طوال ما يقارب مئة عام, الا قليلا, ورغم سنوات عمره التي تقارب التسعين, لايزال الجد حامد عمار يحرص علي متابعة العمل في مكتبه بنفسه, غير عابئ بنصائح الأبناء والأحفاد بضرورة أن يخلد الي الراحة بعد سنوات طويلة من الشقاء وراء التحصيل والثقافة, لكن الشيخ الكبير يضرب بكل تلك النصائح عرض الحائط ويقول في طمأنينة وهو ينظر الي صفحة الكتاب: كيف أترك حياتي؟ يعد الدكتور حامد عمار المولود في(25 فبراير عام1921), أشهر التربويين العرب الأحياء بلا منازع , ليس فقط لأنه أكبرهم سنا وأغزرهم انتاجا, ولكن لأن الغالبية العظمي من القراء العرب والأجانب يفضلون كتاباته البسيطة السهلة, نظرا لثقافته الواسعة, واجادته لأكثر من لغة أجنبية اجادة تامة. قبل خمس سنوات سجل شيخ التربويين الدكتور حامد عمار سيرته الذاتية, مع بلوغه الخامسة والثمانين في(300 صفحة) تحت عنوان خطي اجتزناها.. بين الفقر والمصادفة الي حرم الجامعة, والتي يقول عنها: مسيرتي رحلة طويلة مذهلة.. من مجتمع الزراعة البدائي واقتصاد الكفاف والاكتفاء بموارده الذاتية انتاجا واستهلاكا الي مرحلة آفاق مجتمع العولمة وعصر المعلوماتية والسوق العالمية وثروات الهندسة الوراثية, والسماوات المفتوحة برسائلها الفضائية. تضمنت السيرة الذاتية سردا تفصيليا لحياته منذ الطفولة في قريته في صعيد مصر, ومصادفة الالتحاق بالتعليم الحديث, واستكماله التعليم الثانوي, ثم دخوله الجامعة واتساع آفاق خبرته, وعمله خارج مصر والتحولات التي مرت به, ومشاركاته في الحوارات والمؤتمرات العالمية والدولية والجوائز والتقديرات التي نالها, مرورا بزواجه وأولاده, ومسئولياته العلمية. وهي سيرة تفرغ لكتابتها شهرا كاملا, كان يكتب خلاله ما لا يقل عن عشر ساعات يوميا, ساعدته في ذلك ذاكرته القوية رغم كبر سنه. النشأة والتكوين * قلت له بداية أود لو أعطيتنا صورة مصغرة عن مراحل النشأة والتكوين, كيف كانت, وما هي الصعوبات التي واجهتكم خلالها؟ ** الدكتور حامد عمار: بدأت حياتي في قرية سلوا في أسوان, وهي قرية مصرية كانت تعاني الاهمال والفقر مثل آلاف القري في ذلك الزمن, غير أن هذه القرية كانت منعزلة في أقصي الجنوب, ومحرومة من خدمات الدولة التعليمية والصحية, وبالتالي تعرضت للاصابة بأمراض كثيرة كانت تعالجها أمي بالأعشاب والحجامة. وأضاف كنت مرتبطا بقريتي برغم بساطتها, واعتمادها علي الزراعة التي توفر قدرا من الاكتفاء الذاتي, ونظرا لهذا الارتباط قمت بتسجيل رسالة الماجستير عن القرية بعنوان بحث في عدم تكافؤ الفرص التعليمية في مصر, تبعتها برسالة الدكتوراة تحت عنوان التنشئة الاجتماعية في قرية مصرية سلوا مديرية أسوان والتي حصلت عليها من جامعة لندن عام1952. وفي أثناء حديثي معه عن ارتباطه بقريته أكد أنه من الطبيعي أن يتأثر الانسان بقريته ومسقط رأسه وما يرتبط بها من ظروف أسرية, فهي مسألة طبيعية وغريزة في الانسان, فمسقط الرأس هذا ليس تعبيرا حرفيا بمعني الرأس, وانما يقصد به العقل والوجدان والفكر. وقال انه كان الصبي الأول في العائلة, والذكور في الريف عادة لهم وضع خاص, وحب أكثر من الفتيات مشيرا الي أن أسرته قدمت له من التضحيات في سبيل تعليمه ما لا يمكن حصره أو تثمينه. كان حامد عمار يكن احتراما خاصا لأهل قريته, وكان يعتبرهم عائلته