تحدثنا من قبل عن ضرورة صياغة رؤية استراتيجية لمصر, وهذه الرؤية ينبغي أن تتضمن أجندات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. وقد سبق لنا أن كتبنا مقالتين عن الأجندة السياسية والاقتصادية, ونحاول اليوم تحديد ملامح الأجندة الاجتماعية المستقبلية. وهذه الأجندة لا يمكن رسم ملامحها بغير تشخيص دقيق للوضع الاجتماعي الراهن في المجتمع المصري. وهذا الوضع لو نظرنا أساسا للسلبيات البارزة فيه لوجدنا أنه يتسم بعدة سمات, لكل منها خطورة بالغة علي التنمية المستديمة, ومعوقة لمسيرة التقدم. علينا أن نرسخ أولا قواعد مجتمع المعلومات, والتي تقوم علي أساس الديمقراطية, والشفافية, وحرية تداول المعلومات مجانا ولأي مواطن. لابد للأجندة الاجتماعية في المستقبل أن تجابه بشكل إيجابي خطورة الانقسام الاجتماعي الراهن الذي يمكن أن يهدد السلام الاجتماعي والاستقرار السياسي. ولعل أول سلبية هي ارتفاع معدل الأمية في مصر, والتي تصل في أكثر التقديرات تواضعا إلي38% وإن كانت بالفعل لا تقل عن40% ومعني ذلك أن40% من سكان مصر الذين بلغوا ثمانين مليونا يعانون من لعنة الأمية, وهذا يعني أنهم عاجزون عن الإسهام بفعالية في برامج التنمية المختلفة. وأخطر من ذلك أن هذه الأمية التي عجزنا طوال عشرات السنين عن محوها, تؤدي إلي انخفاض الوعي الاجتماعي لدي ملايين المصريين, وهذه الظاهرة تتسبب في إفشال برامج التنمية المختلفة, ومن أهمها برامج تنظيم الأسرة وتخفيض معدلات البطالة. وقد ثبت من البحوث الميدانية أن الأميين لا يستجيبون إلي برامج تنظيم الأسرة, ولا يزالون يؤمنون ببعض العادات التقليدية المتوارثة, وبعض الفتاوي الدينية المزيفة, التي تحض علي الإكثار من النسل. وإذا أضفنا إلي ذلك أن إنجاب الأطفال بكثرة يجد دوافع إضافية في اعتماد أسرهم عليهم في العمل لزيادة دخل الأسر, لاكتشفنا أن ظاهرة زيادة السكان تتعدد أسبابها. وربما كان السبب في استمرارها العجز الحكومي عن وضع استراتيجية شاملة للمواجهة, لا تقف عند حدود البرامج الدعائية, ولكنها تتجاوز ذلك إلي الحفر في التربة الثقافية للكشف عن الموروثات التقليدية التي تقف وراء سلوك الإنجاب غير المحدد. وارتفاع معدلات الأمية أدي إلي ضعف إمكانات وقدرات القوي البشرية في مصر, وهناك إجماع بين الباحثين علي تردي هذه الإمكانات, لأن الأمية بذاتها تقف حائلا دون نجاح برامج التدريب التي تصمم لرفع مستوي هذه القدرات. وقد أدي هذا الوضع إلي أن شركات مصرية وأجنبية متعددة لجأت إلي العمالة الأجنبية لعدم توافر المهارات اللازمة في العمالة المصرية. وإذا كانت هناك أبعاد تنموية واقتصادية في ظاهرة الأمية, فإنها تنطوي بذاتها وخصوصا ما يتعلق منها بانخفاض مستوي الوعي الاجتماعي والثقافي علي آثار ثقافية مدمرة. وذلك لأن انخفاض هذا الوعي هو الذي سمح للتيارات الدينية المتطرفة بأن تغزو عقول ملايين الأميين, وتسجلهم من ميدان التسامح التقليدي الذي تنطوي عليه التعاليم الإسلامية, إلي مجالات متعددة للتطرف الديني الذي قد يؤدي بتوافر شروط خاصة إلي الإرهاب. وقد أدي التطرف الديني في بلادنا إلي نمو تيارات من التعصب المذموم إزاء الأديان السائدة في بلادنا, فهناك تعصب إسلامي متطرف يشيع بين ملايين الناس ضد الأقباط, وهناك تعصب قبطي مضاد ضد المسلمين. وقد ولد هذا المناخ بذور فتنة طائفية ظهرت مؤشراتها في السنوات الأخيرة, وذلك من خلال حوادث مؤسفة, حدثت في مدن مصرية متعددة نشرت وقائعها في الصحف بالتفصيل. وأخطر من ذلك قيام مظاهرات متعددة إسلامية موجهة ضد الأقباط, بتأثير إشاعات كاذبة تتعلق بإسلام