ترجع علاقتي بالأهرام إلي أكثر من أربعين سنة مضت. وقد بدأت هذه العلاقة تأخذ شكلا شبه تنظيمي بعد حرب1967 عندما أسس الأهرام في ظل رئاسة الأستاذ هيكل مركز الدراسات الفلسطينية والذي تحول بعد ذلك إلي مركز الدراسات الإستراتيجية حيث عهد إلي في ذلك الوقت وكنت مدرسا في جامعة الاسكندرية الاشراف علي الوحدة الاقتصادية به. وكنت في الوقت نفسه أرسل مقالاتي بخط اليد إلي الأهرام حيث كانت تنشر رغم طولها النسبي دون أن أكون علي معرفة بأحد ممن يعملون بالأهرام. وقد أذكر واحدا من هذه المقالات التي نشرت في وقت مبكر نسبيا بعنوان الانفتاح علي البحر المتوسط في يونيو1970, حيث كانت من المرات الأولي التي يستخدم فيها اصطلاح الانفتاح في مفردات الحياة السياسية المصرية, وذلك قبل أن يصبح سلعة شائعة مع الانفتاح الاقتصادي, وكان جوهر المقال الاشارة إلي أهمية تعاون دول البحر المتوسط, وجاءت الدعوة إلي إنشاء الاتحاد من أجل المتوسط بعد أربعين سنة, ترجمة متأخرة لما جاء في ذلك المقال. وعندما انتقل المرحوم الأستاذ أحمد بهاء الدين للعمل في الأهرام, وكان يشرف علي صفحة الرأي, فقد كنت أرسل مقالاتي باسمه للنظر في نشرها, وذلك قبل أن أعرفه شخصيا. وكان يخصص نصف صفحة وأحيانا أكثر لنشر بعض مقالاتي. وبالمصادفة التقيت به لأول مرة في المصعد في مقر الأهرام, وعرفته بنفسي, ورحب بي كثيرا مؤكدا اهتمامه بكل ما أكتب. وبعد ذلك, توثقت علاقتي بالأستاذ بهاء, خاصة بعد أن انتقل للعمل رئيسا لتحرير مجلة العربي في الكويت, حيث كنت أعمل, آنذاك, في الصندوق العربي للإنماء. والطريف أنني اكتشفت بعد ذلك بسنوات أن ترشيحي للعمل في ذلك الصندوق جاء من الأستاذ بهاء الدين, والذي لم أكن أعرفه, عندما طلب منه صائب جارودي رئيس الصندوق آنذاك, ترشيح أسماء من الشبان الاقتصاديين للعمل في الصندوق. ومادمت أتحدث عن علاقتي بالأهرام, فلابد أن أذكر واقعة مهمة مرتبطة بأحد المقالات التي نشرها لي الأهرام حيث نشرت مقالا بعنوان الاقتصاد أخطر من أن يترك للاقتصاديين, ونشر في فبراير1976 بعد انتهاء حرب أكتوبر والانشغال بالبناء لما بعد الحرب. ويبدو أن الرئيس السابق المرحوم أنور السادات قد اهتم بالمقال, فأرسل لي عن طريق مكتبه وكنت مازلت أعمل بالكويت للحضور إلي القاهرة لمناقشته. وبالفعل ذهبت إلي القاهرة وقابلت الرئيس السابق في حضور نائب الرئيس( آنذاك) الرئيس مبارك. وسألني السادات رحمه الله عن رؤيتي الاقتصادية. وعندما عدت بعد ذلك إلي القاهرة في بداية الثمانينات عهد إلي رئاسة البنك المصري لتنمية الصادرات, استمرت علاقتي بالكتابة للأهرام, بين الحين والآخر, في القضايا العامة. وقد أصدرت نتيجة لذلك عدة كتب: في الحرية والمساواة, التغيير من أجل الاستقرار, محنة الاقتصاد والاقتصاديين, دور الدولة في الاقتصاد, وحديث في السياسة, وأخيرا من وحي القرن العشرين. وتضم معظم هذه الكتب مقالات سبق نشرها خاصة في الأهرام. وبعد أن تولي الدكتور بطرس غالي الأمانة العامة للأمم المتحدة رشحني للعمل وكيلا للأمين العام أمينا تنفيذيا للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا. وكنت أعرف الدكتور غالي من قبل باعتباره أستاذا في كلية الاقتصاد, وبوجه خاص بسبب رئاسته لتحرير الأهرام الاقتصادي, حيث كنت أنشر فيها بعض المقالات بين الحين والآخر, وفي أثناء مقابلتي له في نيويورك وقبل إصدار قرار تعييني, أشرت إلي أنني أكتب بين الحين والآخر في الأهرام, ولا أنوي التوقف عن ذلك بسبب عملي الجديد في الأممالمتحدة, وذكرت له, أنني أكتب علي أي