حددنا في الأهداف الكبري لبحث السياسة الثقافية الذي قمت بوضع خطته الأساسية وأشرفت علي تنفيذ الأبحاث المتعددة التي اندرجت في خطته, ضرورة أن يكون رسم مستقبل الثقافة في مختلف المجالات يتلاءم لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع المصري والإنسان المصري في المستقبل, بحيث يكون عضوا مشاركا في المجتمع ومنتميا له. (راجع خطة البحث في كتاب المناخ الثقافي في مصر , إشراف وتحرير السيد يسين, المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية). بلورة الرؤية الاستراتيجية ينبغي أن يسبقها التنبؤ بتطورات الواقع الحالي, لتقدير الصورة التي سيتشكل عليها المستقبل. والمفكر الاستراتيجي الذي سيناط به صياغة الرؤية الاستراتيجية لابد أن يتأمل التاريخ, ويشخص الموقف الراهن, ويفحص الاتجاهات السائدة إذا كان وصف الواقع بدقة المهمة الأولي في صياغة الرؤية الاستراتيجية, إلا أن الجزء الأهم فيها, هو ما هي صورة المجتمع المصري التي نريدها بعد ربع قرن علي سبيل المثال, حتي تكون هذه الصورة المبتغاة هي الموجه لسياسات الإصلاح؟ حين كتبت هذه العبارة عام1978 في صلب خطة بحث السياسة الثقافية, لم يكن قد تبلور بعد أحد أهم المفاهيم الذائعة الآن في مجالات التحليل السياسي والاجتماعي, وهو مفهوم الرؤية الاستراتيجية والذي ركزت عليه كثيرا في كتبي التي نشرت في السنوات الأخيرة. ومن الأهمية بمكان أن تقدم تعريفا دقيقا للرؤية الاستراتيجية وقد اهتممنا بشرح وتحليل مكونات هذه الرؤية في كتابنا الإصلاح العربي بين الواقع السلطوي والسراب الديموقراطي( القاهرة: دار نشر ميريت,2005), في هذا الكتاب قررنا أنه ورد في أحد المصادر الموثوقة تعريف دقيق للرؤية الاستراتيجية. ويري ضد المرجع أنها صورة ذهنية لما ينبغي أن يكون عليه عالم المستقبل. وبلورة الرؤية الاستراتيجية ينبغي أن يسبقها التنبؤ بتطورات الواقع الحالي, لتقدير الصورة التي سيتشكل عليها المستقبل. والمفكر الاستراتيجي الذي سيناط به صياغة الرؤية الاستراتيجية لابد أن يتأمل التاريخ, ويشخص الموقف الراهن, ويفحص الاتجاهات السائدة. والاستراتيجية ليست سوي آلية العبور للتحرك من العالم الذي تنبأنا بتطوراته المستقبلية إذا ظل الحال علي ما هو عليه, إلي العالم الذي صغنا ملامحه في رؤيتنا الاستراتيجية, ومن المهم التركيز علي أن الرؤية الاستراتيجية تساعد في توجيه صياغة الاستراتيجية وفي تنفيذها علي السواء, إنها تجعل الاستراتيجية تتسم بالمبادرة بدلا من أن تكون مجرد رد فعل عن المستقبل. وفي تقديرنا أن هذا التعريف من أشمل وأدق التعريفات التي أعطيت للرؤية الاستراتيجية في التراث النظري المعاصر. ولعل العنصر الأول من تعريف الرؤية الاستراتيجية بكونها صورة ذهنية لما ينبغي أن يكون عليه عالم المستقبل, يدفع إلي إثارة السؤال الأول في عملية الإصلاح أو التغيير وهو: ما هي الصورة التي نريد للمجتمع المصري أن يكون عليها بعد ربع قرن من الآن, وضعا في الاعتبار إعطاء مساحة زمنية كافية للإصلاحات الشاملة أن تؤتي ثمارها, بما تتضمنه من تفاعلات اجتماعية معقدة, تتضمن من بين ما تتضمنه القبول الاجتماعي للتغيير, أو مقاومته من قبل بعض المؤسسات أو جماعات