في مشروع السياسة الثقافية الذي قمنا بوضع خطته المنهجية وأشرفنا علي تنفيذ مختلف البحوث التي اقترحنا اجراءها عن المناخ الثقافي للمجتمع, وتخصيص الوقت, ورؤي العالم في المجتمع المصري, والاحتياجات والمطالب الثقافية, حددنا مجموعة من الأهداف الكبري التي ينبغي علي أي سياسة ثقافية رشيدة أن تعمل علي تحقيقها في مصر. ولعل أول هذه الأهداف وأهمها علي الإطلاق, هو الحفاظ علي الهوية الثقافية المصرية ومقوماتها الأساسية. لأن البحث عن الهوية الثقافية المتميزة وتحديد ملامحها الرئيسية, ارتبط ارتباطا شديدا بالتحدي الغربي للمجتمع وهكذا حين قامت ثورة23 يوليو1952 فإنها قضت علي الميراث الليبرالي بضربة واحدة وهذا الهدف بالذات دارت حوله نقاشات شتي, وأثيرت بصدده خلافات إيديولوجية حادة بين كبار مفكري النهضة العربية. وذلك لأن البحث عن الهوية الثقافية المتميزة وتحديد ملامحها الرئيسية, ارتبط ارتباطا شديدا بالتحدي الغربي للمجتمع, والذي تمثل أساسا في الحملة الفرنسية علي مصر بقيادة نابليون. ولا شك أن الصدام العنيف بين الحملة الفرنسية والمجتمع المصري في ذلك الحين مثل صدمة حضارية كبري للسياسيين والمفكرين المصريين. وذلك لأن الحملة في شقها العسكري أظهرت تخلف التسليح المصري الذي كانت المماليك تستخدمه مقارنة بالتقدم البارز للأسلحة الفرنسية والتي كانت أحد أسباب هزيمة المماليك في المواجهات العسكرية بينهم وبين القوات المسلحة الفرنسية. ليس ذلك فقط بل إن التقدم العسكري الفرنسي في مجال الاستراتيجية والتكتيك أظهر مدي التخلف لدي المماليك في هذه الميادين, مما أدي الي انتصار الفرنسيين وهزيمة المماليك. غير أن التحدي الحضاري الذي مثله التقدم الفرنسي في مجال العلوم والفنون, والذي قدمت المعامل العلمية التي اصطحبتها الحملة معها نماذج بارزة منه, والتي حرصت علي دعوة مشايخ الأزهر لزيارتها للإطلاع علي التقدم العلمي الغربي, هو الذي أثار مشكلة التخلف والتقدم. بعبارة أخري التحدي الذي واجه مفكري النهضة بعد انتهاء الحملة الفرنسية وجلاء الفرنسيين عن مصر, كان هو كيف نقضي علي التخلف ونكتسب أسباب التقدم. منذ تلك اللحظة تبلورت الإشكالية الكبري في الفكر الحديث والمعاصر. وهكذا تعددت الاستجابات الإيديولوجية لهذا التحدي الحضاري الغربي. ولذلك ركزت الاستجابة الأولي والتي مثلها الشيخ محمد عبده في أن الإسلام يمكن تحديثه, ولذلك ألف كتابا مهما عنوانه الإسلام والعلم, لكي يثبت أن الإسلام لا يتناقض بالضرورة مع العلم. ولذلك دعا الي صياغة نموذج حضاري إسلامي يكون موجها للقيم وأساسا للسلوك الاجتماعي, بدلا من تبني النموذج الحضاري الغربي, بالرغم مما فيه من انجازات مبهرة. غير أن هناك فريقا آخر من مفكري النهضة علي رأسهم المفكر المصري الدكتور أحمد لطفي السيد والذي شغل مناصب مهمة من بينها رئيس جامعة القاهرة, رأوا أن احتذاء النموذج الحضاري الغربي في السياسة والاقتصاد والثقافة هو الحل, وأهم من ذلك ضرورة القطع مع التراث الإسلامي العربي, لأنه لم يعد صالحا للعصر. ومن جانب آخر رأي فريق ثالث من مفكري النهضة الذين تأثروا بالفلسفة الاشتراكية وعلي رأسهم الكاتب المصري سلامة موسي, أن الحل يكمن أيضا في القطع مع التراث نهائيا, لأنه لا يعبر إلا عن حضارة زراعية متخلفة! دار الجدل بين ممثلي هذه التيارات الثلاثة, وشاء منطق التاريخ في الممارسة السياسية العملية أن يقصي تيار محمد عبده من ناحية وتيار سلامة موسي من ناحية أخري, ويتصدر المشهد السياسي وخصوصا منذ صدور دستور1923 حتي23 يوليو1952 المشروع الليبرالي الذي كان من أكبر دعاته أحمد لطفي السيد. وإذا بحثنا عن أسباب صعود المشروع الليبرالي علي حساب كل من المشروع الإسلامي والمشروع التصنيعي الاشتراكي لاكتشفنا أن الشيخ محمد عبده بالرغم من تقدمية أفكاره وحرصه علي وسطية الإسلام لم يكون مدرسة علمية متكاملة لها أتباع وأنصار. وكان من أبرز تلاميذه الشيخ رشيد رضا صاحب المنار والذي كان متزمتا في أفكاره الدينية علي عكس أستاذه الشيخ محمد عبده, والذي كان يتمتع بآفاق فكرية مفتوحة, فكان صديقا للدكتور أحمد لطفي السيد ودارت بينهما مناقشات مثمرة متعددة. الشيخ رشيد رضا صاحب الرؤية المتزمتة هو الذي تتلمذ عليه الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين عام1928, والذي كان أول من حول الإسلام من مجرد دعوة دينية الي حركة جماعية جماهيرية منظمة. غير أن مسار الإخوان المسلمين وعدم خوضهم غمار السياسة مباشرة أبعدهم عن الصراع السياسي الذي دار أساسا بين أحزاب ليبرالية, علي رأسها حزب الوفد والذي كان حزب الأغلبية. كما أن التيار الاشتراكي الذي مثله سلامة موسي أقصي عن الساحة بحكم عداء الإنجليز المحتلين للاشتراكية والشيوعية, بالإضافة الي أن النخب السياسية الحاكمة المصرية من كبار الملاك كانوا ضد هذه الإيديولوجيات. وقفوا موقفا معاديا من التيارات الشيوعية والاشتراكية. وهكذا يمكن القول أن الخصوصية المصرية في العصر الليبرالي تمثلت في تبني رؤية وسطية للإسلام من ناحية, وعقيدة سياسية متوازنة هي الليبرالية. غير أن هذا المفهوم الوسطي للإسلام والذي كان هو الميراث الإيجابي الذي تركه لنا الشيخ محمد عبده سرعان ما تعرض للخطر بعد اندفاع جماعة الإخوان المسلمين في طريق العنف بعد إنشاء الجهاز السري الذي قام بمجموعة من الاغتيالات لعدد من الوزراء والقضاة. وهذا هو الذي جعل الصدام حتميا بين الإخوان المسلمين وبين ممثلي التيار الليبرالي في الحكم. وتصاعدت المواجهة بعد أن اغتال أحد أعضاء الإخوان المسلمين النقراشي باشا رئيس الوزراء, مما ترتب عليه حل الجماعة واغتيال الشيخ حسن البنا نفسه. أما عن الميراث الليبرالي الذي ساد من صدور دستور1923 وثورة يوليو1952 فقد أدت الممارسة السياسية الي الوصول الي نتيجة قاطعة, وهي فشل ممثلي المشروع الليبرالي من الساسة وزعماء الأحزاب المختلفة في حل المشكلة الوطنية وهي إجلاء الإنجليز, والقضاء علي المشكلة الاجتماعية وهي الفجوة الطبقية الكبري من الأغنياء والفقراء. وهكذا حين قامت ثورة23 يوليو1952 فإنها قضت علي الميراث الليبرالي بضربة واحدة, وأصبح المشروع الثوري الاشتراكي هو المشروع الأوحد الذي يتصدر المشهد السياسي, ولكن يشاء جدل التاريخ أن ينمو في إطار هذا المشروع ويصعد من جديد المشروع الإسلامي وخصوصا بعد هزيمة1967.