طالما انشغلت فلسفات التنوير بترقية الوضع الإنسانى ليحتل موقع المركز فى عالمه، باعتباره كائنا عاقلا ومريدا، وذلك عبر تحريره من قبضة قيدين أساسيين: أولهما هو المدركات الخرافية التى تعطل مسعاه فى طلب معرفة موضوعية عن العالم والطبيعة والتاريخ حيث سادت الأساطير الخرافية والتقاليد البالية والمعتقدات الموروثة، ووضعت على العقل حجبا كثيفة طالما أعاقته عن الاشتغال المنهجى. وثانيهما هو قوى الهيمنة، المنبثقة من خارج ذاته هو، من قبيل الكهانة الدينية والوصاية السياسية والتقاليد المجتمعية/ القبلية، والتى كادت أن تفتك باستقلاله الشخصى. وعلى عكس التنوير الفرنسى/ اليعقوبى، والتيار الملحد فى التنوير الألمانى، اللذان ارتأيا ضرورة نفى الاعتقاد الدينى كضرورة لغرس التنوير العقلى، فالإنسان لا يرتقى إلا على حساب الله نفيا أو تهميشا، جسدت النزعة المثالية، ثم النقدية، فى الفلسفة الألمانية ذاتها، تيارا روحيا لم يرى تلك الضرورة، بل اعتبر الكمال الإلهى مدخلا للترقى الإنسانى، وهو التيار الذى صاغته دفقات أربعة أساسية: الدفقة الأولى أتت فى ركاب جوتولد ليسنج، الذى أكد على دور التطور التاريخى فى نمو الإعتقاد التوحيدى. فبينما توظف النزعة المادية مسألة وجود تصورات مختلفة عن الله بين الأديان والثقافات فى نفى حقيقته، إذ طالما أن الله مطلق بالتعريف، والمطلق لا يتعدد، تصبح جميع صوره باطلة، رأى ليسنج فى ذلك التعدد أمرا إيجابيا يعكس محاولات الإنسان المتوالية لصوغ تصورات أرقى عن الله، أكثر ملاءمة للحظة المعاشة عبر كل العصور. ففى كتابه «تربية الجنس البشري» نظر ليسنج إلى الدين كوحي، ولكن أيضا،ككشف متقدم، يزداد العقل تفهماً له به بمرور الزمان كما يزداد الفرد معرفة بتدرجه فى مراحل التعليم، التى تصورها ثلاثا أساسية. فى المرحلة الأولي، الطفولة، ارتفع اليهود إلى تصور وحدانية الله ولكنهم قصروه على أنفسهم ك «شعب مختار»، كما مالوا إلى المعانى الحسية للعقاب والثواب، ولم يؤمنوا بحياة أخروية. ولأن هذه المبادئ لا تناسب غير سن معينة، فقد تهيأ الجنس البشرى لاستقبال مرحلة الصبا/ المسيحية التى دعت إلى إله عالمى وأخوة بشرية، وإلى نقاء الإنسان من الداخل كشرط لخلوده الأخروى وخلاصه النهائي. وفى المرحلة الثالثة بلغت البشرية حد النضج، فأخذت تدرك عقلانياً ما كانت تتقبله كوحى (يصمت ليسنج عن الاسلام حينا ويذكره حينا آخر، ولكنه لا يعتبره مرحلة ثالثة نهائية فى الدين الإبراهيمى). وهنا نلاحظ مدى إيمان لسنج بالعناية الإلهية، حيث تخضع حركة التاريخ لتوجيه الله من البداية إلى النهاية. ولما كان من العسير تحقيق كل شيء دفعة واحدة، حيث تنمو قدرات الإنسان بنظام يبعد عن العشوائية، فقد راعى الله فى وحيه إتباع نسق معين ومتدرج فى رسالته الواحدة إلى البشر، وهكذا لم يعد مسار الألوهية معاكسا لمسار العقلانية، بل يبدو المساران متحدان فى علاقة طردية، بحيث تنمو تصوراتنا عن الله كلما ارتقى عقلنا البشرى. أما الدفقة الثانية فكانت لإيمانويل كانط الذى تجاوز البحث الأنطولوجى عن الله إلى محاولة الفحص الابستيمولوجى للعقل الإنسانى، تمحيصا لقدرته على تحصيل المعرفة، نافيا قدرته على إدراك ما فوق العالم الطبيعى، حسبما كان ديكارت «المثالى» قد ادعى عندما أكد إمكانية البرهنة على وجود