المصالح, ومدي النجاح في مواجهة هذه المقاومة. غير أن العنصر الثاني يعد حاسما, وهو ضرورة التشخيص الدقيق للحالة الواقعية الراهنة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وتشخيص الواقع ليس مهمة سهلة كما يظن عديد من الناس, ذلك أن الواقع ليس مجرد معطي ملقي أمام الناس, ويمكن لهم أن يتفقوا علي توصيفه! ذلك أنك لو طرحت السؤال عن الواقع المصري فلن تعدم من أصحاب المصالح من يقول لك ليس هناك أبدع من ذلك! ولكنك علي الطرف المقابل ستجد أصواتا متعددة يشوبها اليأس والقنوط تؤكد أن الواقع مرير وأن السلبيات تغمر كل شيء وأن الفساد دب في كل المواقع! وكالعادة سنجد أصحاب الرؤية المتوازنة الذين لا يهولون ولا يهونون, والذين يمارسون ما نسميه النقد الاجتماعي المسئول, فينقدون السلبيات بجسارة, ولكنهم أيضا سعيا وراء موضوعية الحكم يبرزون الإيجابيات بقوة. وفي تقديرنا أننا في حاجة في المقام الأول لأصحاب الرؤية المتوازنة حتي لا تضيع الحقيقة بين أوهام الإنجازات الخارقة, وتضاعيف سحابات اليأس الخانقة! غير أن ذلك التوجه لا يكفي بذاته, فنحن في حاجة إلي منهج علمي صارم تقوم علي أساسه طريقه موضوعية للتقييم, لا تنهض علي أساس الانطباعات العابرة, أو التعميمات الجارفة, وإنما في ضوء مؤشرات كمية وكيفية, ينبغي اتقان صنعها حتي لا تميل الكفة هنا أو هناك, وتكون قادرة علي القياس الموضوعي. ويكفي في هذا الصدد أن نضرب مثلا بارزا بتقييم العائد من التعليم في مصر. وزارة التربية والتعليم تقرر وفقا لشهادات دولية متعددة أن التعليم قد أرتقي وارتفع مستواه وقارب في ذلك بلادا متقدمة غير ان الرأي العام يري رأيا مضادا مفاده أن التعليم في حالة انهيار, وتشهد علي ذلك مؤشرات شتي أهمها شيوع الدروس الخصوصية, وانخفاض مستوي المتعلمين. كيف نحسم الخلاف إذن في قضية بالغة الأهمية لعلاقتها بالتطوير الشامل للمجتمع, من زاوية تقييم الواقع ووصفه وصفا دقيقا؟ الواقع أن وزارة التربية والتعليم اصطنعت منهجا علميا لحل هذه المشكلة, وذلك لأنه من خلال الجهد المتصل لأكثر من مائتي أستاذ من أساتذة التربية, وضعت المعايير القومية لجودة التعليم والتي تتمثل في صياغة مؤشرات كمية وكيفية لقياس أداء المدرسة والمدرس والإدارة المدرسية والمقررات. وقد بدأ تطبيق هذه المعايير في مجموعة تجريبية من المدارس لقياس مدي صدقها وثباتها. هذا مجرد مثل يكشف عن أن وصف الواقع الراهن بدقة ليس مسألة سهلة, ذلك أنه بالإضافة إلي تأثير الاتجاهات الإيديولوجية لمن يقوم بوصف الواقع, هناك مشاكل فنية تتعلق بأدوات القياس, وطرق التشخيص, ومناهج التقييم, والواقع تتعدد مجالاته, ومن هنا نحن في حاجة للتدقيق في إطار وصف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, ليس فقط من خلال تقييمات الخبراء, ولكن أيضا عن طريق الاستماع بدقة لآراء الجمهور من خلال استطلاعات دقيقة للرأي العام. إذا كان وصف الواقع بدقة المهمة الأولي في صياغة الرؤية الاستراتيجية, إلا أن الجزء الأهم فيها, هو ما هي صورة المجتمع المصري التي نريدها بعد ربع قرن علي سبيل المثال, حتي تكون هذه الصورة المبتغاة هي الموجه لسياسات الإصلاح؟ هنا ندخل في صميم التحديات الخاصة بصياغة الرؤية الاستراتيجية. ولنأخذ علي سبيل المثال الإصلاح السياسي الذي اهتمت وثيقة الإسكندرية أن يكون في مقدمة أوجه الإصلاح المرغوبة. هل النظام السياسي المصري بأوضاعه الراهنة وأهمها أنه نظام رئاسي يعطي لرئيس الجمهورية سلطات واسعة المدي, بالإضافة إلي أنه يمنح السلطة التنفيذية سلطات متعددة, هو النظام الأمثل الذي نريده لمصر بعد خمسة وعشرين عاما, أم أن هناك فكرة ترددها بعض الأصوات السياسية تري أنه من الأفضل تغيير النظام السياسي المصري لتصبح مصر جمهورية برلمانية, ما من شأنه أن يقلص من السلطات الواسعة لرئيس الجمهورية, ويقوي في نفس الوقت من سلطات السلطة التشريعية؟ وسؤال آخر, هل الإصلاحات السياسية المطلوبة والتي تنادي بها الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني منذ سنوات, يمكن تحقيقها بقرارات جمهورية أو تشريعات يصدرها مجلس الشعب, أم أن دائرة الإصلاح السياسي ينبغي أن تتسع وهو ما يدعو بالتالي لمناقشة إمكانية تعديل الدستور ذاته؟ غير أن تعديل الدستور قد يفتح الباب أمام صراعات سياسية شتي من شأنها أن تؤثر علي جهود التنمية التي تحتاج إلي استقرار سياسي, ومن هنا في رأي الخطاب الرسمي لا ينبغي فتح باب تعديل الدستور في الوقت الراهن. وإذا انتقلنا إلي الإصلاح الاقتصادي سنجد أن وثيقة الإسكندرية علي سبيل المثال قد تبنت بالكامل سياسات التكيف الهيكلي وركزت أيضا علي موضوع المنافسة العالمية وضرورة وضعها في الاعتبار عند أي إصلاح. ولكن هل صحيح أن هناك إجماعا بين جميع الاتجاهات السياسية في مصر علي أن سياسات التكيف الهيكلي وحرية السوق وحرية التجارة وكل ما نصت عليه العولمة, هي السياسة الاقتصادية المثلي الكفيلة بحل أزمات الاقتصاد المصري الحادة, وفتح الباب واسعا أمام التنمية المستديمة, أم أن من شأنها إثراء القلة علي حساب الأغلبية من الجماهير, التي أدي التضخم وارتفاع الأسعار إلي زيادة أعباء الحياة عليهم, بل وأدي إلي سقوط شرائح متعددة إلي ما تحت خط الفقر؟ وفي مجال الإصلاح الاجتماعي, ما هي السياسات التي تنبغي صياغتها لمواجهة مشكلات البطالة, والفقر, واغتراب الشباب؟ وأخيرا في مجال الإصلاح الثقافي كيف سنواجه الصراع العنيف بين رؤية للعالم تركز علي الدين باعتباره الحل الأمثل للمشكلات, هذه الرؤية قد تجنح بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلي تبني تغيير معالم الدولة لتصبح دولة دينية, وتلك رؤية مضادة لطبيعة الدولة المصرية, والتي هي دولة مدنية تقوم علي التشريع ولا تقوم علي الفتوي, وتؤمن بفصل الدين عن الدولة, وليس فصل الدين عن المجتمع, كما يزعم أعداء العلمانية باعتبارها صيغة تتبعها الدول الحديثة لضمان استمرار جهود التنمية وتطوير المجتمع, بغير معوقات من مؤسسات دينية قد تنزع للزعم بأنها تمتلك الحقيقة المطلقة. كل هذه اعتبارات ينبغي وضعها في الاعتبار عند التصدي لصياغة رؤية استراتيجية ينبغي ألا تتفرد بوضعها النخب السياسية الحاكمة, ولكن يجب أن تكون حصيلة حوار ديمقراطي واسع المدي بين جميع الاتجاهات السياسية في البلاد. وفي هذا المجال لابد من الرصد الدقيق لمتغيرات المجتمع العالمي وتحولات النظام الإقليمي العربي وتغيرات المجتمع المصري.