د. جمال عبدالجواد لا أتحدث عن حديقة الحيوان، بل أتحدث عن الدول. فالدول في علاقتها بالتنمية تتصرف إما كسلحفاة أو ضفدع أو حصان. فأين نحن من هذه النماذج. تتحرك السلحفاة ببطء، ولكنها تستطيع مواصلة تحركها البطيء لفترات طويلة بلا توقف. قصة السباق بين الأرنب والسلحفاة، والذي فازت به الأخيرة بفضل دأبها، هي قصة شهيرة معروفة. التنمية على طريقة السلحفاة هى النمط الأكثر شيوعا في العالم، فهذا هو النمط السائد في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وأغلب بلاد وسط وجنوب آسيا. في هذا النموذج تحقق الدول نموا اقتصاديا موجبا، يتراوح بين اثنين وأربعة بالمائة. التنمية في هذه البلاد متواصلة، ولكنها لا تكاد تلحق بمعدلات الزيادة السكانية السريعة، وهي في كل الأحوال أبطأ من أن تنتشل البلاد من الفاقة، وأقل من أن تستجيب لتطلعات السكان. هناك دول تنمو بمعدلات عالية، ولفترات طويلة متصلة، بحيث تبدو كما لو كانت حصانا يعدو مسافات طويلة بلا توقف. الصين هي النموذج الأشهر للنمو وفقا لهذا النمط، فقد نما الاقتصاد الصيني بمعدل تجاوز العشرة بالمائة لعقدين من الزمان، قبل أن يتراجع معدل النمو إلى نحو ستة بالمائة، وهو معدل عال جدا بالمعايير العالمية، وإن كان يمثل تباطؤا بالمعايير الصينية. شرع الحصان الصيني في الجري منذ الثمانينيات، ووصل إلى ذروة الانطلاق في العقد الأخير من القرن العشرين، والعقد الأول من هذا القرن. تأثرت تجربة النمو الصينية بخبرات بلاد آسيوية سبقته إلى النمو السريع المتواصل، فهذا هو ما فعلته كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان قبل الصين بعشرين عاما. حققت هذه البلاد إنجازات تنموية متصلة مذهلة، ولكن على نطاق عدد محدود من السكان؛ أما الصين بعدد سكانها الهائل، فقد حولها النمو الاقتصادي السريع إلى قوة عظمى في أقل من ثلاثة عقود. عندما كتب ألفين توفلر كتابه الشهير تحول السلطة عام 1990، فإنه لم يذكر الصين، ولو لمرة واحدة، ضمن حديثه عن عملية تحول السلطة والقوة في العالم. أكاد أجزم بأن توفلر لو تأخر في تأليف هذا الكتاب عشر سنوات فقط لكانت الصين محور الكتاب ومركزه بلا منازع. لم يكن الصين بلدا كبيرا فقط، ولكنه كان بلدا شيوعيا أيضا، وهو في هذا يختلف كثيرا عن النمور الآسيوية الصغيرة التي سبقته في ركوب حصان التنمية. كان في الصين اقتصاد اشتراكي تملك فيه الدولة كل شيء. لم تكن المنشآت الاقتصادية المملوكة للدولة قادرة على النهوض اقتصاديا، بل كان الكثير منها يحقق خسائر، تتحملها الدولة لأغراض اجتماعية وسياسية، رغم أنها لم تكن أكثر من كارثة اقتصادية، تستنزف موارد البلاد، وتبقي الملايين من الصينيين في عداد الفقراء، من أجل الحفاظ على وظائف، يحصل شاغلوها على أجور متواضعة. ظل الحال هكذا حتى جاء الزعيم دينجهسياو بنج، الذي أطلق حرية العمل للقطاع الخاص، وأطلق عبارته الشهيرة التي قال فيها إنه لا يهم إن كان القط أبيض أو أسود، فالمهم هو أن يصطاد الفئران. والمقصود أنه لا يهم ما إذا كانت المنشآت الاقتصادية مملوكة للدولة أو القطاع الخاص، ولكن المهم هو أن تربح وتتوسع وتخلق وظائف حقيقية. خلافا للصين والنمور الآسيوية التي تنمو على طريقة الحصان، هناك بلاد تنمو على طريقة الضفدع، فتقوم بقفزة تنموية كبيرة، يعقبها ركود طويل، في انتظار الوقت المناسب للقفزة التالية. بلدنا مصر هو واحد من البلاد التي تنمو بهذه الطريقة، فقد قفز بلدنا خلال المائتي عام الأخيرة عدة قفزات كبرى، تبع كل منها فترة سبات طويلة، تراجع خلالها الاقتصاد والمجتمع، أو نما بمعدلات متواضعة لا تتناسب مع الزيادة السكانية السريعة وتطلعات البشر المتزايدة. حدثت القفزة التنموية الأولى في عهد محمد علي باشا،الذي جعل من إنشاء جيش كبير حديث محور عملية التنمية والإدارة الاقتصادية؛ فقام بتوفير كل ما يحتاجه الجيش، فبنى المصانع، وزرع القطن وصدره، لتوفير المال اللازم لتمويل النهضة وبناء الجيش، وفتح المدارس، وأرسل البعثات التعليمية لبلاد الغرب، من أجل تكوين طبقة من المتعلمين تقود الجيش والدولة والتنمية. أصاب الركود عجلة التنمية المصرية في المرحلة التالية، كما لو كان الضفدع في استراحة طويلة استعدادا لقفزة تالية. استغرقت الاستراحة نحو عقدين من الزمان، حتى جاء الخديو إسماعيل في 1863، فقفز بالتنمية المصرية إلى الأمام قفزة كبيرة هائلة أخرى، لكنها للأسف اتسمت بعدم الواقعية، فانتهت إلى زيادة نفوذ الأجانب، وصولا للاحتلال البريطاني، لكن بعد أن كان قد تم زرع أسس إضافية للنهضة في التربة المصرية. انتظرت البلاد حتى مجيء القرن العشرين لتعاود القفز من جديد، فتأسست الجامعة المصرية، وازدهرت بعض الصناعات في سنوات الحرب العالمية الأولى، للحلول محل الواردات التي جعلت الحرب وصولها مستحيلا. ثم جاءت ثورة 1919، وتأسس بنك مصر، وأنشئت صناعات وطنية حديثة كبرى،مملوكة للقطاع الخاص لأول مرة. كان عقد العشرينيات من القرن العشرين عقدا رائعا، أعقبه تباطؤ طويل، استمر حتى ثورة يوليو، التي عمقت التصنيع والتحديث، لكن هذه المرة بالعودة إلى نظام ملكية الدولة تحت اسم الاشتراكية. في منتصف الستينيات، ومع انتهاء خطة التنمية الخمسية الأولى، كان المشروع التنموي يفقد زخمه، وتولت حرب يونيو الإجهاز على القفزة التنموية، فأجبرت الضفدع على البقاء ساكنا، في انتظار الوقت المناسب لقفزة جديدة. ما تشهده مصر الآن من تنمية وتعمير على نطاق غير مسبوق هو قفزة تنموية جديدة، ستترك آثارا عميقة على اقتصاد البلاد ونسيجها الاجتماعي، بالضبط كما فعلت القفزات التنموية السابقة. كلما طال أمد هذه القفزة فستكون آثارها أكثر عمقا على حاضر ومستقبل البلاد. أما التحدي الأكبر فيتمثل في تحويل قفزات الضفدع المتقطعة إلى حصان ينطلق بشكل متواصل.وحتى يحدث هذا فعلينا إطالة وتعميق القفزة التنموية الراهنة بقدر ما نستطيع.