الأحوال دون مقابل مالي. فوافق الدكتور غالي ولم يجد مبررا للاعتراض, واستمرت كتاباتي في الأهرام خلال عملي في الأممالمتحدة. وبعد انتهاء عملي في الأممالمتحدة وعودتي إلي القاهرة, زرت الدكتور عبد المنعم سعيد في مركز الدراسات الإستراتيجية, وذكرت له نيتي الاستقرار في القاهرة, فاقترح أن يتحدث مع الأستاذ إبراهيم نافع للكتابة بشكل منتظم في الأهرام, وقد رحب الأستاذ إبراهيم نافع بذلك حين قابلته, واقترح أن أكتب أسبوعيا فذكرت له أنني أفضل الكتابة كل أسبوعين, وأن أستمر في الكتابة بدون مقابل. وهكذا أصبحت أحد كتاب الأهرام المنتظمين في الكتابة. وفي ذات الوقت تقريبا, طلب مني رئيس صندوق النقد العربي ومقره أبو ظبي العمل مستشارا للصندوق. وكنت مترددا آنذاك في قبول العرض, وذكرت لرئيس الصندوق ضمن أمور أخري كمبرر للتردد أنني أكتب بشكل منتظم في الأهرام, ولا أنوي أن أتخلي عن هذه المهمة التي أجد فيها متعة كبيرة ونوعا من الواجب الوطني. فقال إنه لا تعارض بين الأمرين, ويمكن الاستمرار في الكتابة رغم العمل في الصندوق. وانتهي الأمر بقبولي العرض, وانتقلت إلي أبو ظبي مع الاستمرار في الكتابة للأهرام. كل هذا جميل, وأنا سعيد بما أكتبه في الأهرام, ولكن هناك مشكلة, وهي ليست بالضرورة مشكلة في الأهرام, بقدر ما قد تكون مشكلة في أنا شخصيا. كيف؟ المشكلة باختصار هي أن مقالاتي أطول مما يتحمله الأهرام بالنشر إلي المساحات المتاحة للكتاب, وبالتالي ففي بعض الأحيان وليس دائما تقوم إدارة التحرير بحذف أو اختصار بعض الأجزاء لاعتبارات المساحة المتاحة. وأحيانا أجد أن الحذف غير مبرر وأنه يخل بالمعني المقصود من المقال. هذه هي المشكلة. وأنا أعتقد أن المشكلة راجعة إلي شخصيا بالدرجة الأولي نتيجة لنوع من التشويه المهني. لقد بدأت حياتي المهنية بعد أن عدت من البعثة في الخارج بالتدريس في الجامعة. ويبدو أنني لم أتخلص كليا من مهنة التدريس, فهي أشبه بالمرض العضال. فعندي اقتناع دفين بأن معظم مشاكلنا في المناقشات العامة ترجع إلي عدم وضوح الكثير من الأفكار والمباديء الأساسية التي تبدو بديهية. ولذلك فإنني أحاول كمدرس شرح هذه الأمور وتبسيطها وبحيث يتحقق أكبر قدر من التوافق علي الأفكار والمبادئ الأولية, ثم بعد ذلك لا بأس من الخلاف في التقييم والتقدير. وهكذا تتضمن معظم مقالاتي جرعة تعليمية بإعطاء خلفية تاريخية عن الموضوع أو محاولة التعريف للظاهرة وتميزها عما يختلط بها, وهكذا. وكل هذا يتطلب مقالات طويلة بعض الشيء. والأهرام معذور, فعنده مساحة محدودة, وأنا من ناحيتي غير قادر علي التخلص من هذا المرض العضال. وهذا المقال نفسه نموذج علي ذلك, فبدلا من أن أقتصر علي عرض المشكلة بدأت بعرض تاريخي مع الأهرام, وهي مشكلة ليست فقط قاصرة علي علاقتي بالأهرام, بل أن زوجتي تتهمني دائما ظلما طبعا كعادة الزوجات بأنني لا أتحدث مع الناس وإنما أقوم بإلقاء محاضرات. وهذه باختصار هي المشكلة. بقي أن أضيف كلمة صدق من أحد أبناء الأهرام القدامي. لقد كانت الأهرام الصحيفة الأولي ليس في مصر وحدها بل في العالم كله, ومن الطبيعي أن تظهر صحف جديدة في مصر وفي العالم العربي, كما أنه من الطبيعي أن يبرز بعضها بالتمييز في جانب أو جوانب, فهذه سنة الحياة. ولكن الأهرام والتي تحمل اسم أحد المعالم التي وقفت في تحد أمام الزمن كأحد أهم عجائب العالم, فإنه, حري بالجريدة التي تحمل هذا الاسم أن تحتفظ بمكانتها التي يتوقعها منها محبوها. والله أعلم. www.hazembeblawi.com المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي