بعد انتهائي من كتابة مقال الأسبوع الفائت والذي حمل عنوان "الدولة الناصرية القوية ودولة السادات الرخوة" تعقيباً علي ما كتبه الدكتور جلال أمين أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة تصورت أنني قد انتهيت من طرح رؤية مغايرة لما طرحه دكتورنا الجليل حتي الحلقة الثالثة من مقالاته التي نشرتها جريدة المصري اليوم تحت عنوان "كيف نشأت وتطورت الدولة الرخوة في مصر".. إلا أنني فوجئت في الحلقة الرابعة والأخيرة والتي جعلتني أقوم بكتابة المقال الثالث رداً عليها.. ونستعيد قراءة الحلقات كاملة وأستسمح القارئ في أنني سأقتطع ست فقرات من مقالاته الثلاث إضافة إلي مقدمة الحلقة الرابعة لأنها ستعيننا علي فهم الخطاب السياسي الاقتصادي الذي يؤصل للدولة الاستبدادية. يقول الدكتور جلال أمين (1) في عهد الرئيس مبارك تضافرت قوي العولمة مع الميول الشخصية للممسكين بدفة الحكم وأصحاب المناصب الكبري لخلخلة أسس الدولة في مصر حتي أصبح منظر الدولة بعد ثلث قرن من وفاة جمال عبد الناصر يدعو إلي الرثاء تارة، وإلي السخرية تارة أخري (2) نظراً لاعتماد مصر اعتمادا كلياً علي النيل، فالنيل يحتاج إلي تدخل مستمر من جانب الدولة، أي دولة مركزية قوية لمجرد استمرار الحياة نفسها سواء عندما يكون النيل سخياً. بمياهه فتتدخل الدولة بتوزيعها توزيعاً عادلاً أو عندما يكون النيل كريماً أكثر من اللازم فتتدخل الدولة لحماية الأرض والسكان من اكتساح الفيضان لها"... ويضيف (3) إن الشخصية المصرية من سماتها تسليم قيادتها إلي حاكم قوي ولا تستطيع تنظيم مشروع بنجاح اعتماداً علي مجرد التعاون بين مجموعة من الأفراد، بل يحتاج هذا دائماً إلي وجود رئيس قوي.. واعتياد المصريين وجود دولة مركزية لعدة آلاف من السنين"... ويضيف (4) العقود الثلاثة التي اعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية (1945 - 1975) اتسمت بالتدخل الشديد من جانب الدولة في الاقتصاد والمجتمع. وأنا لا أقصد مصر وحدها بل العالم الثالث كله. بل في بعض صورها العالم المتقدم اقتصادياً أيضاً. كان هذا التدخل الشديد من جانب الدولة يتخذ صورة التأميم وإقامة أسوار الحماية ضد الواردات والاستثمارات الأجنبية وفرض الضرائب العالية".. ويضيف (5) كان جمال عبد الناصر صاحب مشروع جديد فجلب لتنفيذه رجالاً يؤمنون بهذا المشروع وكان أنور السادات صاحب مشروع جديد فجلب لتنفيذه رجالاً يؤمنون بهذا المشروع وهذا الاختلاف الواضح يساعد في فهم لماذا كانت الدولة المصرية قوية في عهد عبد الناصر وبدأ يعتريها الضعف في عهد السادات" ويضيف (6).. "شخصية الرئيس الجديد الذي حل محل عبد الناصر في 1970م، اجتمعت فيه عدة صفات ساعدت علي تفكيك الدولة المصرية، فمن ناحية لم يكن أنور السادات يشيع الرهبة في الناس مثلما كان يشيعها سلفه ويضيف(7) كان أنور السادات بطبعه أضعف من أن يقاوم هذا التفكيك بل كان بصفاته الشخصية عاملاً مساعداً في حدوثه". وليسمح لي الدكتور جلال أن نبدأ بمقدمة حلقته الرابعة والتي أشار فيها إلي أن قوي العولمة تضافرت من الميول الشخصية للممسكين بدفة الحكم، وأن منظر الدولة المصرية يدعو للرثاء بعد ثلاثين عاماً من غياب عبد الناصر.. وكأن رياح العولمة عندما تهب ستخشي وجود عبد الناصر.. ومن هنا لابد من وقفة لفض الاشتباك بين العولمة والخصوصية.. إن الدولة العصرية المدنية الحديثة هي إحدي أدوات قتل العولمة وبالتالي فإن العولمة لن يكون لها تأثير علي خصائص الدولة ولا تغير هويتها أو تجور علي فعاليتها، بشرط أن تقدر أية دولة علي تقوية مؤسساتها وإصلاحها لدرء خطر النتائج غير المرغوب فيها للعولمة.. و من خلال هذه العولمة يحل تدريجاً النفوذ الأفقي للسوق محل القدرة الرأسية للدولة، فعلي نقيض التدويل، تقلص العولمة دور الدول والأمم من خلال الدمج العملي لمختلف النشاطات وبالتالي تنحسر السلطة الاستبدادية للدولة بينما تزداد مرونة الأجهزة التنشيطية لها.. وهذا ما نشاهده في دول أوروبا وأمريكا الشمالية وحتي دول جنوب شرق آسيا التي تؤدي فيها حرية تنقل رؤوس الأموال والثروات والخدمات وحرية تنقل الأفراد إلي تحويل ممارسة السلطة من صفتها الرأسية إلي كونها أفقية مدفوعاً بتقدم البحوث والعلوم والتكنولوجيا. وهناك حقيقة مهمة وهي أنه إذا كان الانتقال من القومي إلي الدولي ثم العولمة يعود إلي حد كبير إلي التطور المعرفي والتكنولوجي فإن هذا التطور يتيح بدوره فهم الاختلافات التي طرأت علي المجالات والأزمنة التي لم تعد واحدة بالنسبة للمجالين السياسي والاقتصادي.. وهو عكس ما يتصوره الدكتور جلال أمين عندما يقارن بين عصرين في مجالين مختلفين عصر الدولة الناصرية المستبدة وعصر دولة السادات وما بعدها المنفتحة علي العالم فبينما تتجه الساحات الاقتصادية نحو الاندماج، كما هو الحال في التكتلات الاقتصادية العالمية، تميل الساحات السياسية إلي التجزؤ مثلما حدث خلال العقد الأخير من القرن العشرين عندما ظهر ثلاثون بلداً جديداً إثر انهيار النظام الشيوعي المستبد في الاتحاد السوفييتي.. هذا الواقع الجديد فرض علي الدول اعتبار حقوق الفرد واستشارة المجموعات ذات الهوية المشتركة أمراً مقبولاً. ومن هنا فإن الحديث عن أن العولمة هي النقيض للدولة القوية أو تنال من خصوصيتها هو حديث ينقصه دليل النقيض، فالعولمة طوال التاريخ الذي شهد اتجاهات عولمية عديدة لم يفصح عن تأثر الشخصية الوطنية بالمعني الكلاسيكي، فلم تنل من الانتماء أو الجغرافيا أو استقلال القرارات السياسية والاقتصادية، بل إن ما حدث هو أن الساحات الدولية أفضت إلي تحويل ممارسات النفوذ للثفافة السياسية التقليدية كما كان متبعاً أثناء الدولة الناصرية إلي اتباع نهج الحداثة، بمعني ان تكون تلك الثقافات السياسية قادرة علي مواجهة التحديات والإجابة علي الأسئلة بإيجابية وأن تكون مساحات التجربة أعلي بكثير من فضاءات الميتافيزيقا.. أما الانطباع الذي يتسيد موقف الدكتور جلال أمين عند حديثه عن نشأة الدولة الرخوة في مصر أنها تزامنت مع رياح العولمة، وأنها تحتاج لدول ضعيفة، وأنها حالة غزو واستعمار وهيمنة وأنها انتقال تدريجي في طور حركات الغزو خاصة الغربي وعلي الأخص الأمريكي، فإن هذه الشكوك غير مؤكدة وهذا المنطق يشوبه بعض العيب فهناك بالفعل فرق بين العولمة والهيمنة فالعولمة ظاهرة معرفية كونية فرضتها شروط التطور وتفاعلات الأنظمة السياسية الحديثة والمدنية مع متطلبات هذه العولمة، أما الهيمنة فهي نتاج سياسات إجرائية ذات آليات وسياسات واضحة لها فوائدها السياسية والاقتصادية المباشرة. الأمر الآخر