لزمن طويل استغرق معظم العصر الحديث، دار السؤال الفلسفى حول المعرفة، حدودها ومصادرها: أهو النقل فقط، حيث إلهامات الكتب المقدسة والنصوص التراثية هى نقطة الانطلاق الأساسية، ومبدأ الحركة العلمية؟ وهنا كان اشتغال النقد الرفيع للكتاب المقدس فى سياق الفكر الغربى، لنحو القرنين على طريق الإجابة بالسلب. أم هو العقل وما ينطوى عليه من مبادئ عامة كلية أو فطرية؟. وإذا ما كان العقل هو المصدر الأساسي للمعرفة بحسب فلسفات الحداثة، فقد تجدد السؤال حول قدرته على المعرفة، وهل هى مطلقة أم نسبية؟.. هل تنبع العملية المعرفية منه وتصب فيه، فيكون هو المبدأ والغاية، البداية والنهاية، وتدور المعرفة حول قوانينه المنطقية، ومبادئه الكلية ومن ثم نصبح أمام (عقلانية مثالية) لا تكترث بالواقع التجريبى كما كان الأمر فى مفتتح الفكر الحديث، لدى ديكارت الذى تورط فى الادعاء بقدرته على تقديم البرهان على وجود الله بنفس قدرته على تقديم البرهان الخاص بتساوى طرفى معادلة رياضية، يفترض أنهما متعادلان يقينا، وهو ادعاء تأسس على الفيزياء الكلاسيكية السابقة على نيوتن، وعلى قاعدة المنطق الأرسطى القائل بوحدة الحقيقة، والقائم على مبدأ عدم التناقض، فالصدق أبدى، وكذلك الكذب، والصحيح أبدى وكذلك الخطأ، فكل طرف من طرفى هذه الثنائية هو خبر عن حقيقة أبدية لا تتغير؟. أم أنها تنبع من الحواس، ولا تنعكس على العقل إلا فى شكل مباشر وكأنه سطح أملس، لا يملك تصوراته الخاصة ولا مبادئه الكلية، فنصبح أمام عقلانية مادية (وضعية متطرفة) لا تعترف إلا بما تلتقطه الحواس مباشرة من ماهيات وأشياء، ولا تثمن سوى الاستقراء التجريبى المباشر، بينما تدير ظهرها لكل المقولات والمبادئ التى تعلو على عالم الأشياء، ولا تتجسد فى أشكال واقعية، ما يعنى تجاهل مبادئ العقل الكلية نفسها. أم أنها تنبع من الحواس الإنسانية، وتصل إلى العقل فى صورة حدوث، أى تصورات نظرية عن أشياء واقعية، يعمل فيها العقل قوانينه ومبادئه، وصولا للاستدلالات الكلية والنظريات المعرفية، فنكون أمام عقلانية (نقدية)، تتوسط المثالية من ناحية، والمادية من ناحية أخرى، تعول على الاستدل المنطقي، والإستقراء التجريبى معا، وتوفق بين منطق العقل ومنطق الروح؟. وهنا تبرز أهمية الفلسفة النقدية، ومؤسسها العظيم كانط، الذى أكد ضرورة فحص (العقل الإنسانى) نفسه باعتباره الأداة التى يقوم الإنسان من خلالها بتحصيل المعرفة، للتأكد من كونه صالحا لمهمته أم لا؟. فالأداة إذا لم تكن صالحة للقيام بدورها، فإن مجهودنا كله سوف يضيع أدراج الرياح. وهنا تعين على العقل الإنسانى أن يرتد إلى نفسه، كى يفحصها قبل أن يتورط فى فحص العالم. وهنا توصل كانط إلى فهمه النقدى المؤسس، وهو أن العقل الإنسانى قادر على المعرفة، وصالح للنهوض بمسئوليتها، ولكن صلاحيته غير مطلقة، وقدرته ليست كاملة، بل محصورة فى نطاق عالم الظواهر والوقائع، فإذا ما تجاوز هذا العالم إلى ما فوقه، والطبيعة إلى ما بعدها، حيث قضايا الألوهية، والخلود، والحرية، فإنه يتناقض مع قدراته، ويطوح بنفسه فى بحر الظلمات، وكهوف الشك، فما عاد قادرا على بلوغ الحقيقة ناهيك عن اليقين الذي يبرر الإيمان. عبر النزعة النقدية هذه قدم كانط للفكر الغربى أكثر الخدمات أهمية، فقبله كان الإيمان يحتاج إلى تدليل عقلى على وجود الكائن المستحق للإيمان. وطالما لم يكن ممكنا إثبات هذه الحقيقة تجريبيا كان الطريق مفتوحا للشك، معبدا للإلحاد أو اللا أدرية، وكان الاتهام بالتناقض يبدو واضحا أو مبررا بين أن تكون مؤمنا، وأن تكون عقلانيا؛ ذلك أن الادعاء الديكارتى بإمكانية البرهنة على وجود الله، كان مثاليا تماما، سابقا على التجريبية الحديثة المصاحبة لفيزياء نيوتن، وكذلك على منطق هيجل الجدلى القائم على صراع المتناقضات، والمؤكد لنسبية الحقيقة وتاريخيتها، ولنتخيل حجم الشكوك التى كان ممكنا إثارتها فى مواجهة ادعاء ديكارت خلال القرون التالية على رحيله لو لم يقدم كانط تأسيسه الجديد للعلاقة بين العقل والإيمان، عندما تمكن من قلبها رأسا على عقب، مطالبا الملحد بإثبات عدم وجود الله، بدلا من مطالبة المؤمن بإثبات وجوده، منتصرا فى النهاية لفكرة أن الحقيقة الإلهية، لفرط تساميها وليس لفرط ذبولها، غير قابلة سواء للإثبات أو للنفى التجريبيين، فهى حقيقة فوق العقل وليست ضده، لا يمكن فحصها تجريبيا وتوثيقها تحليليا على المنوال الذى يقوم به العقل إزاء الطبيعة وقوانينها، والمجتمع وسننه، بل يمكن بلوغها بالوعى الشامل والحدس الكلى، بما فيه من عقل يعقل، وضمير يهجس، وحدوس تكشف، وهنا صار ممكنا للعالم أن يكون مؤمنا إذا هداه ضميره وألهمته حدوسه، أو أن يكون عالما ملحدا إذا ما غام ضميره وانقطعت حدوسه، وهنا، انحل التناقض الذى تصورته الفلسفة الحديثة مزمنا أو حتميا بين العقل والإيمان، وتجاوز الفكر الغربى مأزقه التاريخى، ولوجا إلى مرحلة أعلى فى نضوجه وتطوره لا تزال تحكمه، فى العموم، حتى الآن. اليوم، بعد قرنين تقريبا من التأسيس الكانطى الخلاق للعلاقة بين العقل والإيمان، لا نزال نجد فى ثقافتنا العربية من يقصى الإيمان الروحى باسم العقلانية، وكأن العقلانية لا تتجسد سوى فى تلك الوضعية المتطرفة المتنكرة لكل ما هو مثالى وروحى ومتسامى. وكذلك من يقصى العقل باسم الإيمان، كأن الإيمان لا يتحقق إلا بالاستغراق فى النزعات الغيبية، والاندماج فى الدروشات الصوفية، والخضوع المطلق لسلطة النصوص التراثية، حيث يكاد أئمة المذاهب الكبرى، ومن يلونهم فى ترتيب المذهب، أن يحتلوا موقع الله والعقل معا، فيصيروا مصدرا للمعرفة وأوصياء على الإيمان، ومن ثم عقبة كأداء على طريق تطورنا الحضارى. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم