والنهضة التي أعنيها ليست تلك الشائعة في مناخنا السياسي والثقافي العام, فهي ليست إمكانية النصرة علي الأعداء, رغم أهمية الانتصار في حياة الأمم, ولا هي تقدم الأحوال الاقتصادية للبلاد وتحسن الأوضاع المعيشية للعباد رغم ضرورة أن تجتهد الحكومات ومؤسسات الدولة في ضمان ذلك.النهضة التي أتحدث عنها هي الارتقاء الشامل للمجتمع أفرادا وجماعات في سلم الانسانية حتي نتمثل اسمي معانيها, وهي حالة تجعل من الانتصار علي الظلم والعدوان حقيقة وفعلا مستمرا, وتجعل من تحسن المعيشة حالة قائمة ودائمة للجميع دون تمييز بين قادر وضعيف. وقد فعلنا ذلك في مرحلة ما من تاريخنا, وأظننا نستطيع النهوض مرة ثانية. النهضة لا يمكن أن تنطلق إلا عبر مجموعة من القيم الأخلاقية الحديثة التي بدونها وبدون أن يتبناها المجتمع كله لن تتحقق أي نهضة. خرج من بيننا فريق يريد القطيعة المعرفية مع الماضي حتي نلحق بالحاضر والمستقبل. ولمثل هذه النهضة أخلاق, لكنها ليست فقط الأخلاق التقليدية التي تقرها كل الأديان والأعراف, والتي يعرفها الجميع. فالنسق الأخلاقي التقليدي يشكل في كل المجتمعات اساس الأخلاق, وبدونه لايمكن للإنسان أن يكون إنسانا. والأخلاق في هذا المنظور التقليدي يتعلم منها الإنسان أن هناك شرا قبيحا عليه ألا يفعله, فهو خطأ وخطيئة, وهناك خير عليه أن يفعله وهو بر وتقوي. وإخلال الإنسان بهذا النسق الأخلاقي يعرضه للعقاب الإلهي إلا أن يتوب, كما يعرضه- للعقاب الدنيوي جزاء ما فعل. ولكن, أن يكون الإنسان ورعا وتقيا وعف اللسان وغاضا للبصر ومبتعدا عن كل رذيلة شخصية, كل هذا لا يجعله بالضرورة طرفا فاعلا في النهضة الوطنية والاجتماعية كما فسرناها, فللنهضة متطلبات أخري تقع في مجال الأخلاق عامة, والنهضة لا يمكن أن تنطلق إلا عبر مجموعة من القيم الأخلاقية الحديثة التي بدونها وبدون أن يتبناها المجتمع كله لن تتحقق أي نهضة. وعندي أن أوضح إفادة في هذه القضية تأتينا من احدي مناطق العالم الثالث الأكثر تدينا في عالمنا المعاصر, ففي بلدان قارة أمريكا اللاتينية جرت منذ مطلع خمسينيات القرن العشرين أولي المحاولات الجادة والجريئة لنقد التصور الديني التقليدي للاخلاق. وفي مطلع السبعينيات كتب أهم مفكري هذه الحركة' جوستاف جوتيريز' كتابا شهيرا بعنوان' لاهوت التحرير التاريخ والسياسة والخلاص'. كانت نقطة إنطلاق جوتيريز هي إعادة التعريف الأخلاقي للخطيئة, فهو يري أن التركيز علي الخطايا التقليدية الشخصية, والتركيز علي التقوي والورع الشخصي يعمينا عن أن هناك خطايا موضوعية يتواطأ فيها الكثيرون وينتج عنها شرور عامة تعصف بالأفراد والجماعات, انها مجموع الخطايا التي توجه للمجال العام, وهي خطايا ليست لها عقوبات إلهية معروفة كما أن فائض التدين ناهيك عن تواطؤ المؤسسات يعصفان بما يمكن أن يتوفر للقضاء عليها بالعقاب الأرضي. فالفساد وشراء الذمم والاستئثار بالسلطة وإساءة استخدامها وطلب الوساطة وسرقة المال العام والتواطؤ ضد الفقراء والمعدمين وتلويث البيئة, هذه كلها بعض من فيض من الخطايا الموضوعية التي يغيب فيها التوصيف الديني أو يميع وكل هذه المواقف اللا أخلاقية بحاجة إلي نسق أخلاقي جديد يتبناه الجميع. لقد استطاع مفكرو لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية عبر سنوات من الكفاح ليس فقط ضد الفساد المجتمعي ولكن أيضا ضد تعسف الكنيسة الكاثوليكية, استطاعوا أن يقدموا نموذجا جديدا للأخلاق الحديثة التي تقف علي أرضية إنسانية, تتمثل الديني والحداثي في آن واحد فكانت النتيجة ما نراه الآن من تقدم ونهضة واضحة في كل أرجاء أمريكا اللاتينية. ولأنني قارنت تجربة أمريكا اللاتينية بواقعنا في العالم العربي تجد عجبا, فالقضية مطروحة لدينا منذ أكثر من مائة وخمسين عاما لكننا تذبذبنا بين الحداثة والتقليد, بين الأصالة والمعاصرة. خرج من بيننا فريق يريد القطيعة المعرفية مع الماضي حتي نلحق بالحاضر والمستقبل, وخرج منا فريق يريد القطيعة المعرفية مع الإنسانية بكاملها والإكتفاء بما يعرفه من الدين وما تركه السلف, بعضنا استغني عن التراكم التاريخي المحلي والبعض الآخر استغني عن التراكم التاريخي للإنسانية. كانت النتيجة القاسية أننا لم نطور معرفتنا عن أنفسنا كما ينبغي, كما أننا لم نناقش ونحاكم أنساقنا الأخلاقية بجرأة وجدية ومن ثم تمددت الظواهر الدينية والطقوسية في فضائنا الثقافي والأخلاقي وتآكلت مظاهر الحداثة الأخلاقية في ثقافتنا وتراجعت الدولة المدنية. وعندي أن المهمة الآن تقع علي عاتق الطليعة المثقفة لهذه الأمة إذ عليها أن أن تستعيد الحداثة المناسبة لتطورنا التاريخي, فبدون أخلاق الحداثة ليست ثمة نهضة.