الله بنفس القدرة على تقديم البرهان الخاص بتساوى طرفى معادلة رياضية. ولنتخيل حجم الشكوك التى أثارها هذا الادعاء، فطالما وضعنا الإيمان رهن التدليل العقلى، وطالما كان إثبات الحقيقة الإلهية تجريبيا غير ممكن، فثمة طريق مفتوح على اللا أدرية والإلحاد، وتناقض منطقى بين أن تكون مؤمنا وعقلانيا فى الوقت نفسه. أما كانط فتسامى بالحقيقة الإلهية على الإثبات والنفى التجريبيين، باعتبارها فوق العقل وليست ضده، ومن ثم لا يمكن فحصها تجريبيا كشفا لقوانينها،كالحقيقة الطبيعية، بل يمكن بلوغها بالوعى الإنسانى الشامل، بما فيه من عقل يعقل، وضمير يهجس، وحدوس تكشف، وهنا صار ممكنا للإنسان أن يكون عقلانيا مؤمنا إذا هداه ضميره وألهمته حدوسه، أو عقلانيا ملحدا إذا ما غام ضميره وانقطعت حدوسه، فانحل بذلك التناقض الذى تصورته الفلسفات المادية حتميا بين روح الكتاب المقدس ومنطق العلم الحديث، ولم يعد الدين فى موضع الدفاع السلبى عن ذاته أمام كل كشف علمى، فما كان يعد صراعا بين خطابين متناقضين حول الحقيقة يفترض حسمه لصالح أى منهما، أصبح مجرد اختلاف بين خطابين، كلاهما يمس الحقيقة فى أحد مستوياتها، وما رآه البعض خرافات دينية، صار لدى كانط محض بلاغيات إعجازية تسعى إلى تبليغ العقل العام (روحيا) بالمكون الفلسفى فى الإعتقاد الدينى. وأما الدفقة الثالثة فأتت من هيجل الذى قدم إضافة عميقة إلى ليسنج، فالنزعة الارتقائية فى إدراك المقدس لم تعد عبورا خارجيا من شريعة إلى أخرى، بل تحولت إلى نزعة باطنية داخلية، حيث استبدل هيجل المراحل الثلاث لدى ليسنج ب «مسالك ثلاثة» نحو الحقيقة الكلية (الفن والدين والفلسفة)، ولم يعد الأمر خطة إلهية لتعليم الجنس البشري، بل صار نزوعا إنسانيا جوانيا لإدراك (الروح المطلق)، فالإنسان لدى هيجل يعيش داخل التاريخ فى عملية كشف متوالية حيث يكتمل إدراكه للروح المطلق/ الإلهى، مع تمام إدراكه لجوهره، وإعماله الكامل لكل ملكاته التى تتصاعد من مجرد التلقى الانطباعى فى الفن إلى التلقى النقلى فى الدين إلى النقد التأملى فى الفلسفة، حيث تتكامل مستويات التلقى الثلاث فى الكشف عن الحقيقة المطلقة بوصفها حقيقة شاملة، باطنية وعقلية وغيبية فى آن، لا يمكن فقط الكشف عنها، بل والعيش بداخلها. وأما الدفقة الرابعة فأتت من عالم الإجتماع ماكس فيبر فى أطروحته الكلاسيكية «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» والتى أعادت، مطلع القرن العشرين، صياغة العلاقة بين المسيحية التقليدية، غير المنشغلة بالحياة العملية، وبين الحداثة الأوروبية بالغة الدنيوية، من خلال إعادة شحن وتوظيف مفهوم الطهرانية لدى المصلح جون كالفن، بهدف دمج عقلية الربح والفائدة، كخاصيات أساسية للرأسمالية الحديثة، فى قلب الوعى المسيحي، حيث تعين على المؤمن المخلص الاستفادة من الفرصة المتاحة له إذا ما أراه الله طريقا يستطيع الحصول منه على ربح أكثر مما يحصل عليه من طريق آخر دون أن يظلم روحا أخري، فإذا رفض ذلك يكون قد تنكر لدوره كخليفة لله، ومن ثم صار النجاح فى الحياة والقدرة على مراكمة الربح، دليلان على رضى الله لا العكس، الأمر الذى منح المسيحية ديناميكية تاريخية كبيرة لتتساوق مع روح الحداثة والتنوير بدلا من معاندتهما. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم