مع بدايات العصر الحديث أخذت النظرة إلى العالم تتغير، ابتعادا عن الرؤى الدينية والميتافيزيقية نحو الرؤية العقلانية، وهو أمر حدث تدريجيا وببطء حتى إن القائمين به لم يكونوا واعين لحدوده، فلم تتضح حقيقته كاملة إلا بعد زمن طويل تراكمت خلاله التغيرات الصغرى وتضافرت فى صنع الطفرة الكبرى التى استحقت وصف (الحداثة)، عبورا على عصور الكشوف الجغرافية والنهضة والإصلاح الدينى والثورة الصناعية والتنوير. لقد كان المستكشفون الأوائل والعلماء الأوائل والمفكرون الأوائل الذين شقوا الطريق إلى الروح الحديثة، يعتقدون، وهم يمارسون نشاطاتهم أنهم يبحثون فقط عن طرائق جديدة أكثر فعالية للتدين وليس لنقض الدين، بل إن بعضهم اعتبروا اللحظات الحاسمة التى شهدت اكتشافاتهم الجغرافية أو العلمية وليدة العناية الإلهية. فمثلا، كان مفهوم الله حاضرا، وخدمة المسيح ورسالة الصليب قائمة فى مركز تفكير الرحالة الأوروبيين خصوصا الإسبان والبرتغاليين، الذين قادوا حركة الكشوف الجغرافية، رغم أنهم كانوا يؤسسون فعليا للنظام الرأسمالى الذى سيولد بعد قليل. لقد بدأ البرتغاليون رحلتهم للدوران حول رأس الرجاء الصالح، باسم الصليب، وردا على العرب المسلمين الذين اجتاحوا أوروبا سلفا عبر حركة الفتوح باسم حركة الفتوح الإسلامية، فاستقروا فى الأندلس، واحتلوا صقلية وكريت زمنا، وحاصروا معظم شواطئ أوروبا الجنوبية، وسيطروا على حركة التجارة فى البحر المتوسط. ما يعنى أن البرتغاليين نظروا إلى أنفسهم وكأنهم أصحاب حملة صليبية جديدة، رغم النزعة التوسعية والطموح الاقتصادى الكامن خلف حركتهم. أما الذين اكتشفوا العالم الجديد فى الأمريكتين، فكانوا يشعرون داخلهم بأنهم يفتحون باسم الرب، وينشرون رسالة المسيح بين شعوب همجية لا تعرف الحضارة التى هي، فى اعتقادهم، مسيحية بالضرورة. وعلى المنوال نفسه نسج عالم الفلك البولندى كوبرنيكوس مطلع القرن السادس عشر، فكان يعتقد أن علمه (إلهيا) أكثر منه (إنسانيا) عندما أعلن فرضيته الثورية عن مركزية الشمس بديلا عن النظرية السائدة عن مركزية الأرض، والتى تعنى أن الأرض ليست مركز الكون، بل إنها تدور مثل الكواكب الأخرى حول الشمس، وأن تصورنا عن حركة الأجرام السماوية ليس إلا نتيجة لدوران الأرض فى الاتجاه المعاكس. لقد وافق بابا الفاتيكان على تلك الفرضية عندما عرضت عليه، ولم يجد المصلح البروتستانتى جون كالفن ما يعيبها. وعندما تمكن عالم الفيزياء الألمانى يوهانز كبلر مطلع القرن السابع عشر من توفير الأدلة الحسابية على صحتها كان يشعر بنوع من (الجنون الإلهي) يتملكه وهو يكشف عن أسرار لم يسبق لأحد الاطلاع عليها. أما الفلكى جاليلي، الذى تمكن من اختبار تلك الفرضية تجريبيا عن طريق رصد الكواكب بالتليسكوب، فكان مقتنعا بأن بحوثه مستلهمة من رضا الرب ورحمته. أى أنهم كانوا يرون عقلانيتهم العلمية (الحديثة) متسقة جوهريا مع الرؤية الدينية، رغم أن تلك النظرية بالذات ستصبح ضربة قاصمة