أثارت سلسلة مقالاتنا عن الحضارة الجديدة وثورة الضمير العالمي, و عصر التناقضات الكبري, وعولمة أم هيمنة غربية, عديدا من ردود الأفعال من قبل قراء عديدين وكتاب, اهتموا بالمناقشة التفصيلية لأطروحاتنا عن عصر التناقضات الكبري, وعلي الأخص الدكتورة علياء رافع في مقالتها المنشورة في جريدة نهضة مصر في29 يونيو2010 وعنوانها هوامش علي رؤية سيد ياسين المستقبلية, وقد اهتمت علي وجه الخصوص بالصور المتعارضة التي رسمنا ملامحها للمشاهد الأساسية السائدة الآن في المجتمع العالمي. الصورة الأولي تشير إلي تبلور وعي كوني يركز علي قيم التسامح والاعتراف بالآخر, واحترام مبدأ النسبية الثقافية, علي أساس أنه ليست هناك ثقافة أسمي من ثقافة. والصورة الثانية هي الانعكاسات السلبية للعولمة, التي برزت في ارتداد شرائح متعددة من البشر في كل المجتمعات إلي الطائفيات والمذهبيات, بل وأكثر من ذلك إلي تجمعات قبلية قديمة, أو جماعات قبائلية جديدة! وطرحنا سؤالا رئيسيا: كيف نفسر تجاور هاتين الصورتين المتناقضتين معا في نفس الحقبة التاريخية, وفي ثقافات شتي تتراوح بين التقليدية والحداثة وما بعد الحداثة؟ وكان جوابنا يتمثل في نظرية التوفيقية أساس النظام العالمي والتي تذهب إلي أن ثمة صراعا محتدما يدور الآن في المجتمع العالمي بين أنصار الصورة التقدمية الأولي, واتباع الصورة الرجعية الثانية. غير أن الدكتورة علياء رافع لم تقتنع تماما بهذه الإجابة, علي أساس أن المفكرين ينبغي عليهم أن ينتقلوا من مجال الطرح النظري للأفكار إلي ميدان تأسيس حركة عالمية للتبشير بالثقافة الجديدة التي تركز عليها القيم الأساسية للصورة الأولي التي سبق أن رسمنا ملامحها. وقد وضعت الكاتبة يدها بذكاء علي مفتاح الحل, حين أشارت إلي الدور الأساسي الذي ينبغي أن تلعبه اليونسكو في هذا المجال, والتي عليها أن تعيد صياغة أهدافها مرة أخري, من أجل تعاون عالمي في مجال التعليم والعلوم الثقافة. والواقع أن هيئة اليونسكو بادرت عام1989 بصياغة مفهوم ثقافة السلام, التي تركز علي القيم الإيجابية للصورة الأولي التي رسمنا ملامحها, وذلك في المؤتمر الدولي عن السلام في أذهان البشر الذي عقد في ساحل العاج. ويجد عنوان هذا المؤتمر منطقه في أنه رد علي العبارة الشهيرة التي وردت في ميثاق هيئة اليونسكو, وهي أن الحرب فكرة تنشأ في أذهان البشر, ويريد المؤتمر أن يؤكد وهكذا أيضا فكرة السلام. ومن هنا يمكن القول إن مفهوم ثقافة السلام هو الذي يعبر عن الثقافة الجديدة التي تدعونا الدكتورة علياء رافع كمفكرين وممثلين لهيئات المجتمع المدني أن نتكاتف في إطار حركة عالمية, للتبشير بهذه القيم, ورسم الاستراتيجيات التعليمية والإعلامية المناسبة لتفعيلها في كل المجتمعات المعاصرة. والواقع أنه يمكن القول إن هناك سبع سمات رئيسية ميزت تطور بحوث السلام باعتبارها مجالا علميا جديدا تبلورت ملامحه منذ عقود وهي: 1 اهتمام بالتصدي لجذور الأسباب التي تؤدي إلي العنف المباشر, واستطلاع الطرق التي يمكن عن طريقها التغلب علي ضروب عدم المساواة البنيوية, وتأسيس علاقات عادلة وتعاونية بين التجمعات الإنسانية وفيما بينها. 