وحدك يخنقك الحنق بعدما انتهيتما من نصب الخيمة, تبصر أمامك الشاليه الملتصق بالأرض في إصرار, الأرض التي ليست أرضهم أعدوا ما استطاعوا من قوة لحمايتها, حتي خيمتكم تبتسم ساخرة منكم عندما تعاكسكم أوتادها, كما لو كان منزعجا من صمتك, يميل عليك: ما اسم الأخ..؟ سالم.. وليه السكوت راكبك يا خوي... والنبي افرجها نحن في صحراء... يأتيكم الليل غير مصطحب قمره, بينما تتحسسان الأشياء, تتناهي إليكما أصوات سيارات جهة الشرق, يهب فزعا: ممكن؟!.. أول يوم لنا هنا يقلوا أصلهم معنا.. تتجاهل فزعه, إذ تدرك إنها دورية الحراسة التي ينتظرها الشاليه, لم تكن سوي صبي في العاشرة حينما وعيت عليهم, عندما وجدت أمك تبكي في أثر رحيل أبيك, سمعت جدك يلومها: غالية دموعك.. ظنك راح يحاربوا..؟ ما ريسهم أهو.. كل سنة يقول إنها سنة الحسم.. أنا أعرف هذا الجيش.. جيش حارب في يوم بسلاح خربان.. ويوم آخر تولي ساعة الزحف قصاد اليهود.. وعيت أيضا علي همس أمك وأنت في حضنها: قلبي يحدثني أن فيه حاجة المرة هذه.. لم يخب إحساسها, علي الرغم من وقوف الشمس في كبد السماء, وجدتهم طاروا وضربوا وعبروا, تري دوما من يحارب يحترم شروقها فيحارب قبله, أو يجل غروبها فيحارب بعده, أما هؤلاء القوم.. المصريون, فقد ورثوا الفرعنة حقا, عندما تركوها تسلط نفسها في أعين أعدائهم, كي يضربوهم من خلفها, يومها هب جدك فزعا: معقول يا ولاد.. في عز النهار.. في عز الصوم. ظل لسان أمك متحجرا, جمد همسها لك وأنت في حضنها, تخرج من شرودك عندما تلمحهم يتسابقون ويمرحون, من الشالية إلي شجرة ممتلئة بجواره, صفراء الثمرات, برتقال؟! يوسفي؟! تقاطعه: لأ.. مانجو.. من عرف أهلك..؟! يصرخ فيك, تتجاهله بينما تهمس: نفسي راحت لها.. يسمعك, تلمحه يبحلق فيك ببلاهة, قبل أن يطلق ضحكة ساخرة: حيلك حيلك.. ألا تراه..؟! وهو يشير للسلك, يبدو كالسكين الذي قطع التورتة, صديء قاس, يمتليء بالنصال الصغيرة. مع مقدم التعيين, كان يسخر من غرامك بالمانجو مع جنود التعيين, تري أنيابهم تنهش لحمك سخرية, تود ضربهم جميعا لكمة واحدة, تتجه إلي السلك وسط تجمدهم, تذهلهم أكثر عندما تشير للجندي الواقف بالناحية الأخري, في دهشة من إشاراتك يسألك ماذا تريد, فتشير تجاه شجرة المانجو, بهت وضحك وأشار لك إشارة بذئية. يطلق الجميع ضحكة ساخرة, رفيقك الوغد, جنود التعيين, بينما تحملق في الآخر حملقة من صفع علي مؤخرة رأسه, لم تستطع أن تجلس بينهم, يظل رفيقك في تقريعه لك, تنزوي, تتعبد للصمت, لعلك تتذكر ذلك الصندوق الطويل الذي قدم فوق أكتاف أعمامك, ليفتحوه أمامك, أمك التي تضرب الخدين, جدك الواجم, وذلك الدثار الذي كان داخله ملونا بثلاثة ألوان, بينما يحملون أبيك المدثر بثلاثة ألوان حتي حجرة أسفل الأرض, يغلقونها عليه, وأمك تضرب الخدين. ظللت تتعبد للصمت, حتي ارتفع شخيره, وجدت أضواء الشالية تخبو, همس كهمس أمك الذي عقم تماما منذ ضربها الخدين, يرتفع داخلك: الشجرة ليست محروسة.. لا توجد حاجة محروسة... يصبح الصبح, حولك تتناثر شظايا ثمرات, تتضوع الخيمة طيلة الليلة بعبق المانجو, فيستيقظ رفيقك زائع النظرات, يمد أصابعه يتحسس الثمرات لعله يتأكد, يصرخ فيك: عملتها كيف يا مجنون يا بن المجنونة..؟ لا تجيبه عيناك المرسلتان إلي الشاليه, الذي يطلق بابه, صريرا وهو يفتح, فتهب فجأة نحو الثمرات وتختطف ثمرتين, تعود إلي السلك صارخا: يا دفعة.. بل ريقك علي الصبح.. كأنك التقطت القمر المنعكسة صورته علي صفحة الترعة ببلدكم, تشعر بالظفر من البلاهة المرتسمة علي وجه الآخر عندما اصطدمت الثمرتان برأسه, تشعر بثأر أبيك المنهوش من أسد لا تعرف طريقه من الغاب, جدك الذي ابيضت عيناه حزنا علي ولده, تشعر بأنك لوعدت إليه وقصصت ما فعلت, سيرتد بصيرا, قصتك قميص يوسف, القميص الذي سيجلو حلكة البياض التي اشتدت عندما وقعوا السلام, فقد غمزوا أقلامهم في عين جدك الثاكلة ليمتصوا من لحظها مدادهم, وقعوا الوثيقة, وابيضت عينا جدك. رفيقك عوي فيك ككلب معضوض طيلة النهار: يحرقك ويحرق مزاجك.. إيه الداهية التي ارتكبتها.. أنه اعتداء عسكري. اعتداء عسكري, كلمات نصنع بها خوفنا, سيرتد الجد بصيرا إذا ما علم بما فعلت, تري كم يتبقي أمامك من صباح حتي تلقي علي عينيه قصتك, تراقب حركة الشمس الوئيدة, يجذب بصرك إلي الأرض صرير باب الشاليه, كان الجندي ورفاقه بصحبه امرأة, يضحكون ويشيرون إليك إشارات بلهاء, يلاعبوها ملاعبات ماجنة, تدوي ضحكاتها الصاخبة, يستل أحدهم قطعة قماش مألوفة لك, بها ذات الألوان الثلاثة التي تدثر بها أبوك, جذب آخر رداء المرأة السفلي, مجونها يصطخب, يلوح ثالث بدثار أبيك, قبل أن يفردها لترقد المرأة عليها, تري هل هي من صنعهم أم بقروا قبر أبيك, توالوا علي المرأة وتأوهاتها تدوي, يا أيها المدثر, شيء بيدك, بارد برودة قاسية, يمطر أشياء تسمي رصاص, هكذا لقنوك في مركز التدريب توقفت الشمس كما توقفت عندما كان أبوك يطلق نيرانه ويرفع كفنه, هب رفيقك فزعا فارا, ثم عاد حينما اطمأن أن الرصاص لم يستهدف خيمته الهشة, ضرب خديه كأمك عندما وجد الرمم تتناثر عبر السلك كشظايا الثمرات, بكي ورجال الحدود يقتاودنك بعد دقيقتين, في التحقيقات تقول لهم: كنتم تأتوا قبلها بخمس دقائق.. كنتم تأتوا لتروا.. كنهر عطن, تصب التحقيقات في السجن الحربي, لن تذهب إلي جدك بالقميص, ستلقيه الأيام علي وجهه, سيأتيك بصيرا, تأتيك الكلمات متخبطة في زنزانتك, سالم.. أنت متهم بحيازة ذخيرة حية تمنع المعاهدة وجودها في المنطقة! من أين أتيت بها إذن.. من البئر المعكوس به صورة القمر, كما أنك متهم بالاعتداء علي أرواح!.. كما أنك مختل عقليا.. كما أنك.. كما أنك.. أمرنا نحن.. ليست هناك أخبار من البلد, هل علم جدك, هل علم الناس, هل لم يزل يمر ببلدك الوادي, أم انعطف؟! ها هي القهاوي التي تراها للمرة الأخيرة أثناء ترحيلك, ها هي تتنفس ما فعلت كما تتنفس الشيشة والدخان من لم يعلم؟ من..؟ تهبط بين حراسك في ساحة المصحة المدججة بالحرس, يقولون إن رأسك مطلوب حيا أو ميتا, لذلك رماك قومك بالجنون, جعلوا سجانك الحربي صاحب المعطف الأبيض, لعله يترفق بك من هؤلاء الذين اتهموك بمخالفة المعاهدة, مساكين, لايدركون أنك ستفكر ألف مرة قبل أن تخالف الوثيقة التي مدادها من لحظ جدك ومن تبخر دماء أبيك, مهما يكن, شكرا لهم, فهم يحمونه, الآن يستطيع أن يخلد للنوم في هدوء, يراقب الشروق, الآن جده بصير قرير العين, غدا سيستقبل هؤلاء الصحفيين الأجانب الذين قطعوا العالم من أجله,سيصحبهم صاحب المعطف الأبيض إليه, في كل توقير سيرون ذلك الذي خرق قوانين عالمهم, سيلتقطون له الصور التي تنقله للعالم كله, سيغض صاحب المعطف الأبيض عينه مرتعدة بينما يحيطون به, ويطلقون في وجهه ذلك الشعاع الذي يمتص بريق عينيه, ثم في الصباح التالي, سيكتب تقريره الطبي الأنيق, والذي سيقول فيه..أنه عثر علي المختل عقليا سالم منتحرا بملاءة فراشة, هذا ولم يستدل علي سبب انتحاره, نرحب بإيفاد من يحقق في الأمر.