أكثر ما نخشاه أن تفلح الأجواء الملبدة في مصر, في تهيئة المناخ لسرقة الحلم في مشروع محور تنمية قناة السويس , وهو الذي قد يعيد ذكري المشروعات القومية الكبري ويعيد وحدة الأمل في المستقبل. وليت الأمر في إجهاض هذا الحلم, ستتحمل تبعاته الصراعات الداخلية بين القوي السياسية التي تحاول نسبة المشروع إليها, تمهيدا لفرض المشاركة في تنفيذه واستغلاله سياسيا, بل إن الخطر المحدق قد يأتي من القوي الدولية التي قد تعمل علي عرقلة هذا المشروع العملاق, وهي الأخطر والأكثر أهمية, لأن اعتراضات هذه القوي الأخيرة, لن تكون في العلن وستعمل قدر طاقتها للضغط إما لتأخير إنجاز هذا المشروع أو إفشاله, أو علي الأقل, عقد صفقات من نوع ما يمكن بها أن تعوض ما قد يتهدد مصالحها الاقتصادية في حال استكمال هذا المشروع بأي صورة من الصور. فقناة السويس, بحلمها القديم والجديد, كتب التاريخ بها علينا, أن تأتينا رياحها بما لا تشتهي السفن, ذلك لأن الرياح الدولية بطبعها, أشد عتيا من أية رياح محلية. ولنحاذر من أن حقيقة أن قناة السويس غير حلمها لوغفلنا قليلا, فقد كانت القناة سببا مباشرا للاحتلال البريطاني, فلم تكن بريطانيا العظمي في البدء, بالراضية عن مشروع هذا الفرنسي المدعو فردينان دي ليسبس بحفر تلك القناة التي رأت بريطانيا أنها ستعزز من الوجود الفرنسي المنافس وضغطت بكل قوة سرا وعلانية, لتعطيل تنفيذ حق ذلك الامتياز الذي منحه والي البلاد سعيد باشا لصديقه المهندس الفرنسي. غير أنه بعد طول تعثر, افتتح الخديو إسماعيل حاكم مصر التالي لسعيد, في16 نوفمبر سنة1869, القناة في حفل ما زالت أجواؤه الأسطورية تهيمن علي تلك الفترة من تاريخ مصر. هنا تغيرت السياسة البريطانية أمام الواقع الجديد, بعد استشراف ما سوف تحققه شركة القناة هذا برغم الخسارة التي حققتها القناة في أعوامها الأولي إلي درجة أن دي ليسبس فكر في بيعها يأسا من تحقيق الأرباح المرجوة فبدأت بريطانيا تتدخل بوضوح في السياسة المصرية وتستعدي السلطان العثماني علي خديويها إسماعيل الذي باع أو اضطرته لبيع أسهم مصر في القناة لها, ذلك بعد أن استوعبت بريطانيا أن صاحب السيادة علي القناة, سيعطل مصالحها التجارية والاستعمارية وسيكون العقبة الكؤود في طريقها إلي الهند والشرقين الآسيوي والإفريقي, حتي انتهي الأمر بعزل إسماعيل غير مأسوف عليه من أحد, وليأتي بعده ابنه توفيق, ليؤكد الخديو الجديد بسياسته الأكثر مداهنة, أنه فهم واستوعب بامتياز ذلك الدرس القائل بأن بريطانيا العظمي هي وحدها صاحبة الأمر والنهي في المنطقة, بل وفي العالم بأسره, تلك هي السياسة التي جعلته يتآمر معها أو بأمرها, علي عرابي ومن معه من الضباط في الجيش المصري العدو اللدود لبريطانيا الذي يجب التخلص منه, حتي انتهي الأمر باحتلال مصر عن طريق القناة ولم يستطع دي ليسبس أن يمنع المحتلين الجدد من دخولها تطبيقا لمبدأ حيادية القناة كما هو معروف. وليست هذه اللفتة التاريخية شديدة الإيجاز إلا محاولة للإشارة إلي تربص القوي الدولية التي من الممكن أن تبدل مصالحها وتتلون وتفعل أي شيء في سبيل الحفاظ علي مصالحها, فأعداء الأمس قد يكونون أصدقاء اليوم بل وربما حلفاء الغد إذا اقتضي الأمر. وليس معني ذلك هو التصور الساذج المتمثل في مقولة التاريخ يعيد نفسه فأساليب الهيمنة الدولية في القرن الحادي والعشرين لا يمكن أن تكون هي الأساليب المناسبة للقرن التاسع عشر, فحتي لو سلمنا بأن التاريخ يعيد نفسه, فإن لديه من طرق الخداع ما يوهم بغير ذلك. وليتنا نرهف السمع إلي صوت التاريخ وهو يتحدث عن تاريخ مصر لاسيما في القرن ونصف القرن الماضيين, فتراه لا يكاد يحيد عن ذكر قناة السويس. لمزيد من مقالات محمد شمروخ