أن الدكتور جلال أمين تصور ضمن ممن تصوروا أن العولمة مجرد هيمنة وسيطرة لغزو الرأسمالية وقوي التكنولوجيا والسلاح النووي، وتغافلوا أن العولمة عملية مكثفة لاستثمار وتبادل المعارف والمصالح.. وأن هؤلاء الذين اتخذوا موقفاً من العولمة هم أنفسهم الذين اتخذوا موقفاً من الحداثة ومن قبلها موقفا من الديمقراطية ومن قبلها ارست معايير الاستبداد علي جميع الأصعدة وإحلال كل ما هو ايديولوجي بديلاً عن كل ما هو سياسي، ولم يعوا أن الزمن يتسارع وأن الرجعية التي تسكن الأدمغة ستطال الأجساد وتذيبها بلا ثمن سوي الهزيمة الساحقة للأفكار المضللة والأوهام التاريخية. ومن يتأمل الفقرات السبع التي تضمنتها حلقات الدكتور جلال أمين سيلحظ مدي التحيز لدولة الاستبداد والسخرية الشديدة من دولة التفاعل مع العالم بمتغيراته السياسية والاقتصادية، إضافة إلي التقليل من مشروع أنور السادات الذي قال إن شخصيته وصفاته ساعدت علي تفكيك الدولة عكس عبد الناصر الذي كان يتمتع بقوة الشخصية، أليس في هذا تحليل نفسي مبتسر وغير علمي وغير منضبط، ما هي هذه الصفات؟ أليس من العلمية أن نحاكم مشروع الاثنين السياسي والاقتصادي وكيفية التعامل مع الأحداث، بل واستشراف المستقبل القريب وهذا ما يميز القائد السياسي المبتكر عن القائد السياسي ذي الأفق الضيق. إن ما فعله الرئيس السادات خلال عشر سنوات هي فترة حكمه، من استشراف التحولات الدولية و احتياجات الشأن الداخلي، فكانت ثورة تصحيح في مايو 1971م بالتخلص من بقايا الأجهزة الاستبدادية ودولة الحزب الواحدة" تم تلي ذلك طرد خبراء الحليف الذي كان وإن ظلت قواته ستقلل من قيمة ما فعلته المؤسسة العسكرية الباسلة في اكتوبر 1973 واستعادت الأرض التي تسبب نظام يوليه السياسي الاستبدادي في التفريط فيها، وفي عام 1975م استشرف التحولات الدراماتيكية في أوروبا الشرقية قبل حدوثها بما يزيد علي عشرة أعوام، وفي العام 1977م استجاب للتحديات الداخلية بعودة الحياة الحزبية مرة أخري بعدما ألغتها الدولة الناصرية (القوية)كما يقول جلال أمين. وتم فتح الأسواق المصرية لمزيد من الاستمارات الأجنبية التي أثبتت تجارب العالم في العشرين سنة الأخيرة أهميتها لكل البلدان، لما تدل علي الاستقرار السياسي غير المخاطر وقدرة البلاد الاقتصادية علي جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية، وتجاوز الاقتصادات الحمائية وتفعيل اللامركزية في إدارة شئون البلاد، وهو ما يصفه جلال أمين بالرخوة رغم الدراسات العلمية الحديثة التي تؤكد أهمية تفعيل اللامركزية والشفافية ودولة تكافؤ الفرص في العصر الحديث. وأخيراً، فلعل الدول التي لم تتخذ من التحديث والليبرالية كمترادفين هي مجتمعات مغلقة أوجدت لنفسها أغشية كاتمة ضد التأثيرات الخارجية، وغالباً ما قد تساعدها تلك الأغشية في تطوير أنظمة دفاعية قوية منيعة تتيح لهم حفظ وإعادة إنتاج أساليب حياتهم التقليدية الصارمة، وبتراكيب ثقافية ذات سمعة قمعية، إلا أنها لا تؤهلها للولوج للعالم المنفتح.. ونأمل من الدكتور جلال أمين وهو عالم اقتصاد واجتماع مرموق بإحدي أشهر الجامعات علي أرض مصر وهي الجامعة الأمريكية أن يساهم في التأصيل لما يجب فعله أمام التحديات التي تواجهها دونما الالتفات والتحسر علي دولة الاستبداد.