لرؤية الوجود المستقرة فى أذهان العالم التقليدي، الذى صاغته الأساطير ثم الأديان والفلسفات التأملية أو الميتافيزيقية. وعندما اكتشف نيوتن قوانين الجاذبية الأرضية، وقوانين الحركة، التى صاغت الفيزياء الحديثة، اعتبر ذلك دليلا على وجود الله، فمادام الكون الكبير بهذه الدقة وذلك الانتظام، فهو من خلق كائن أسمى صنعه بدقة تضاهى دقة صانع الساعات السويسرى. وكان الأمر لديه بسيطا جدا: فمادامت دقة الساعة تدل على الصانع، فإن دقة الكون تدل على الخالق، بل إنه اعتبر كشفه العلمى نتاج عناية إلهية، ألهمته تأملاته التى تلت ملاحظته العابرة لسقوط ثمرة التفاح. وفى الفلسفة سار الأمر على المنوال نفسه، ففى مفتتح العصر الحديث كان ديكارت، الفيلسوف والقسيس معا، يؤسس للعقلانية المثالية، ويدعى قدرته على تقديم البرهان على وجود الله بنفس قدرته على تقديم البرهان الخاص بتساوى طرفى معادلة رياضية، يفترض أنهما متعادلان يقينا. وهو ادعاء تأسس على الفيزياء الكلاسيكية السابقة على نيوتن، وعلى قاعدة المنطق الأرسطى القائل بوحدة الحقيقة، والقائم على مبدأ عدم التناقض، فالصدق أبدى، وكذلك الكذب، والصحيح أبدى وكذلك الخطأ، وكل طرف من طرفى هذه الثنائية هو خبر عن حقيقة أبدية لا تتغير. والجدير بالذكر أن الكوجيتو الديكارتي، أى مبدأ الذات الواعية الذى دشن الفكر الحديث برمته، هو نفسه النقطة التى انطلق منها ديكارت لإثبات وجود الإله، ودليله على ذلك أن الإنسان مادام لديه فكرة عن كائن مثالي، كامل ومطلق، فلابد من أن هذا الكائن موجود وذلك لأن العدم نقص وغير الموجود لا يُعد كاملا، والله بحكم التعريف كامل ولا يمكن أن يكون ناقصا، فهو إذن موجود. لقد قدم ديكارت المنهج الشكى للفلسفة الحديثة نعم، ولكن شكه كان تكتيكيا يهدف إلى بلوغ اليقين، لدى رجل بدأ حياته قسا أو راهبا، واتخذ العقل وسيلة لترسيخ الإيمان، وليس شكا وجوديا كالذى سوف نطالعه بعد ذلك، فى مراحل متقدمة من صيرورة الحداثة. لقد مارس هؤلاء جميعا تأملاتهم الجديدة على حافة التماس بين الروحانية والعقلانية، أعملوا العقل ولكن كمؤمنين، فلم يكن التناقض قد اتضح تماما بين المنطقين، ولكن بذور الشك العقلانى والتفكير المادى كانت قد أُلقيت، ليتكفل الزمن بإنباتها كى تزهر وتُثمر بعد ذلك. لقد رحل المحدثون الأوائل من دون إدراك لعمق التغيير الذى أحدثوه فى رؤية الناس للوجود: الطبيعة والتاريخ والإنسان، لأن ما قدموه كان مجرد بداية فى صيرورة طويلة لم يكونوا قادرين على استشرافها كلية، ولم يكن كل جزء فيها، أو لحظة فى مسارها، كافيا وحده لإشعارهم بما حققوه جميعا، فالذين ألقوا بذور الروح الحديثة ليسوا هم الذين أعلنوا انتصارها أو تلقفوا ثمارها، فما بين هؤلاء وأولئك تواصلت جهود أجيال، وأريقت دماء رجال على مذبحى العقل والحرية، قبل أن يبدأ العالم فى التغير، والمخترعات تتكاثر، والروح التجريبية تزدهر، والمجتمعات تتخلى عن روابطها القديمة لتصنع أخرى جديدة.