بعض النساء القبطيات, كما قامت مظاهرات قبطية مضادة, ومعني ذلك أن الأمية السائدة وانخفاض مستوي الوعي الاجتماعي حتي بين شرائح المتعلمين المختلفة, يمكن أن تكون لهما آثار خطيرة علي السلام الاجتماعي في البلاد. ولذلك لابد أن تتضمن الأجندة الاجتماعية في المستقبل برامج فعالة لمحو الأمية في زمن متوسط, وسياسات تعليمية وثقافية, وإعلامية لرفع مستوي الوعي الاجتماعي بين الجماهير, وهذه السياسات لا ينبغي للحكومة أن تنفرد بوضعها, ولكن لابد لمؤسسات المجتمع المدني المختلفة أن تشارك فيها بفاعلية, وكذلك مراكز الأبحاث العلمية وطلائع المثقفين, الذين يؤمنون بالتنوير وأهمية ترسيخ قواعد الدولة المدنية. كما أنه لابد من صياغة سياسة منتجة لتدريب القوي البشرية, بحيث تضع في الاعتبار التطور التكنولوجي الهائل الذي شق طريقه في البلاد الصناعية المتقدمة. إن العالم ينتقل بخطي سريعة من مرحلة مجتمع المعلومات إلي مجتمع المعرفة. وعلينا أن نرسخ أولا قواعد مجتمع المعلومات, والتي تقوم علي أساس الديمقراطية, والشفافية, وحرية تداول المعلومات مجانا ولأي مواطن. وبعد استكمال هذه البنية المعلوماتية, علينا أن نعد أنفسنا للانتقال إلي نموذج مجتمع المعرفة, ولا يمكن لنا أن ننتقل إلي هذا المجتمع المتقدم إلا إذا أحدثنا ثورة في مجال التعليم, من أول التعليم الأساسي إلي التعليم الجامعي, وذلك في ضوء شعار العصر, وهو أن التعليم عملية مستمرة باستمرار الحياة, بمعني أنه لا يتوقف عند مستوي الحصول علي الشهادات أيا كان نوعها. غير أن مجتمع المعرفة يحتاج من بعد, وقد يكون أولا إلي تنمية الإبداع في المجتمع, لأن الدول المتقدمة هي التي تصبح فيها عملية إنتاج المعرفة هي العملية الأساسية التي ينشغل بها المجتمع, ويركز عليها, ويقتضي إعادة صياغة شاملة لكل أنساق المجتمع السياسية والمعرفية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وإذا خصصنا الحديث عن النسق الاجتماعي من بين هذه الأنساق جميعا, فإن ذلك يجد منطقة في أنه بعد النسق السياسي يعد أهم الأنساق قاطبة, لأنه النسق الذي يكشف عن التركيب الطبقي للمجتمع, وهو الذي يحدد المسافات الاجتماعية بين كل طبقة اجتماعية وأخري. ولو طبقنا المنهج العلمي في هذا الصدد, لاكتشفنا أن النسق الاجتماعي المصري قد اختل في السنوات الأخيرة اختلالا خطيرا, يكشف عنه بروز فجوة طبقية كبري بين الأغنياء ومتوسطي الحال والفقراء. وإذا كانت طبقة الأغنياء في مصر قليلة العدد, إلا أن أعضاءها نتيجة عوامل هيكلية متعددة يستأثرون بالنسبة الأكبر من الدخل القومي. أما الطبقة المتوسطة فقد انحدر بها الحال نتيجة الآثار السلبية لسياسة التكيف الهيكلي, وانحدرت في غالبيتها العظمي إلي مستوي الطبقات الفقيرة, وهذه الطبقات الفقيرة اتسعت دوائرها للأسف في السنوات الأخيرة, بحيث أصبح ملايين المصريين بحسب ما تشير إليه المؤشرات الاقتصادية الموثقة يعيشون تحت خطر الفقر. ويكشف عن الفجوة الطبقية الكبري في مصر انقسام المجتمع الحاد إلي سكان المنتجعات والأحياء الجديدة التي يسكنها الأغنياء, والذين أقاموا حولها الأسوار حتي لا يقترب منها الدهماء من أعضاء الطبقات الوسطي والفقيرة, والعشوائيات التي يعيش فيها ملايين الفقراء من سكان مصر. أما أعضاء الطبقة المتوسطة التي كانت تاريخيا هي منبع الإبداع الفكري والتجديد الاجتماعي في مصر, فقد ضاعت بين أهل المنتجعات وأهل العشوائيات! لابد للأجندة الاجتماعية في المستقبل أن تجابه بشكل إيجابي خطورة الانقسام الاجتماعي الراهن الذي يمكن أن يهدد السلام الاجتماعي والاستقرار السياسي.