عبدالمحسن سلامة تطورات متلاحقة تشهدها جهود احتواء أزمة «السد الإثيوبى» من جانب مصر والسودان، فى محاولة جادة من الجانبين للتوصل إلى اتفاق عادل وملزم بخصوص ملء وتشغيل السد، وبما يحفظ حقوق الدولتين (تاريخيًا وقانونيًا) فى مياه النيل، وفى ذات الوقت لا يتعارض مع احتياجات التنمية فى إثيوبيا. التطور الأبرز على الساحة الآن هو ماطرحه السودان الشقيق بضرورة وقف المفاوضات «العبثية» مع إثيوبيا، التى تراوح مكانها، ولم تأت بجديد منذ توقيع اتفاق إعلان المبادئ فى 23 مارس عام 2015 حتى الآن.طرح السودان ضرورة تطوير آلية المفاوضات الحالية من خلال تكوين رباعية دولية تشمل بجانب الاتحاد الإفريقى كلا من الولاياتالمتحدة، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة تحت رعاية وإشراف الرئيس الكونغولى «فيليكس تشيسكيدى» رئيس الاتحاد الإفريقى لدفع المسار التفاوضى قدما، ومعاونة الدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا) فى التوصل إلى الاتفاق المنشود فى أقرب فرصة ممكنة. أبدت مصر على لسان وزير الخارجية سامح شكرى المقترح السودانى خلال اللقاء مع «الفونس نتومبا» منسق خلية العمل المعنية برئاسة الكونغو الديمقراطية الحالية للاتحاد الإفريقى فى أثناء زيارته القاهرة فى الأسبوع الماضي. المقترح السودانى الذى أيدته مصر، جاء بعد أن افتقدت مصر والسودان «الشريك الإثيوبى الجاد» خلال الفترة الماضية، وبعد أن سلكت الدولتان كل «الطرق الممكنة» لتأكيد حسن نوايا الجانبين تجاه إثيوبيا، والتزامهما بما جاء فى اتفاق إعلان المبادئ، وكذا التزامهما بكل الاتفاقيات التاريخية المنظمة للاستفادة من مياه النيل. طوال السنوات الماضية تأرجحت المفاوضات بين الصعود والهبوط، وسارت فى عدة مسارات منها المفاوضات المباشرة بين الدول الثلاث التى يحكمها اتفاق إعلان المبادئ الواضح، والصريح فى كل ما يتعلق بعدم الإضرار بمصالح دولتى المصب، والاتفاق الملزم على قواعد الملء والتشغيل، لكن تلك المفاوضات لم تسفر عن الاتفاق المنشود، لتبدأ مسارات أخرى للتفاوض تحت رعاية الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبمشاركة البنك الدولي، لكنها انتهت أيضا إلى «لاشىء» بسبب التعنت الإثيوبى وهو نفس مصير المفاوضات، التى جرت تحت رعاية الاتحاد الإفريقى حتى الآن، رغم أن رعاية الاتحاد الإفريقى للمفاوضات كانت مطلبا إثيوبيا تم طرحه حينما كان مجلس الأمن يناقش تلك القضية بطلب مصري. وافقت مصر والسودان على الطلب الإثيوبي، لتنتقل المفاوضات إلى الاتحاد الإفريقى منذ أكثر من عام حتى الآن، دون التوصل إلى الاتفاق النهائى بين الدول الثلاث. اعتادت إثيوبيا فى نهاية كل مرحلة من مراحل تلك المفاوضات الطويلة والممتدة منذ سنوات على «القفز» فى اللحظات الأخيرة من قطار المفاوضات تحت حجج واهية، وأكاذيب متكررة، ما جعل مصر والسودان يفتقدان «الشريك الجاد» فى المفاوضات، ويتأكدان من سوء النيات الإثيوبية، وإصرارها على افتعال أزمة داخل البيت الإفريقى ليس لها مايبررها. مصر والسودان يريدان أن يكون نهر النيل أداة لتوثيق التعاون المثمر بين دول حوض النيل، فى حين تسعى إثيوبيا إلى أن يتحول النهر إلى أداة للصراع والشقاق وتفجير الخلافات بين هذه الدول. أعتقد أن فقدان الثقة من جانب مصر والسودان فى «الشريك الإثيوبى» تأكد فى العام الماضى وتحديدا عندما قامت إثيوبيا بالإعلان عن الملء الأول للسد فى يونيو الماضي، الذى كان له آثار بالغة السوء على السودان، حيث تعرض السودان لمشكلات ومخاطر فى عملية توليد الكهرباء من سد «الروصيرص» كما تعرضت محطات مياه الشرب فى الخرطوم إلى مشكلات هى الأخرى