ظلت تدرس في الجامعات الأوربية حتي القرن الثامن عشر ولكن الشقة كانت حتما بعيدة بين عهد الازدهار ومرحلة التخلف. التساؤل هنا يدور حول أنسب أدوات التعبير التي تتيح للعرب أن يعبروا بواسطتها عن مرحلة تطورهم الراهنة. وترجع أهمية وخطورة التحدي التاريخي الذي فرض علي العالم العربي, أن العرب ليسوا مثل بعض شعوب العالم الثالث فقراء في التاريخ الحضاري, بل إن وراءهم تراثا خصبا بالغ العمق والثراء. وكانت الحضارة العربية الاسلامية ومازالت من الحضارات العالمية الكبري, التي أثرت علي التفكير الانساني, ومنحته في عهود ازدهارها الأسلوب العلمي, وأغدقت عليه من فيض فكرها الانساني الشامل. ومن هنا كانت لحظة مواجهة الحقيقة, واكتشاف عمق التخلف, قاسية ومؤلمة. ولعل لحظة المواجهة بين العالم العربي والغرب, تتمثل أكثر ما تتمثل في اللقاء العاصف الذي تم بين المجتمع المصري المتخلف والحملة الفرنسية بقيادة نابليون. جاء نابليون إلي مصر مسلحا ليس فقط بالمدافع والبنادق الحديثة التي كشفت عن التقدم الغربي التكنولوجي, إذا ما قورنت بسيوف المماليك المذهبة, ولكنه جاء معه بفريق متكامل من العلماء المتخصصين في كافة الفروع العلمية, وبصحبتهم مجموعة من المعامل, وكذلك مطبعة. فكأن الحملة الفرنسية بما ضمته بين صفوفها كانت إعلانا بارزا عن الغرب: التقدم التكنولوجي ممثلا في السلاح الحديث, الفكر العلمي ممثلا في فريق العلماء, والمطبعة رمزا للفكر وأهمية إذاعته ونشره بين الناس. ولم يضع علماء الحملة الفرنسية وقتهم, فقد قاموا بعملية مسح شاملة للمجتمع المصري بجوانبه المادية والفكرية, كان حصادها العمل الموسوعي الشهير وصف مصر الذي خرج في عدة مجلدات. ومما يكشف عن عمق التخلف في مصر في هذا الوقت, الذي كان مجرد عينة من التخلف العربي ككل, ما ذكره المؤرخ المصري الجليل الجبرتي بعد زيارته لبعض معامل الحملة الفرنسية, ومشاهدته لبعض التجارب الكيميائية التي عرضها عليه علماء الحملة, هذه أشياء لا تقوي علي فهمها عقول أمثالنا! يقول الجبرتي هذا وهو سليل الحضارة العربية الاسلامية الأصيلة التي أنجبت من قبل عشرات العلماء الأفذاذ الذين ملأوا العالم بأفكارهم ونظرياتهم, ويكفي أن كتب ابن سينا في الطب ظلت تدرس في الجامعات الأوربية حتي القرن الثامن عشر ولكن الشقة كانت حتما بعيدة بين عهد الازدهار ومرحلة التخلف. إن المواجهة بين الحملة الفرنسية والمجتمع المصري رغم قصرها, إلا أنها كانت بمثابة الشرارة التي أطلقت عنان الفكر العربي الحديث, ذلك أنه بعد الاحتكاك المباشر, والرؤية العيانية للغرب المتقدم ممثلا في الحملة الفرنسية, أثيرت التساؤلات حول ما هي أسباب التخلف العربي وكيف يمكن أن نكتسب أسباب التقدم الغربي؟ هذه هي الاشكالية الرئيسية التي تصدي لها رائد الفكر العربي الحديث الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي, الذي أرسله والي مصر محمد علي إلي باريس مع بعثة علمية مصرية, وعاد ليكتب عن تجربته الغنية كتابه المعروف تخليص الإبريز في وصف باريز الذي سجل فيه بالتفصيل ملاحظاته الثاقبة عن المجتمع الفرنسي, وتعقيباته الذكية علي النظريات السياسية والاقتصادية والفكرية التي كانت تموج بها أوروبا في هذا العهد. ولانريد أن ندخل هنا في الجدل الذي يدور في الوقت الراهن بين المؤرخين, حول ما إذا كانت الحملة الفرنسية هي التي وضعت العالم العربي علي طريق العصرية والتحديث, أم أنها كانت هي بذاتها التي أجهضت عملية تطور تحديثي بطيء وتدريجي وأصيل كان يأخذ مجراه في بنية المجتمع العربي. ونقنع بالاشارة إلي أن جمهرة المؤرخين العرب ظلوا إلي وقت قريب من أنصار النظرية الأولي, إلي أن ظهرت مجموعة من المؤرخين العرب من أبرزهم المؤرخ التونسي بشير تللي, والباحث