الكبيرة, فهو أول طفل في القرية يشق طريقة للتعليم الحديث, مما جعل القرية كلها معنية بأمر تعليمه ومهتمة بأخباره, وساهمت القرية في تعليمه بطريقتين: الأولي: الاحتفال السنوي الذي يقام بالدوار أو الخيمة الكبيرة بالقرية احتفالا بنجاحه وتفوقه الدراسي. والثاني: من خلال اقراض والده ما يحتاجه من مال لاستكمال تعليمه, هذا بالاضافة الي اسهامات المصراوية أي من يعملون في القاهرة من أهل القرية سواء بملابس, أو بالتطوع للاقامة معهم في أثناء فترة الدراسة, فقد كان أهل القرية يعتبرونه أبنهم جميعا. أفندي بدلا من شيخ! ** وهل تتذكر الآن تفاصيل هذه الرحلة؟ حامد عمار: بدأت خطواتي الأولي نحو التعليم من خلال كتاب القرية الذي كان مقتصرا علي حفط القرآن وتعلم القراءة والكتابة, وفي عام1926 ألحقني والدي بالمدرسة, وتسوق المصادفة والدي الي المدرسة ليطمئن علي أحوالي فيلتقي مع أحد المدرسين الذي يقنعه بأهمية التحاقي بالمدرسة الابتدائية في مدينة ادفو, التي كانت تبعد عن قريتي مسافة بعيدة, حتي أتمتع بلقب أفندي. لتبدأ غربة حامد بعيدا عن أسرته في هذه السن المبكرة, وتتبناه أسرة ذلك المدرس ليقيم معها, ويصبح بذلك أول طفل التحق بالتعليم الحكومي الحديث من قرية سلوا ونجوعها في ذلك الوقت, وحين ظهرت النتيجة كان ترتيبه الأول بين طلاب المدرسة, ورقم180 علي القطر المصري كله من بين سبعة آلاف ناجح, وأصبح اسمه مقرونا بلقب أفندي بدلا من لقب الشيخ السائد من ألقاب الاحترام بالقرية. ثم تأتي المصادفة الثانية عندما يذهب هذا المدرس ليهنئ حامد علي نجاحه ويقنع والده باستكمال الدراسة الثانوية بمدرسة سوهاج الثانوية, الا أن والده يعتذر لعدم قدرته علي تدبير(40) جنيها مصاريف القسم الداخلي بالمدرسة, فيقنعه المدرس بأن الحكومة قررت قبول المتفوقين بربع المصروفات أي(10) جنيهات فقط في السنة, ويتم استردادها في حالة تقديم التماس لمنح المجانية مقرونا بشهادة التفوق وشهادة فقر, وهو ما فعله حامد ليحصل علي اعفاء كامل. وبقيت مشكلة الملابس والسفر, وهو ما جعل والدته تبيع بعض القراريط التي تمتلكها لاستكمال دراسته, حيث كان من أبشع ألوان العار أن يبيع الرجل أرضه. وفي القسم الداخلي بالمدرسة كانت تتنازعه مشاعر الغربة والاحساس بالظلم الاجتماعي, خصوصا من الطلاب الموسرين القادرين علي دفع النفقات وتوفير الحياة الآمنة دون مكابدة, بعكس حاله. حصل حامد عمار علي شهادة البكالوريا, وكان ترتيبه السادس علي القطر المصري, وامتزجت دموع الفرح بدموع الفقر من جديد, حيث كانت أسرته ترغب في استكمال دراسته الجامعية الا أن ضيق ذات اليد جعلها تفكر أكثر من مرة في كيفية تدبير مصاريف الكلية ونفقات الاقامة والسفر. وبدأت مساعي الأب بين أعضاء مجلس النواب وأعيان القرية ليستعين بهم, وبالفعل استطاع الأب تدبير(20) جنيها مصاريف القسط الاول لكلية الآداب, التي فضلها حامد نظرا لأن مصاريفها أقل المصروفات, واستمر في تقديم شهادة الفقر مدعومة بشهادة التفوق الدراسي لاعفائه من المصروفات واسترداد ما دفعه منها. وأتت مصادفة جديدة رتبت له معيشته في القاهرة, وذلك عندما كان يجلس والده علي أحد المقاهي فتعرف علي أحد أعيان أسوان الذي جاء ليدبر سكنا لابنه الطالب في كلية التجارة ورحب بضيافه حامد في سكن ابنه متطوعا بتحمل جميع