نتيجة القرار الأحادى بعملية الملء الأول. خالفت إثيوبيا المبدأين الرابع والخامس من اتفاقية إعلان المبادئ حينما قامت بالملء الأول للسد بشكل أحادي، حيث أشار المبدأ الرابع إلى ضرورة الالتزام بالاستخدام المنصف والعادل للموارد المائية، والأخذ فى الاعتبار بكل العناصر الاسترشادية مثل احتياجات السكان والجغرافيا المائية، والمناخية، وباقى العناصر الطبيعية. جاء المبدأ الخامس مكملاً للمبدأ الرابع وأشار إلى ضرورة التعاون فى الملء والتشغيل وإدارة السد، والاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد التشغيل السنوي، وتنفيذ توصيات لجان الخبراء الدوليين، والالتزام بالمخرجات النهائية للتقرير الختامى للجنة الثلاثية للخبراء حول الدراسات الموصى بها فى التقرير النهائى للجنة الخبراء الدولية خلال المراحل المختلفة للمشروع. تجاهلت إثيوبيا كل ذلك كما تجاهلت مبدأ أمان السد فى البند السادس، وهو المبدأ الخطير، الذى يهدد سلامة دولة السودان، ويهدد منشآته المائية والعمرانية. مخالفة إثيوبيا للمواثيق الدولية والمعاهدات والاتفاقيات القديمة والجديدة، وإصرارها على «المراوغة» دفعا السودان إلى رفض الاستمرار فى المفاوضات بوضعها الحالي، خاصة بعد إعلان إثيوبيا عزمها بدء «الملء الثانى للسد» فى يوليو المقبل، مما يعرض السودان لمخاطر كثيرة محتملة بسبب عدم التنسيق، والنهج الأحادى الجانب، الذى تصر عليه إثيوبيا، وقامت بتنفيذه فى «الملء» الأول، وتريد تنفيذه فى «الملء الثاني». لكل ذلك اقترح السودان آلية جديدة للمفاوضات، تستفيد من خبرات التفاوض السابق بين الأطراف الثلاثة، وتضع إثيوبيا أمام مسئولياتها فى مواجهة المجتمع الدولي. الآلية الجديدة تتمحور حول تفعيل الرعاية الإفريقية من خلال رعاية رئيس الاتحاد الإفريقى الرئيس الكونغولى «فيليكس تشيسكيدى» للمفاوضات المقبلة على أن تضم إلى جانب الاتحاد الإفريقى ، الاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، والولاياتالمتحدةالأمريكية. الولاياتالمتحدة لها خبرة كبيرة فى هذا الملف حيث سبق أن قامت بالوساطة، وأنجزت اتفاقا هو الأول من نوعه فى ماراثون المفاوضات، ووقعت عليه مصر بالأحرف الأولي، ولم يرفضه السودان، فى حين تعلل الوفد الإثيوبى بحجج، وأعذار واهية، وهرب من واشنطن بحجة التشاور فى أديس أبابا، إلا أنه لم يعد إلى هناك حتى الآن، رغم أن وفد التفاوض الإثيوبى كان شريكا فى كل مراحل التفاوض، والتوصل إلى مشروع الاتفاق المعطل. الاتفاق الذى «رعته» أمريكا، وشارك فيه البنك الدولي، كشف الوجه القبيح «للمراوغة» الإثيوبية، مما دفع الولاياتالمتحدة إلى فرض عقوبات على إثيوبيا بسبب تعنتها فى مفاوضات «السد»، وقررت واشنطن تعليقا مؤقتا للمساعدات الأمريكية إلى إثيوبيا فى محاولة منها لدفع الأخيرة إلى تبنى مواقف أكثر إيجابية فى هذا الملف. فى الأسبوع الماضى أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية رغبة واشنطن من جديد فى تسهيل حل الأزمة، ودعم الجهود المشتركة للتوصل إلى اتفاق، وهو اتجاه يصب فى دعم التوجه السودانى المصرى بضرورة إيجاد آلية جديدة متمثلة فى الرباعى الدولى المقترح من السودان الشقيق، الذى أيدته مصر وتبنته مع الجانب السوداني.
تبقى الكرة الآن فى الملعب الإثيوبى كفرصة، ربما تكون أخيرة .. لتؤكد مدى جديتها من عدمه بالتوصل إلى اتفاق قانونى ملزم، وعادل حول «السد الإثيوبي» يراعى مصالح الأطراف الثلاثة (مصر والسودان وإثيوبيا)، فهل تستجيب إثيوبيا أم تصر على السير عكس الاتجاه لتتسع رقعة فشلها، وإخفاقاتها داخليا وخارجيا؟! الأيام المقبلة كفيلة بالإجابة عن تلك التساؤلات. .