[email protected] التقدم ظاهرة معرفية بالأساس، دافعه الطموح الإنساني ومحركه الإرادة السياسية ومحيطه الحيوي الفرد والمجتمع والمؤسسات، وأهم عناصره التعليم والبحث العلمي في إطار مشروع فكري للنهضة يخاطب المستقبل، وتحتشد له طاقات الأمة وعقولها المبدعة المفكرة وقواها المؤهلة الفاعلة وسواعدها المخلصة العاملة. هذه هي روشتة التقدم والنهضة، وأحسب أننا قادرون عليها، شريطة أن نتوافق علي أولويات أجندتها في لحظة صدق تاريخي يؤسس لإعادة البناء »بروسترويكا« علي خلفية من المكاشفة والمصارحة »جلاسنوست« والتجرد القادر علي المراجعة والجرح والتعديل، دون إدانة لعصر بعينه أومحاكمة توجه بعينه أو إهالة التراب علي تاريخ قديم أوحديث أومعاصر أوتوجيه أصابع الإتهام إلي تجارب أصابت وأخطأت أو انتصرت وانكسرت أوحاولت وانحسرت عنها هالات الضوء وفلاشات التصوير، فبدت مفلسة عالية الكلفة يتوجب إصلاح رؤاها وتوجهاتها وتقويم أفكارها ومساراتها. المطلوب إذن إعادة البناء علي ما تحقق بالفعل من إيجابيات ومهما تضاءلت نواتجها أو تناثرت مكاسبها، المطلوب »بريستوريكا« جديدة و»جلاسنوست« صريحة تغلب العام علي الخاص وتسمو علي مثالب الأثرة والأنانية وغلبة المصالح الضيقة علي حساب الصالح العام. وأحسب أنها »وصفة سهلة« وليس فيها ما هو معجز أو خارق أو مستحيل، فهي وصفة جربتها شعوب وبلدان ودول وأمم سبقت علي طريق التقدم وحققت طفرات في سبيل الإرتقاء والنهضة، وربما كانت ظروفنا أحسن وأفضل عشرات المرات مما كانت عليه أحوال هذه الدول وظروفها وتحديات مصائرها. وفي تقديري فليست المسألة المصرية إستثناء في مسار التاريخ وليست معضلة تستعصي علي الحل، هي فقط تستعصي علي أولي المصالح الطفيلية والمستفيدين من تدني أحوالها والمتربحين من الفساد والإحتكار وسيادة أسوأ ما في قيم السوق وصيحات العولمة. المسألة أبسط مما نتصور، غاية الأمر هي ترتيب الأولويات في إطار رؤية شاملة قادرة علي الإستشراف بعيداً عن الاستاتيكية والقعود والمبادرة بالفعل المحسوب بعيداً عن المخاطرة والنزق والتهور، وبأن توكل الأمور إلي القادرين عليها والمؤهلين لها والعارفين لشروطها وإستحقاقاتها. وهذا هو ما فعلته أمم سبقتنا في النهوض والحداثة والتقدم . وأنظر إلي تجربة ألمانيا التي خرجت بتداعيات الحرب العالمية في 1945 بدمار شامل وخراب بطول البلاد وعرضها، ولكنها في خلال عشر سنوات من التخطيط والتفكير وإيقاظ الهمم وشحذ قدرات الناس وصمودهم و تحديهم وإستجابتهم لواقع مرير فرض عليهم أمل المستقبل والعمل له في إصرار وإبداع وتفان، لتصبح عضواً إقتصادياً فاعلاً في السوق الأوروبية المشتركة عندما تأسست في 1956 بل ركيزة أساسية ومحركاً لعجلة الإقتصاد الأوروبي وماكينة التقدم الصناعي العالمي، وكذا أنظر في تجربة اليابان بعد الحرب العالمية كيف كانت و كيف أصبحت؟ ولماذا نذهب بعيداً، فلننظر في تجارب دول كنا في وضع أفضل منها في الخمسينات والستينيات، مثل كوريا الجنوبية وماليزيا، وأين هم الآن وأين نحن؟ وماذا كانت روشتة النهضة عندهم وروشتة الإرتجال و العشوائية والسطحية و»شغل القطاعي« و»رزق يوم بيوم« في تجربتنا المصرية غريبة الشأن عجيبة المآل. بل أين نحن من الصين والهند وهما أصحاب رحلة تاريخية لها نفس تعقيداتنا المصرية بكل ظواهر الشرق وخصائصه العاطفية والإنفعالية وأحلام اليقظة. ماذا فعلوا هم ليصبحوا قوي نووية وإقتصادية وتكنولوجية ناهضة بينما نحن لا نزال نتلمس الطريق و تتوه بنا مسالكه وتخاصمنا علاماته و إرشاداته. الفارق الجوهري هو أنهم أعملوا روشتة التقدم والنهضة التي جربها العالم وأثبت نجاحها، أما نحن فلا نزال نصر في حمق شديد أن نعيد إختراع العجلة وإجتراح خطايا التفكير والتنفيذ والأداء والتوجه. لقد كتبت كثيراً عن نظريات التقدم وشروط النهضة وأصلت فكريا في هذه المساحة في مقالات سابقة، وأحسبنا اليوم في حاجة إلي إعادة التفكير وإعادة التنبيه وإعادة الشرح والتحليل والتوجيه، فلربما صادفت كلماتنا عقولا تفهم وشخوصا تتفهم وآفاقا تتفتح لكل موضوعي جاد وكل ممكن محتمل ومعقول وقابل للتنفيذ والتفعيل والتبني وعدم المكابرة. وهنا لن أحادثك اليوم في تنظير وتقعيد بل أقدم لك خلاصة الروشتة فيما يخص آليات الحركة، كيف بدأوا و من ثم كيف يمكننا نحن أن نبدأ؟ خصوصاً أننا لسنا في مبعدة عما وصلوا إليه ويمكننا اللحاق بالركب وتحقيق أهداف هي علي مرمي البصر وفي متناول اليد. لقد كان »التعليم والبحث العلمي« هما الشفرة التي صنعت بها الأمم نهضتها، وسر انتصارها علي أزماتها والخروج من دوائر تخلفها. عندما استقلت الهند في الخمسينات وفاز حزب جواهر لال نهرو كان أول قرار لحكومته هو تحديث التعليم وإنشاء معهد للتكنولوجيا والاتصالات, يقبل فيه المتفوقون بشروط خاصة، وسرعان ما أصبح هذا المعهد بمثابة الشفرة الأولي للنهضة العلمية والاقتصادية التي شهدتها الهند. وقد أصبحت ماليزيا أحد النمور الاقتصادية الكبري بفضل السياسات التعليمية التي أسس لها مهاتير محمد ووضع شفرة التقدم والنهضة بسياسات البحث العلمي وتوطين التكنولوجيا والإقتصاد المبني علي المعرفة. لقد وضع مهاتير محمد المشروع الحضاري الوطني لماليزيا، الذي تمحور حول تأسيس مجتمع علمي متقدم قادر علي الإبداع واستشراف المستقبل، مجتمع منتج للتكنولوجيا وليس مستهلكاً لها. لقد كان من أبرز آثار المشروع الحضاري الماليزي إضطلاع وزارة التربية الماليزية بتطوير المعارف الأساسية وقدرات الابتكار لدي الطلاب بدءاً من الصف الرابع الابتدائي، وذلك بتصميم منهج دراسي يستهدف إكساب الطلاب مهارات التفكير والإبداع في مجالات العلوم والتكنولوجيا والمعلوماتية والإتصالات، وتدريس مادة "المخترعات" في أربع حصص أسبوعية بواقع 40 دقيقة للحصة الواحدة. ولقد أصدروا في عام 1996 قانونا يقضي بتحويل المدارس في ماليزيا إلي "مدارس ذكية" وأصبح لديهم بحلول هذا العام عشرة آلاف مدرسة ذكية في التعليم الأساسي، تطبق المفاهيم التكنولوجية الحديثة في التعليم وترتبط بالإنترنت من خلال شبكة الألياف البصرية التي تمتاز بسرعة نقل الوسائط المتعددة، وإمكانية التفاعل مع برامج الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيات الواقع الافتراضي والطبيعة التخيلية V.R وربطوها في برامج طموحة مع مراكز التدريب وتحديث الصناعة، وقد تحقق هذا الإنجاز الكبير علي الرغم من تعرض الاقتصاد الماليزي لأزمة عام 1997 عصفت بالنمور الآسيوية وأطاحت باقتصادياتها، ورغمها شيدت ماليزيا عشرات الجامعات الحديثة الجاذبة لعشرات الآلاف من طلاب الدراسات العليا وفدوا إلي ماليزيا من 54 دولة. وقد تقدمت بذلك علي الكثير من الجامعات المرموقة مثل: كينجز كولج، وبريستول، وجلاسكو. كما اختيرت الجامعة الوطنية الماليزية ضمن أفضل 89 جامعة في العلوم، ذلك بفضل الاهتمام بالبحث العلمي والابتكار والابداع. وهكذا تحولت ماليزيا من دولة زراعية فقيرة يعتمد اقتصادها علي تصدير السلع الزراعية والمواد الأولية مثل المطاط والقصدير وغيرها إلي دولة صناعية متقدمة، حيث شارك القطاع الصناعي والخدمي في اقتصادها بنسبة 90 ٪ وهي الآن رقم 18 في خريطة الصناعة العالمية، كما أدي هذا التحول إلي ارتفاع صادراتها من 5 مليارات دولار عام 1981 إلي أكثر من ستمائة مليار دولار سنوياً، وتضاعف دخل الفرد السنوي في ماليزيا سبع مرات، ليصبح أكثر من عشرة آلاف دولار، وانخفضت البطالة إلي 3 في المئة، والواقعون تحت خط الفقر أصبحوا 5 في المئة من السكان، بعد أن كانت نسبتهم 52 في المئة. هذا ماحققته ماليزيا بفضل التعليم والبحث العلمي وتحويل الجامعات إلي مؤسسات إنتاج وإدارة المعرفة، وإنشاء وديان العلوم والمدن التكنولوجية وحاضنات ريادة الأعمال، وبفضل ثقافة مهاتير محمد الذي تخرج طبيباً في جامعة سنغافورة ودرس العلاقات الدولية في جامعة هارفارد ودرس الصحافة بالمراسلة وله مقالاته في الاقتصاد والفكر والسياسة نشرها في "الصنداي تايمز" وعمل مندوبا لبلاده في الأممالمتحدة وكانت له مساهماته السياسية في العمل العام. هو إذن لم يكن وزير الصدفة أو مسئول بالمجاملة وشلة الأصدقاء ووكلاء استوظاف واستوزار المحاسيب والمقربين محدودي القدرات والفكر والكفاءة. هذه هي روشتة النهضة وكما تري هي ليست معجزة.