نفقات السكن والمعيشة. التربية.. مهنة ورسالة وانتظم حامد بكلية الآداب قسم التاريخ, كانت الجامعة بداية لتذوقه الأدب والنقد وعشقه للقراءة والمعرفة, ومراجعة بعض المسلمات الفكرية والقيمية والسلوكية, التي كان مؤمنا بها. ومن ثم حصل علي شهادة الليسانس الممتازة في التاريخ عام1941, وخوفا من شبح البطالة قرر الالتحاق بالمعهد العالي للتربية الذي تحول الي كلية التربية عند انشاء جامعة عين شمس في أوائل الخمسينيات, وتخرج فيه. ويقول عن تلك الفترة: كنت أعتقد وأنا طالب في الجامعة أن كل فرد يستطيع أن يكون معلما, ولكنني أقتنعت أن هذا الاعداد التربوي خطوة ضرورية ليكتسب التعليم مرتبة المهنة. وبحصوله علي دبلوم التربية عين فورا في مدرسة قنا الابتدائية, وحاول عمار تطبيق ما تعلمه من فنون التربية وطرق التدريس الحديثة علي تلاميذه الا أنه صدم بعقول مفتشي التربية والتعليم المتحجرة, والتي طالبته بالالتزام بمنهج الوزارة وتحفيظه للطلاب جيدا حتي يستطيعوا الاجابة عن أسئلة الامتحان. قرر حامد عمار استكمال الدراسات العليا في التاريخ, وبالفعل حصل علي رسالة الماجستير بعنوان علاقات مصر المملوكية بالدول الافريقية عام1945, ومع الانتهاء من رسالته في التاريخ انقطعت صلته به, وبدأت رحلته مع صناعة التربية أو زراعتها كما يحلو له القول. ووجد نفسه علي قائمتين للبعثات الي الدول الغربية الأولي لنيل الدكتوراة في التاريخ والثانية في التربية, غير أن استاذه اسماعيل القباني أقنعه بالتخصص في التربية نظرا لقلة المتخصصين في هذا الفرع, خاصة أن المستقبل للتربية والتعليم في مصر, فاختارها وكانت في جامعة لندن. وبعد عودته الي مصر درس في الجامعة, في كليات التربية, وأسهم في الكثير من المؤتمرات التي عقدت عن التربية في مصر وخارجها, لتتواصل خطاه ليعرف ويكني ب شيخ التربويين لرصيده العلمي العريض في هذا المجال, خاصة أنه مزج في دراساته بين دوائر الاجتماع والتاريخ والتربية, وانحاز الي الانسان وتنمية الوطن وهموم الكادحين والبسطاء من أبنائه, ليس لأنها قضايا عدل اجتماعي فحسب, بل لأنها قضايا نهضة أمة. فهو واحد من الأكاديميين والمتخصصين في التربية في مصر, ومن خلال ريادته في مجال اجتماعات التربية أصبح صاحب مشروع وطني وقومي في التعليم ينطلق من فلسفة تقول: ان البشر هم أهم ثروات مصر علي الاطلاق, وان هذه الثروة لو أحسن استخدامها وصقلها, يمكنها اعادة صياغة مستقبلنا والانطلاق الي افاق التقدم والازدهار الشامل. وأشار حامد عمار في سيرته الي تأثره بالتنشئة الريفية وسط أجواء الزرع وما تركته في نفسه من الاحساس النابض بعملية النمو, وقد تأثرت طاقاته الفكرية بعملية النماء, واشتبكت مع الواقع من خلال معايشته الي حد اعتبر فيه التربية مرادفه للحياة, فصدر أول انتاجه في كتاب بعنوان العمل الميداني في الريف عام1954, وفيه محاولة للاقتراب العميق من السلوك والاتجاهات لدي الفلاح المصري ازاء دعوات المرشدين الزراعيين والاجتماعيين. والحق ان رحلة حامد عمار التي تصل اليوم الي مشارف ال90 عاما, ومشواره الانساني والعلمي من القرية الي المدينة وعبر قرنين من الزمان, لهي بحد ذاتها مدرسة يمكن للمرء أن يتعلم منها وفيها, الصبر والأمل فضلا عن ضرورة الاصرار والفكاح من أجل أن تصبح أحلامه واقعا يري.