المغربي محمد عزيز الاحبابي, وبعض المؤرخين الأجانب من أبرزهم المؤرخ الأمريكي بيتر جران مؤلف الجذور الاسلامية للرأسمالية. لقد ذهبت هذه المجموعة الثانية من المؤرخين إلي أن حركة الاحياء كانت تأخذ مجراها في بنية المجتمع العربي, في أواخر القرن الثامن عشر, ويضربون مثلا لها الحركة الوهابية التي أنشأها في السعودية محمد بن عبدالوهاب. كما يؤكد بيتر جران من خلال تحليل متعمق لبنية المجتمع المصري الاقتصادية والفكرية, أنه نشأ في مصر نشأة محلية خالصة ضرب من ضروب الرأسمالية التجارية, أثر علي الإبداع العقلي والانتاج الفكري, الذي ظهرت بوادره في حركة تجديد فكرية في الأزهر, قادها الشيخان الزبيدي وحسن العطار. لن يتسع لنا المقام لكي نخوض في تفاصيل هذا الخلاف, ونفحص نقديا حجج كل فريق. ولكن ثمة حقيقة لا خلاف بشأنها, هي أن التساؤلات عن أسباب التخلف وطرق التقدم, ظهرت وازدادت حدتها بعد المواجهة مع الغرب, الذي طرح تحديا حقيقيا علي العرب هو تحدي العصرية والحداثة والخروج من دائرة التخلف. لقد أدي الاحساس بالتحدي إلي بداية ما يطلق عليه الباحثون اليقظة العربية ليشيروا بذلك إلي بدء عملية التحديث في المجتمع العربي, التي جاءت في حقيقة أمرها كما يقرر هشام شرابي في كتابه المثقفون العرب والغرب نتيجة للتحدي الذي فرضه الغرب علي كل مستويات الوجود الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والنفسي. وقد طرح المفكرن العرب عديدا من الأسئلة حاولوا كل بحسب ميوله الايديولوجية وتصوراته الفكرية وانتماءاته الطبقية والسياسية أن يجيب عليها, ويوجز المفكر المغربي الكبير عبدالله العروي هذه الأسئلة في أربع مشكلات رئيسية: 1 مشكلة الأصالة: ويعني بها مشكلة تحديد الهوية أو تعريف الذات. وأهمية هذه المشكلة أنها تضع الأنا في مواجهة الآخر. الأنا هنا هو العرب, لكي نحدد هويتهم لابد من تحديد علاقاتهم وتشابهاتهم واختلافاتهم مع الآخر الذي هو بكل بساطة الغرب, الذي فرض التحدي التاريخي علي العرب. وليس من قبيل المبالغة القول أن الفكر العربي الحديث عبارة عن حوار موصول مع الفكر الغربي, وهو حوار حافل بالشد والجذب, بالرفض والقبول, بالتمجيد والهجاء. وليس هناك مفكر عربي واحد أفلت من شبكة هذا الحوار. ذلك أنه نتيجة للجمود الفكري وللقحط الثقافي الذي ران علي العالم العربي حوالي خمسة قرون في ظل الهيمنة التركية علي العالم العربي, أصبح المرجع هو الغرب. والمفكر العربي الذي يمارس التفكير في شئون مجتمعه وأمته ليس أمامه سوي مناقشة الأفكار الغربية إما لقبولها كلها أو جزئيا, وإما لرفضها, وإما لمحاولة اتخاذ موقف وسطي تجاهها يقبل بالبعض ويرفض البعض الآخر. 2 مشكلة الاستمرار: ويعني بها علاقة العرب بماضيهم. بعبارة أخري ما هي المعاني والدلالات التي نعطيها نحن العرب للتاريخ العربي الطويل المزدحم بالنجاحات والاخفاقات علي السواء. إن مشكلة نوعية إدراك العرب لتاريخهم بالغة الأهمية. وذلك لأنه نظرا لثراء هذا التاريخ وخصوبته, قد يكون هذا في حد ذاته معوقا للتقدم! ويفرق هنا الأستاذ الجليل قسطنطين رزيق بين التاريخ العبء والتاريخ الحافز. ويقصد بذلك أنه نظرا لكون تاريخ بعض الشعوب يحفل بأمجاد ماضية, قد يصبح ذلك في حد ذاته عبئا تنوء به هذه الشعوب, وقد يقعدها عن العمل الدءوب للخلاص من التخلف والانطلاق في آفاق التقدم. وقد يبرر هذه الملاحظة قناعتنا في السنين الماضية بالحديث عن فضل العرب علي الحضارة الغربية, بدون أن نبذل الجهد الكافي للتحديث والتقدم. ويختلف هذا بطبيعة الحال عن التاريخ الحافز الذي يشحذ همة الأمم لتستعيد ماضيها التليد. إن مشكلة الاستمرارية لابد أن تأتي مباشرة بعد مشكلة الأصالة, ذلك لأن الماضي عادة ما يعبأ لكي يعطي للذات القومية اتساقا, ويمنحها الثقة في المستقبل. والمنطق البسيط هنا, هو أنه ما دمنا قد استطعنا أن ننجز حضاريا في الماضي, فما الذي يمنع أن نواصل الابداع الحضاري في الحاضر؟ 