لم تجلب قناة السويس لمصر قائمة النكبات التاريخية المعروفة، وعلى رأسها الاحتلال الإنجليزي، والذي استمر سبعين عامًا، فمصر وبسبب من موقعها الجغرافي شديد التميز، كانت هدفًا لأطماع استعمارية قديمة وحديثة، حتى قبل أن تبدأ معاول العامل والفلاح المصري في حفر القناة، وإلى زمن قرار التأميم التاريخي والمستحق عام 56. لكن القناة تظل رواية حية ومثيرة من تاريخ الحركة العسكرية والسياسية والاقتصادية، تضيف للتاريخ المصري الحديث فصولًا من النضال تميزه، وسطورًا من التحدي تؤهله وتبوئه ما استحقه من اهتمام.. وشكلت قناة السويس، برغم فكرتها الفرنسية، رؤية مصرية عميقة لمعادلة أهمية المكان وجدارة المكانة التي ميزتها تاريخيًا. وكثيرة هي تفاصيل عمليات الخداع في حصول المهندس فرديناند دي ليسبس على امتياز حفر القناة، تحقيقًا لحلم فرنسي قديم ومتجدد، وعميقة تلك المؤامرات الغربية في احتكار دخل القناة وأسهمها، ونهب أموال مصر عبر تحميل الخزانة المصرية بعمليات استدانة شديدة التعقيد. في الوقت الذي كانت قناة السويس على خريطة كل أفكار وخطط الغزو الأجنبي لمصر، من الاحتلال الإنجليزي حتى محاولة الأتراك غزو مصر سنة 1915، وإعدادهم حملة تستهدف تحقيق الغزو عن طريق قناة السويس، ثم معركة التأميم التي قادها جمال عبد الناصر، واحتلال اسرائيل لسيناء مرتين، في 56 و67.. ثم العبور العظيم للقناة سنة 1973 بقرار أنور السادات.. وكل تفصيلة من ذلك التاريخ العريض حول قناة السويس، ومن تلك القرارات المصيرية، كان التأييد العريض، وأيضًا الانتقادات، ليس أقلها أن القناة كانت ستعود لمصر من دون تأميم سنة 68، وهي الفرضية المستحيلة، كان المطلوب هو مد الامتياز إلى سنة 99 مرة وإلى سنة 2008 مرة أخرى، أو الإدارة الدولية المشتركة.. ولا يعرف كثيرون أن عودة القناة لمصر في أحسن الأحوال سنة 68 كانت مشروطة بمناصفة الأرباح السنوية للقناة بين الشركة والحكومة المصرية. كل هذا ذهب الآن، وبقيت قناة السويس تمارس دورها وتؤدي وظيفتها في أن تكون شريان للحياة في مصر، بينما تقاوم محاولات التهميش، والأفكار المريبة لإيجاد البدائل!.. فمنافسة القناة لم تتوقف يومًا، من خطوط أنابيب نقل البترول، ومن قناة البحرين التي ظلت إسرائيل تحلم بتنفيذها ولا تزال، ومشروع قناة المحيط المتجمد الشمالي لربط اليابان بأوروبا الغربية.. هذا التاريخ الحافل سجلته أبحاث وشهادات علمية في كتاب "قناة السويس.. الماضي.. الحاضر.. المستقبل (1869 2019)" الصادر أخيرًا عن الهيئة العامة للاستعلامات، والكتاب هو نتاج عمل المؤتمر الدولي الذي نظمته الجمعية المصرية للدراسات التاريخية بالتعاون مع الصالون البحري وهيئة الاستعلامات وشارك فيه نخبة من المتخصصين من مختلف الجامعات.. وذلك بمناسبة مرور 150 عامًا على افتتاح القناة.. وحرص محرر الكتاب أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر د.خلف عبدالعظيم الميري على جمع المؤرخين والخبراء البحريين في عمل أكاديمي معًا لأول مرة، بينما نلاحظ التنوع في الموضوعات تاريخيًا، وفي الوقت الراهن، وكذلك آفاق المستقبل. وربما انشغل د.الميري بمسألة ساخنة وهي تخص الجدل حول تكريم دي ليسبس والتي تشغل الرأي العام حاليًا، خصوصًا في بورسعيد، وقصة إعادة تمثاله للقاعدة المخصصة له في مدخل القناة، بتصوير انتهازية المغامر الفرنسي. وكتب الميري أن العامل المصري الذي حفر القناة ورواها بدمائه الطاهرة، هو الذي يستحق التكريم. وأرى أن هذه القضية ستظل خلافية؛ لأن التاريخ أيضًا يكشف عن أن إلحاح دي ليسبس وإصراره وقفا خلف حفر القناة الذي كان الجميع يخشى من حدوثه، لأسباب سياسية واقتصادية. والقناة أحد أهم المجاري المائية الصناعية في العالم، برغم فشله في كل المشروعات الأخرى وقناة بنما شاهدة على ذلك. أما تكريم العامل والفلاح الذي حفر القناة فيمكن أيضًا القيام به ومن دون إبطاء، بالإعلان عن مسابقة بين النحاتين في مصر والعالم، لتقديم نماذج فنية توضع على شط القنال في بورسعيد أو السويس. شريطة أن نبتعد قدر الإمكان عن مجسمات القيشاني والسيراميك التي تغطي غالبية الميادين المصرية الآن. كشف الكتاب المهم عن جوانب مثيرة في تاريخ محاولات شق قناة بين البحرين الأبيض والأحمر، وعن لحظات مدهشة في العلاقات بين مصر والسلطان العثماني، الذي قاد حملة ضد مصر لحث كثيرين من قادة العالم لرفض تلبية دعوة الخديو إسماعيل لحضور الافتتاح؛ لأنه أراد أن يكون موجه الدعوة، في تحرك واضح لإفشال محاولة أخرى لاستقلال مصر عن الإمبراطورية العثمانية.. واستأجر الباب العالي أقلامًا موالية للتنديد بالخديو اسماعيل واتهامه بالخيانة. وبعث السلطان بشروط وتهديدات، وقال إسماعيل لأحد قناصل الدول الغربية "إذا عامل الإنسان الأتراك فيلزمه إما استمالتهم إليه بالرشوة وإما التكشير لهم عن أنيابه" وهو قول حكيم ما زال صالحًا حتى الآن.. وبعد أن أعاد محافظ بورسعيد اللواء عادل الغضبان منصة ضيوف حفل الافتتاح إلى مكانها التاريخي في المدينة، فإن هناك الكثير الذي يمكن أن نسترده مثل الفنار المنزوي خلف المنازل أمام الممشى السياحي، والذي صممه المهندس الفرنسي فرنسوا كونييه.