2 التيقن من الحاجة إلي استجابة تقوم علي التضافر بين العلوم الاجتماعية المختلفةInterdisciplinary, وضعا في الاعتبار تعدد أوجه الصراعات العنيفة, ومن هنا تم الاعتماد علي نظريات العلوم السياسية والاجتماعية, بالإضافة إلي بحوث علم النفس الاجتماعي والانثروبولوجيا. 3 تميزت الجهود في مجال بحوث السلام بالبحث عن الطرق السلمية لحل النزاعات, والهدف هنا هو تفادي وقوع الصراعات العنيفة, والبحث عن طرق سلمية لحلها إذا اندلعت, 4 الحرص علي التحليل متعدد المستويات, ونعني علي مستوي الفرد والجماعة والدولة ومستوي العلاقات بين الدول, وذلك في محاولة لتجاوز الثنائية المؤسسية للدراسات حول الأسباب الداخلية والخارجية للصراعات, لأنها لم تؤد إلي الفهم الصحيح للموضوع. 5 تبني نهج كليglobal ومتعدد الثقافات, من شأنه أن يحدد مصادر العنف علي المستوي العولميglobal والإقليمي والمحلي, ومحاولة استلهام مفاهيم السلام والتغيرات الاجتماعية غير العنيفة في كل الثقافات. 6 الفهم السائد أن بحوث السلام هي تحليلية ومعياريةnormative في الوقت نفسه. 7 ويرتبط ما سبق بالصلة الوثيقة بين النظرية والتطبيق في بحوث السلام, ولذلك لابد من التفرقة الواضحة بين بحوث السلام والعمل النشيط من أجل السلام. وقد نبع مفهوم جديد هو ثقافة السلام من واقع الأبحاث المتراكمة التي دارت حول بحوث السلام, وثقافة السلام تعني تلك الثقافة التي يمكن أن تجعل السلام ممكنا, غير أن التحديد الدقيق لثقافة السلام سيعتمد علي المعني الذي نعطيه لمفهوم السلام نفسه. وقد حاول بعض الباحثين الثقات تحديد المعاني المختلفة للسلام وأجملوها في خمسة معان كما يلي: 1 السلام باعتباره غيابا للحرب. 2 السلام باعتباره توازنا بين القوي في النظام الدولي. 3 السلام باعتباره سلاما سلبيا( ليس هناك حرب) وسلاما إيجابيا( ليس هناك عنف بنيوي). 4 السلام الكلي مع البيئة. 5 السلام الكلي الداخلي والخارجي. ويري هذا المفهوم أن السلام الداخلي الروحي مسألة أساسية. وبناء علي ذلك اهتمت هيئة اليونسكو بصياغة برنامج عن ثقافة السلام. ويمكن القول إن اهتمام اليونسكو بثقافة السلام ووضعه برنامجا دائما لذلك, قد أدي إلي دفعة قوية لهذا المفهوم الجديد. ويمكن القول ان تطور مفهوم ثقافة السلام في اليونسكو قد مر بمراحل متعددة, والبداية كانت عام1989, حيث صيغ مفهوم ثقافة السلام في المؤتمر الدولي السلام في أذهان البشر الذي عقد في ساحل العاج. وقد أوصي المؤتمر أن تساعد اليونسكو في صياغة رؤية جديدة للسلام من خلال صياغة مفهوم ثقافة السلام, التي تقوم علي أساس القيم العالمية التي تتمثل في احترام الحياة, والحرية, والعدالة, والتضامن, والتسامح, وحقوق الإنسان, والمساواة بين الرجال والنساء. وقد صيغت هذه المبادرة في سياق عالمي انهار فيه حائط برلين, وانتهت التوترات الخاصة بالحرب الباردة. وفي عام1992 طلب المجلس التنفيذي لليونسكو صياغة برنامج خاص لثقافة السلام