3 مشكلة المنهج الفكري العام: ونقصد بذلك الوسائل التي سيتبعها العرب لكي يكتسبوا المعرفة, ولكي يمارسوا الفعل. بعبارة أخري هل سنقبل قواعد التفكير الحديثة التي صاغها العقل الغربي, باعتباره ممثلا للعقل العالمي إن صح التعبير أم أن لدينا عقلا عربيا منفردا له منهجيته الخاصة في النظر للطبيعة والكون والانسان. 4 مشكلة أدوات التعبير: والتساؤل هنا يدور حول أنسب أدوات التعبير التي تتيح للعرب أن يعبروا بواسطتها عن مرحلة تطورهم الراهنة. ومن الجدير بالاشارة هنا ما نسب إلي اللغة العربية بما تتسم به من سمات نوعية خاصة من تأثير علي النفسية العربية, وأثر ذلك علي حدة الصراع العربي الاسرائيلي. هذه هي المشكلات الرئيسية التي شغلت أذهان المفكرين العرب من كافة الاتجاهات منذ بداية عصر النهضة العربية. غير أن هذه المشكلات كانت أشبه بمحاولة وضع قواعد منهج عربي حديث للتفكير العصري في شئون المجتمع وطرق تحديثه. وهذا المنهج العربي الحديث حاول المفكرون العرب من خلال استخدامه طرح مجموعة من القضايا الكبري, لعل في مقدمتها قضية الاستقلال القومي للعالم العربي, ومنحه وضعه المتميز في العالم المعاصر, ومن هنا طرحت الفكرة القومية العربية بكافة اتجاهاتها. وهذه الفكرة كانت تسعي الي تحديد وضع العرب في العالم من خلال رصد السمات المشتركة, وتوحيد الجهود النضالية ضد المستعمر الأوربي فرنسيا كان في الجزائر, والمغرب وتونس وسوريا ولبنان, أو إنجليزيا كان في العراق ومصر والسودان أو يهوديا صهيونيا في فلسطين. ولكن بالاضافة إلي هذا الاهتمام الفكري والنضالي باستخلاص العالم العربي من براثن الهيمنة الغربية, طرحت قضايا أساسية خاصة بتطوير المجتمع العربي ذاته, ولعلنا لا نعدو الصواب, لو قلنا أن هذه القضايا تمثلت في ثلاث: السعي إلي الأصالة من خلال الحديث عن الاسلام وقدرته علي التجدد لكي يتلاءم مع الفكر الحديث, ومع العالم المصري. السعي إلي الحرية من خلال الحديث عن أهمية تطبيق النظام الديمقراطي, الذي يكفل المساواة بين المواطنين في ظل سيادة القانون. السعي إلي التحديث من خلال تأكيد الدور الحاسم لاقتباس التكنولوجيا وإقامة حركة شاملة للتصنيع. الأصالة, والحرية, والتحديث, كانت هي إذن المشكلات الكبري التي شغلت المفكرين العرب, وهم بصدد تشخيص أسباب تخلف المجتمع العربي, ورسم وسائل التقدم, وإذا كانت هذه هي القضايا التي حفل بها الفكر العربي الحديث في مرحلة النهضة الأولي التي امتدت منذ الهيمنة الغربية علي العالم العربي حتي الاستقلال, فإنه من المهم أن نتساءل عن مصير الحلول التي اقترحت لهذه المشكلات في مرحلة النهضة الثانية بعد الاستقلال وحتي الوقت الراهن. ولكن ذلك يدعونا أولا إلي الحديث عن مشكلات النهضة العربية الأولي, حتي نرسم حدود ومعالم التحدي التاريخي الذي فرض علي العالم العربي, سعيا وراء الفهم المتعمق للتفاعلات التي تجري في الحاضر وأثرها علي المستقبل. وفي ضوء ما سقناه عن إشكالية النهضة من الناحية الفكرية, من الأهمية بمكان أن نعرض لمشاريع النهضة المصرية من وجهة تعاقبها التاريخي. ويمكن القول أن لدينا في الواقع أربعة مشاريع نهضوية وهي: المشروع الامبراطوري الذي صاغه ونفذه محمد علي والي مصر والذي يعتبره المؤرخون مؤسس مصر الحديثة(1805 1848). المشروع الحضاري الذي خططه ونفذه الخديوي إسماعيل(1863 1879). المشروع الليبرالي(1924 1952). المشروع القومي(1952 1970). ونظرا لضيق المجال سنكتفي في كل مشروع بعرض الوقائع الهامة, وإلقاء الضوء علي الشخصيات المؤثرة.