باعتباره إسهاما في مجال جهود الأممالمتحدة لحفظ السلام. وتقدم اليونسكو خدماتها بعد نهاية الصراعات لبناء السلامPeacebuilding وقد نفذت برامج وطنية في عدد من الأقطار في أمريكا الوسطي( في السلفادور) وفي إفريقيا وموزمبيق وبوروندي وفي الفلبين, وعقدت عام1994 أول ندوة دولية عن ثقافة السلام في السلفادور. وفي عام1995 أدخل المؤتمر العام الثامن والعشرون لليونسكو مفهوم ثقافة السلام في الاستراتيجية لأعوام1996 .2001 وطبق في الأعوام من1996 إلي عام2001 البرنامج المترابط وشمل ذلك مؤسسات المجتمع المدني والشباب والبالغين وشبكات الميديا, ومحطات الإذاعة المحلية, والقادة الدينيين الذين يعملون من أجل السلام, وأصبح عدم اللجوء للعنف والتسامح متضمنين في مجال نشر ثقافة السلام في العالم. وتم الاعتراف في عام1997 بأهمية خبرة اليونسكو في مجال ثقافة السلام, وقد أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورة عقدها الثانية والخمسين أجندة خاصة بعنوان نحو ثقافة السلام واستجابت الجمعية العامة لتوصيات المجلس الاقتصادي والاجتماعي لإعلان أن عام2000 هو العام الدولي لثقافة السلام. وأصدرت في عام1998 الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا ينص علي أن الحقبة من2001 إلي2010 تعتبر حقبة ثقافة السلام وعدم ممارسة العنف ضد الأطفال علي مستوي العالم, وذلك بناء علي اقتراح قدمته مجموعة من الذين حصلوا علي جائزة نوبل للسلام. وقد تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام1999 إعلان تطبيق برنامج العمل لثقافة السلام, محددا ثمانية مجالات لكي تترابط مع بعضها في إطار نهج متماسك لثقافة السلام وعدم ممارسة العنف, وهذه المجالات هي: تدعيم ثقافة السلام من خلال التعلم, وتدعيم التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستديمة, وتدعيم الاحترام لكل الحقوق الإنسانية, وضمان المساواة بين النساء والرجال, وتدعيم المشاركة الديمقراطية, وتدعيم اتجاهات الفهم والتسامح والتضامن, وتدعيم الاتصالات المشاركة والتدفق الحر للمعلومات والمعرفة, وتدعيم السلام الدولي والأمن للشعوب. وفي عام2000 تقرر متابعة تنفيذ العام الدولي لثقافة السلام. وواصلت اليونسكو نشاطا ملحوظا في مجال تطبيق ثقافة السلام في ميادين مختلفة. ومن أبرز أنشطتها عقدها للمؤتمر الدولي الأول لمديري مراكز بحوث السلام ومؤسسات التدريب. وقد عقد المؤتمر في باريس من27 28 نوفمبر عام2000 وكان موضوعه: أي أجندة للأمن الإنساني في القرن الحادي والعشرين. وقد عقدت في إطار هذا المؤتمر الرائد خمس موائد مستديرة بيانها كما يلي: التحديات الرئيسية التي تواجه تدعيم الأمن الإنساني في إفريقيا, وفي أوروبا, وفي أمريكا اللاتينية, وفي الدول العربية, وفي آسيا, والباسيفيك. وقد أصدر المؤتمر مجموعة توصيات نهائية مهمة وكذلك أجندة العمل. وهكذا يمكن القول إن برنامج اليونسكو عن ثقافة السلام, يمكن أن يكون أساسا لحركة عالمية من أجل ثقافة إنسانية جديدة. المزيد من مقالات السيد يسين